مراجعات كتب

«الأمير» لمكيافيللي: الكتاب الذي وُلد من الفشل المدوّي/ إبراهيم العريس

 

 

ما تقاربَ في تاريخ الفكر السياسي العالمي كتابان تفرق بينهما العصور واللغات والتجارب والانتماءات الجغرافية والتاريخية بقدر ما تشابَه كتابا هذين المفكرين. فبفارق مئة عام بينهما تقريباً، عاش الرجلان ما يمكننا أن نعتبره المغامرة السياسية ذاتها، وكان من نتائج مغامرتيهما فشل سياسي وحياتي شديد المرارة. لكن ذلك الفشل ذاته أنتج أيضاً لدى كل منهما نصاً سياسياً وتاريخياً وفكرياً لا يزال يعتبر إلى اليوم من النصوص المؤسسة حتى ولو كررنا هنا مرة أخرى أنه لولا الفشل لما وُجد بالأحرى… والحال أن الفشل الذي نتحدث عنه هنا، إنما كان في الأساس فشل كل منهما في تجربته حين سعى الى خوض غمار السلطة. ولاحقاً حين راح كل من الاثنين يكتب عن تجربته كان من المدهش أن التجربة تحولت من الخاص إلى العام وذلك على شكل كتاب لكل منهما أتى ثانيهما على الأقل شبيهاً بأولهما – الذي سبقه تاريخياً بالطبع – من دون أن يكون ثمة ما يشير إلى أن في الأمر سرقة أو اقتباساً، أو حتى استلهاماً. أما التشابه، فإنه إن لم يكن في التفاصيل والأهداف والحيّز الزمني الذي يتناوله كل من الاثنين، فعلى الأقل في الخلفية والموضوع الأساس.

> ولا شك في أن القارئ أدرك أن المؤلفَين اللذين نتحدث عنهما هما المفكر المسلم الشمال أفريقي ابن خلدون، صاحب «المقدمة»، والكاتب الإيطالي نيقولو مكيافيللي، صاحب «الأمير». إذ كما أن ابن خلدون اعتزل الدنيا والناس خلال مرحلة قاسية من حياته، في قلعة ابن سلامة في الجزائر، بعدما خاب أمله بالوصول إلى السلطة والبقاء فيها، في حمى أمراء خدمهم وخدعهم، حيناً بعد حين، كذلك كانت حال مكيافيللي الذي اعتزل الدنيا والناس خلال النصف الثاني من عام 1518، ليكتب «بجرة قلم واحدة» ذلك الكتيّب الذي حمل عنوان «الأمير» وسيشتهر، ولكن بعد رحيل مؤلفه، إذ إنه لم ينشر خلال حياته. بل نعرف أنه سيصبح مع مرور السنين، واحداً من أشهر الكتب السياسية في التاريخ، إلى جانب نصوص لأرسطو وأفلاطون وهيغل وروسو وغيرهم من سابقي مكيافيللي ولاحقيه. كذلك سيصبح الكتاب الذي تحاك حوله الأساطير، ويفسّر ويؤوّل، ويعتبر من جانب الكثيرين، «أول فضح للاأخلاقية السياسية».

> إذاً، في اختصار شديد هنا، حين الحديث عن كتاب «الأمير» لا بد من البدء بتصنيفه قبل أي شيء آخر، بكونه كتاباً في السياسة، وفي سياسة الحكم تحديداً، كتبه مكيافيللي، ليس كبحث نظري، وإنما كخلاصة لتجربته الديبلوماسية حيناً والسياسية حيناً آخر. من دون أن يغرب عن بالنا أن مكيافيللي، إنما هدف من وضعه هذا الكتاب أن يتقرّب من حكام فلورنسا الجدد مسدياً إليهم النصائح: كيف يحكمون؟ ولماذا يحكمون؟ وكيف تقوم الدول وكيف تنهار؟ أولسنا هنا كمن يتحدث عن «مقدمة» ابن خلدون؟

> في رسالة بعث بها مكيافيللي يوم 10 كانون الأول (ديسمبر) من عام 1518 إلى صديقه فرانشيسكو فيتّوري، كتب يقول: «لقد وضعت عملاً أطلقت عليه عنوان «دي برنتشيبا تيبوس»، وفيه حاولت جهدي أن أسبر أغوار المعضلات المتعلقة بمفهوم السيادة والحكم، إلى كم نوع تنقسم؟ كيف يتم الحصول عليها؟ كيف يمكن الحفاظ عليها؟ وكيف يصار إلى فقدها؟».

> وكتاب «الأمير» الذي يشير اليه مكيافيللي هنا بالطبع، يتألف في صياغته النهائية – التي هي صياغته الأولى على أية حال، من ستة وعشرين فصلاً، من الواضح أنها في مجموعها تشكل صورة للحاكم وكيف يجب أن يكون. وفي الفصول التسعة الأولى درس مكيافيللي شتى المسارات التي تؤدي إلى تكوين الإمارات، وغالباً انطلاقاً من مفهوم الاجتماع البشري في حيّز جغرافي معين يؤمن للمجتمعين فرص العيش والتبادل وما إلى ذلك – وفي صيغ لا بد من إبداء الدهشة أمام دنوّها من صيغ ابن خلدون، علماً أن هذه الدهشة قد تزول إن تنبه القارئ إلى حقيقة أن الباحثين قرآ أفلاطون جيداً وتبعاه في الكثير من أفكاره التأسيسية – وبعد ذلك في الفصل التالي تناول الكاتب قدرة الدولة بعد أن تتشكل بصرف النظر عما يكون من شأن نظام الحكم فيها، على التصدي للعدو الخارجي. ومن بعد التوقف عند الحالة الدفاعية تلك، يصل المؤلف إلى الحديث عن أنواع الدول ليركز حديثه في فصل تال على دراسة الدول القائمة على أساس الارتباط بالكنيسة، وهي دول يرى مكيافيللي من ذلك الوقت المبكر – وهذه نقطة شديدة الأهمية تسجّل لمصلحته في زمن كانت فيه الكنيسة تصرّ على البقاء مهيمنة على السلطات، على رغم بروز الأمراء والإقطاعيين وبدء إقاماتهم دويلاتهم تمهيداً لقيام الدول الموحّدة تحت سلطة أقواهم وأمضاهم شوكة. حيث إن مكيافيللي يقول لنا هنا إن الدول المرتبطة بالكنيسة لا تعير اهتماماً إلى القوانين التي تحكم تكوّن الدول الأخرى ومسارها.

> إذ يصل المؤلف إلى هذا المستوى من التفصيل في حديثه عن «التجمعات» السياسية المؤسسة، يجد أن الوقت حان كي يدخل في صلب الحديث، وإن في فصل آخر، عن تكوّن إمارة معينة، خصوصاً إمارة سيزار بورجيا، وهذا ما يتيح للكاتب أن يدخل في الفصول التالية إلى صلب الحياة الداخلية للإمارة التي يعرفها جيداً ولا يعود الحديث عنها هذه المرة نظرياً. فيتوقف مطولاً عند أسلوب الحكم والعلاقة مع الرعايا وتشكيل القوات المسلحة فيها. وفي هذا الإطار يركز مكيافيللي على عبثية الاستعانة بالمرتزقة بعد الآن، إذ صار من الضروري تكوين الجيوش «القومية» وما إلى ذلك. والملفت بعد هذا كله أن مكيافيللي، في واحد من فصول كتابه، يركز على ميدانية نصه وعلى واقعية تجربته، وذلك عبر مهاجمة الفلاسفة والكتّاب الذين سبقوه ليتحدثوا عن جمهوريات وإمارات ومدن فاضلة لا توجد إلا على الورق.

> واضح هنا أن نيقولو مكيافيللي، على غرار مفكر عربي مثل «الماوردي»، يحاول أن يربط تجربة الحكم كما يصفها، بالواقع، لا بخيالات المفكرين. من هنا، استنكاف الكثير من الباحثين في شؤون «المدن الفاضلة والخيالية» عن الحديث عن «الأمير» في هذا السياق. فمكيافيللي، على رغم اشتغاله بالفلسفة والكتابة، لا سيما بعدما أُبعد من الحكم والديبلوماسية، كان يرى أن «الأمير» ينظم الأمور ولا ينظِّر لها. الكاتب لا يتحدث عن أسس الملك، بل يصف سيرورته. من هنا، اعتبر «الأمير» واحداً من أول الكتب النهضوية التي تتحدث عن السياسة وقد انفصلت عن اللاهوت، وعن الحكم وقد كفّ عن أن يكون متحدراً من جذور ميتافيزيقية. ولئن كان الفيلسوف الألماني آرنست كاسيرر في كتابه «أسطورة الدولة» يتحدث عن مكيافيللي بكونه أعطى في كتاب «الأمير» أول صورة واقعية في الأدب السياسي الغربي على الأقل، للحكم كما هو، لا كما يجب أن يكون، فإن كاسيرر يرى أن ذلك كان من طبيعة الأمور: لأن مكيافيللي هو ابن عصر النهضة، عصر تكوّن الدول الحديثة على أسس واقعية لا على أسس إلهية. والأسس الواقعية لا ترتكز على الأخلاق والمبادئ، بل على ما هو موجود على أرض الواقع.

> ولد نيقولو مكيافيللي في عام 1469 في مدينة فلورنسا بإيطاليا التي مات فيها بعد ذلك بثمانية وخمسين عاماً، وعيّن وهو بعد شاب، أميناً عاماً لجمهورية فلورنسا، ما أتاح له مخالطة كبار السياسيين ثم التنقل في سفارات ديبلوماسية في قصور كبار ملوك أوروبا، مثل لويس الثاني عشر وماكسيميليان الأول، ما جعله قادراً على مراقبة أساليب الحكم في عصر التغيّرات الكبرى ذاك، أما الحاكم الذي استوحاه مكيافيللي لرسم صورة الأمير الواقعي في كتابه الأشهر فكان سيزار بورجيا نفسه. فمن طريق وصف هذا الحاكم يصوّر لنا مكيافيللي صورة للأمير متمتعاً بكل المزايا – ولكن أيضاً بكل السيئات – التي للحاكم. والحال أن القراءة السطحية لـ «الأمير» – وهو احتمل دائماً قراءة سطحية – جعلت كثيرين من القراء، ومن بين النخبة أيضاً، يقولون إن فن السياسة والحكم كما يصفه مكيافيللي إنما هو فن الكذب: «فن أن يخدع الحاكم غيره، سواء كان مبتسماً أو غير مبتسم». من هنا، ولد مصطلح المكيافيللية الذي لا يعني في نهاية الأمر سوى اللؤم والخداع، وكل ما هو غير أخلاقي، من دون أن يكون في حقيقة الأمر تعبيراً حقيقياً عن عمق هذا الكتاب وخلفياته.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى