محمد تركي الربيعومراجعات كتب

الأمريكية مريام كوك في قراءة جديدة لمذكرات المصرية زينب الغزالي/ محمد تركي الربيعو

 

 

الجهاد والحرب والنسوية والأصولية الإسلامية

في كتابها «النسوية والأصولية الإسلامية: حدود تحليل ما بعد الحداثة»، ترى الباحثة والأكاديمية الإيرانية هايدا مغيثي (جامعة يورك/كندا)، أن القرآن يرفض فكرة المساواة بين الجنسين رفضا باتا، وأن الشريعة لا تتواءم مع مبادئ المساواة بين الناس. وعلى الرغم من شيوع فكرة النسوية الإسلامية في العالم الإسلامي، فإن هايدا مغيثي تؤكد على أن هذه الفكرة لا تمثل أيديولوجية أو حركة «مترابطة واضحة المعالم».

أما من يتبنينها بوصفها مفهوما فعالا ومحددا، فإنهن يرتبطن بنوع معين من النساء غير قادمات من المجتمعات الإسلامية، بل «نساء أكاديميات وباحثات من المهجر بخلفيات إسلامية يعشن ويعملن في الغرب». وهي تصف هؤلاء النساء لاحقا بأنهن «إلى حد كبير نساء غربيات بعد حداثيات شديدات التسامح ويؤمن بالمذهب النسبي». وهي تخشى أن يكون الاحتفاء بالنسوية الإسلامية هادفا إلى «التأكيد على شكل واحد من أشكال الهوية المتاحة أمام النساء في الشرق الأوسط، وأن يغطي على أشكال متعددة من الصراع فيما وراء الممارسات الدينية، وإسكات الأصوات العلمانية التي تهاجم سياسات التأسلم الصارمة السائدة في المجتمع». ولذلك ترى مغيثي أن النسوية أيديولوجيا علمانية، وأن الإسلام اليوم ينطلق من أيديولوجيا متشددة، وهؤلاء اللاتي يشجعن قيام المشاريع النسوية داخل أطر إسلامية قد يئسوا من دون شك من الخيارات العلمانية المطروحة من أجل التغيير، من دون الأخذ في الاعتبار أن افعالهن «تصحح وتضفي شرعية على الديكتاتورية السياسية – الدينية».

وردا على هذا الطرح، ترى الأكاديمية الأمريكية ميريام كوك (أستاذة دراسات العالم العربي/جامعة ديوك ـ أمريكا) في كتابها المترجم حديثا للعربية «النساء يطالبن بإرث الإسلام»، المركز القومي للترجمة، ترجمة: رندة أبو بكر، أن الإشكالية التي تطرحها كل من مغيثي وأخريات ممن يشككن في صلاحية النسوية الإسلامية فكريا وسياسيا، أنها تساهم في خلق ثنائية وهمية بين أيديولوجيتين نقيضتين موضوعتين الواحدة مقابل الأخرى: الأولى علمانية، والثانية «متشددة» ومعادية للنساء (الإسلام).

وبدلا من ذلك، تقترح كوك النظر إلى النسوية الإسلامية بوصفها هوية غير متماسكة، بل هي عملية إستراتيجية تعتمد على السياق والضرورة، وهي فعل يؤكد على فكرة الانتماء في مجتمع متدين، ولكنه يسمح في الوقت نفسه بالعمل من أجل نساء أخريات ومعهن. ويمكن لهذا الفعل الذي يبدو من بعيد وكأنه يحاول الربط بين هويتين نقيضتين أن يصبح فعلا تقدميا ثوريا.

ولتوضيح فكرتها حول النسوية الإسلامية، تقترح علينا كوك إعادة قراءة كتاب «أيام من حياتي»، وهو الكتاب الشهير الذي ألفته الزعيمة الإسلامية زينب الغزالي عن تجربتها في السجن، والذي باعتقادها يعد تعبيرا متماسكا عن ذات مسيسة وعلاقتها بمجتمع تسعى إلى تغييره، مثله في ذلك مثل كل السير الذاتية التي كتبتها النساء، وبالأخص مذكرات المسجونات – مثل كتاب نوال السعداوي «مذكراتي في سجن النساء» (1983). وبينما أودعت الأخيرة في سجن القناطر منذ البداية، فقد قضت زينب الغزالي عاما في السجن الحربي مع رجال من أمثال القائد والمنظر الديني سيد قطب، وآلاف آخرين من جماعة الإخوان المسلمين. وهكذا يصبح بمقدور الغزالي منذ البداية مقارنة نفسها بهؤلاء الرجال ومساواة نفسها بهم، بل واحتلال مكانة أرفع منهم.

الصمود وسط الجحيم:

ترى كوك أن مفهوم الجهاد في مذكرات الغزالي لا يقتصر على الرجال، بل هو نشاط يضم الرجال والنساء معا. إن بطلات حكاية زينب الغزالي هن المحاربات مثل، ليلى بنت طريف التي تنتمي إلى الخوارج الذين افناهم القتال مع المجتمع الإسلامي الأشمل، وهي المرأة التي أثرت فيها في مرحلة الشباب، ونسيبة بنت كعب المازنية التي حاربت مع النبي في غزوة أحد، بالإضافة إلى صحابيات النبي. كما أن تحول النساء إلى مجاهدات بحسب الغزالي يستتبع صياغة قواعد جديدة للسلوك، غالبا ما تتعارض لدى الرجال مع قواعد السلوك في أوقات السلم «وعلى المرأة المسلمة المثالية أن تتبين أولوياتها بعون من الله: هل عليها أن تبقى في المطبخ أم أن تخرج إلى ساحة المعركة؟ لن ينتاب المؤمنة الحقة أي حيرة، فليس أهم من إقامة الدولة الإسلامية».

يمر كتاب «أيام من حياتي» مرورا سريعا على السنوات الأولى من حياة زينب الغزالي، ثم يولي عناية خاصة للسنة الأولى التي قضتها في السجن الحربي، حيث يمن الله على الغزالي بثلاث رؤى على مدار رحلتها. ترى نفسها في رؤيتها الأولى، التي تجيئها في الأيام الاولى من حبسها في السجن الحربي، وهي تقف خلف رجل ضخم في ذيل قافلة في الصحراء، ثم يتضح أن ذلك الرجل هو النبي محمد (ص). ولما سألته خمس مرات إن كان هو محمد حقا، مبتدئة سؤالها بأسلوب النداء الصوفي «يا حبيبي»، كان يجيبها كل مرة أنه محمد وأنها على طريق الحق. وقد جاء استخدام النبي لكلمة «غزال»، وهو رمز للحبيبة، ليزيد دهشة زينب إزاء مناداته لها باسمها المذكور في وثيقة ميلادها والذي لا يعرفه الكثير: «غزالي» وليس بالاسم الاكثر شهرة «الغزالي» وهو أمر يؤكد على أهمية مناداة النبي لها بهذا الاسم.

في الرؤية الثانية تجد نفسها عند قمة الجبل أمام رقعة من الأرض عليها بسط وأرائك، وتجد هناك حسن الهضيبي. تبلغه الكاتبة السلام على النبي ثم لا تلبث أن ترى قطارا يمر عند سفح الجبل، وبداخله امرأتان عاريتان. تلفت انتباه الهضيبي إلى هاتين المرأتين، ولدهشتها، يرد الهضيبي محتجا على انشغالها بهاتين المرأتين اللتين تختلف عنهما تماما. ترد زينب بشكل عنيف أن واجبنا أن «نقاوم حتى نقومهما». تظهر زينب الغزالي هنا – بحسب كوك- على قمة الجبل في صورة ند للمرشد، وكأنها تتمتع بوعي أعلى من الهضيبي بفضل معاناتها وبفضل التجارب التي مرت بها في السجن. وهي تعرف أن ما من أحد لا يصلح للهداية مهما يبدي من الشر، كما تعلم أن الدعوة تتطلب أن يستمر النضال حتى ينصلح العالم وتتأسس الدولة الإسلامية على الأرض. وتضع الكاتبة نفسها مرة أخرى وسط زمرة من النساء في آخر رؤية رأت فيها النبي، وهن في هذه المرة عائشة وصاحباتها. يجلس النبي محمد (ص) مع الهضيبي ويطلب من عائشة التحلي بالصبر فتشد بدورها على يد زينب وتطلب منها كذلك أن تتحلى بالصبر.

ووفقا لكوك، بينما قدمت النساء في الحياة وفي الرؤى الكثير من التشجيع للغزالي، فإن الرجال أتاحوا لها الفرصة لإجراء الكثير من المقارنات، حيث تتبخر أي شكوك في أنها بوصفها امرأة تعامل معاملة أكثر لينا من معاملة الرجال في السجن، أمام تذكرها لمشاهدة مفعمة بالعنف الشديد الذي أنزله السجانون على جسدها، إذ تتواصل معاناتها بتواصل رفضها الإذعان، حتى أن جمال عبد الناصر،»إله الجحيم»، يتحدث عن عذابها الموجع بعبارات تغلفها الطبعة الجندرية، لافتا إلى أنه «فوق تعذيب الرجال». ويخبرها معذبوها باستمرار أن شركاءها من رجال الإخوان المسلمين قد اعترفوا بأفعالهم وأفعالها، وعندما يساق شباب الإخوان إليها ليعترفوا بعلاقتهم بها، يقرون بأنهم سوف يقولون أي شيء تحت وقع التعذيب بالسياط، بينما تعلن هي أنها لا تلوم هؤلاء الشباب، مؤكدة أن الانكسار تحت التعذيب من طبائع البشر، ولكنها لا تنكسر أبدا، على الرغم من أن جلاديها أعتى الجلادين. كما تدين الكاتبة، من دون الكثير من التسامح والرفق اللذين نشهدهما في مواقع أخرى، كل أصناف الرجال الذين يشغلون مناصب رسمية ويحاولون استخدام سلطاتهم في السيطرة على من هم دونهم وإذلالهم والتنكيل بهم. كما تدين أزواج الأخوات الذين تركوهن بعد إلقاء القبض عليهن.

النسوية واللغة:

وبناء على السرد السابق، تتساءل كوك، حول ما إذا كانت الحياة التي كتبت عنها الغزالي تتطابق مع معايير الأنوثة في الإسلام؟ هل نعدها امرأة مثالية بعد أن نراها تسيطر على زوجها (الثاني)، وتتجنب دور الأمومة، وتقذف بنفسها في خضم السلطة والسياسة الدنيويين، بعدما نراها تحث المسلمات على الالتزام ببيوتهن؟

وبرأيها، لقد كتبت زينب الغزالي عن صراع امرأة في سبيل الحرية والفعالية، مثلها في ذلك مثل كاتبات عربيات كثيرات، في الوقت الذي حاولت فيه المحافظة على التوازن بين التزاماتها الأيديولوجية وما يبدو لنا في صورة بدائل سلوكية. حيث تعلن الغزالي عن ضرورة الزواج للنساء، وأن يطعن أزواجهن، وأن ينجبن الأطفال، ولكنها طلقت زوجها الاول بسبب تدخله في عملها الديني، ووافقت على الزواج مرة أخرى شريطة أن يعي زوجها الثاني، الذي كان يكبرها بكثير ومتزوجا من امرأة اخرى وبالتالي قليل المطالب، أن الدعوة تأتي قبل الزواج. وقد قالت لزوجها الثاني قبل أن تقبل الزواج منه: «لكنني على بيعة مع حسن البنا على الموت في سبيل الله… وكنت قد قررت أن ألغى أمر الزواج من حياتي، وانقطع للدعوة انقطاعا كليا، وأنا لا أستطيع أن أطلب منك اليوم أن تشاركني هذا الجهاد».

تبدو الغزالي ـ بحسب كوك- وكأنها تقول إنها كانت ترغب في طاعته ولكن عليها أن تطيع الله أولا، ولا يعد سلوكها هذا الأول من نوعه، إذ يذكرنا بمسلك سكينة إحدى حفيدات النبي التي تزوجت خمس مرات، من دون أن تعطي أحدا من أزواجها وعدا بالطاعة. تستشهد هنا كوك بكلام الراحلة فاطمة المرنيسي، أن سكينة كانت تشترط في عقود زواجها «ألا تطيع زوجها، وأنها ستفعل ما يحلو لها، وأنها لا توافق على أن لزوجها حق الزواج بأخريات في الوقت نفسه». أما نموذج المرأة الملتزمة بالبيت – وهو النموذج الذي يمارس بحسبه الرجال سلطاتهم على أقاربهم من النساء- فسوف تفكر فيه عندما تتأسس الدولة الإسلامية. وحتى يتحقق ذلك على النساء والرجال أن يشنوا الجهاد الذي تفوق أهميته كل أوامر الدين الأخرى. ولهذا يمكن أن يعمل المسلمون في إطار قوانين الحرب بتعديل أنماط السلوك الاجتماعي والجندري المتعارف عليها من أجل الوصول إلى المجتمع المثالي الذي يعقب بناءه الحرب.

وبناء على الربط الأخير بين الجهاد وتعديل الواقع الجندري، ترى كوك أن زينب الغزالي استطاعت من خلال تطويعها وتأويلها لمفهوم الحرب الرمزية (مخيال الدولة الإسلامية)، أن تؤسس لرؤية نسوية إسلامية جديدة. لقد قادت حملات من أجل النساء والأمة، متبنية لغة إسلامية، بينما قادت نساء اخريات في الوقت نفسه حملاتهن من أجل حقوق النساء وحقوق الإنسان متبنين لغة علمانية وديمقراطية. وفي الوقت الذي تؤكد أهداف هؤلاء النساء وأفعالهن بصفة دائمة على تفوق الغرب، فقد التزمت زينب الغزالي باقتفاء النسوية في اطار أصيل. لقد كانت عازمة على التوصل إلى النسوية من داخل الإسلام، وعبر استخدامات إيجابية للغة وللرموز التي هدفت إلى احتواء النساء في العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي يتوافق ويؤكد ما توصلت اليه الباحثة الدنماركية فيلهيملينا يانسين من أن الهوة بين النساء اللاتي يسعين لتجاوز الإملاءات الأبوية السائدة في الجماعات الدينية من خلال لغة تقليدية، وهؤلاء النساء اللاتي يرفضن بوضوح هذه الإملاءات والأعراف قد لا تكون بالضرورة تلك الهوة السحيقة التي يتصورها البعض.

٭ باحث سوري

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى