صفحات سورية

الأنظمة السياسية العربية بين دوافع الثورات وسوء إدارة الأزمات


د.ثائر أبو صالح

من نافلة القول أن نذكر؛ أن حجم التغيرات التي حصلت في العالم العربي منذ اندلاع الثورة التونسية وحتى اليوم، هو أضعاف مضاعفة لحجم ما حصل في هذه المنطقة على مدار عشرات السنين. فأشهر قليلة من الحراك الشعبي الثوري؛ أسقط أنظمة، وهز عروش، وأوقف مسار الحياة الروتينية في العالم العربي، وفتح النقاش على مصراعيه حول مستقبل النظام العربي بشكل عام ومؤسساته.

وأظن أني لا أبالغ أبدا إذا ادعيت؛ أن كل المفكرين والمحللين السياسيين لم ينجحوا في رصد هذه الأحداث والتنبؤ بها، فأن ما يحصل في العالم العربي شبيه بالهزات الأرضية أو البراكين، فقد يستطيع العلماء تشخيص مناطق النشاط الزلزالي أو البركاني، ولكنهم لا يستطيعون أبداً أن يعلموا متى يحدث هذا الزلزال أو البركان، فهو قابل للثوران في أية لحظة. كذلك الثورات العربية؛ فأني أكاد اجزم انه ليس هناك من توقع حدوثها، ولكن الكثيرين من المحللين يعلمون أن العالم الثالث بشكل عام، وعالمنا العربي طبعاً جزء منه، هو منطقة نشاط ثوري نظراً للفقر والظلم والاستبداد وتسلط أجهزة الأمن على رقاب العباد وتدخلها في تفاصيل حياتهم، فحدوث ثورات تطالب بالحرية هو أمر غير مستغرب ولا مستهجن في ظل هكذا ظروف، ولكن توقيت وشكل حدوثها وانتقالها كالنار في الهشيم من بلد لأخر سيشكل ،لا شك، محور دراسات عديدة في المستقبل لاستنباط العبر ودراسة الحالات الثورية في العالم العربي.

بالرغم مما ذكرت، سأحاول في هذه العجالة التطرق إلى بعض النقاط والتي تشكل، من وجهة نظري، الأسباب الأهم في دول كثيرة في العالم، ولكنها تختلف من دولة إلى أخرى في عاملين اثنين: أولاً مدى استشراء هذا الفساد وثانياً المحاسبة. صحيح أن هناك فساد في دول كثيرة في العالم، ومنها المتطورة، ولكن ما يميز هذه الدول أنه عندما يكشف فيها عن الفساد هناك من يحاسب هؤلاء الفاسدين، لأن القانون فوق الجميع. أما في دولنا فأجهزة ألأمن والمتنفذين هم فوق القانون، ولا أحد يستطيع محاسبتهم ،ولذلك يسرقون ثروات الوطن لحسابهم الشخصي ،ويجوعون شعوبهم ،ويسيطرون على الحركة الاقتصادية في البلد وعلى الاستثمارات فيها، حتى يصبحون كالمنشار؛ تزداد ثرواتهم مع كل حركة للماكينة الاقتصادية ، وهكذا مع الزمن تتحول الدولة كلها إلى فاسدة، لأنهم يوصلون المواطن البسيط إلى مرحلة لا يستطيع فيها أن يؤمن قوت عياله دون اللجوء إلى السرقات والرشاوى. إن علاقات الفساد في العالم العربي تبدأ من أعلى قمة الهرم حتى تصل إلى أبسط مواطن، مع الفارق بحجم الفساد والسرقات، وهكذا تكونت في دولنا شبكة متكاملة من الفساد، يصعب إصلاحها بسهولة، لأنها أصبحت جزء من حياة الناس، تم تذويتها وإكسابها الشرعية إلى حد كبير، فمن لا يستطيع استغلال منصبه للكسب غير المشروع هو إنسان “غير ناجح وغير كفء” وهكذا أصبح الشرفاء مدانين. إن شبكة الفساد هذه هي سياسة مقصودة تهدف لربط أكبر عدد ممكن من الناس في عجلة السلطة الفاسدة ، وهذا يؤدي إلى استتباب الأمن وعدم المعارضة لأن الجميع مستفيدون والجميع ملطخة أيديهم بالفساد.

3-الفقر، وغياب الفرص:

إذا أضفنا نسبة زيادة السكان الآخذة في التسارع في العالم العربي إلى الإقتصادات المتعثرة، ذات نسب النمو المتواضعة، نصل إلى نتيجة واضحة مؤداها؛ أن نسب الفقر آخذة في الازدياد، وليس هناك أي نور في آخر النفق يدل على أننا سنخرج منه، بل على العكس؛ الأمور تزداد سوءاً سنة بعد سنة، فنسبة كبيرة من المواطنين العرب، في الدول العربية المختلفة، لا ينتجون الحد الأدنى المطلوب لسد رمقهم ورمق عيالهم. ولا نقدم جديداً إذا قلنا؛ أن نسبة عالية جداً من المواطنين العرب يعيشون تحت خط الفقر. وبالمقابل فأن المجتمع العربي غالبيته من الشباب الذين يبحثون عن فرص للعيش الكريم ولا يجدونها، مما يشجع على الهجرة، وهكذا خسر العالم العربي مع مرور السنين الملايين من المبدعين الذين تركوا بلدانهم للتفتيش عن ضالتهم في دول متطورة استوعبتهم واستفادت منهم. إن هجرة العقول والأيدي العاملة، أدت إلى خسارة اقتصادية واجتماعية وعلمية كبيرة للدول العربية تضاف إلى الخسارة القائمة أصلا ،ًمما أدى إلى تفاقم الأوضاع أكثر فأكثر. ولذلك ليس غريبا أن تعتمد الثورات العربية على الشباب الذين يشكلون الأكثرية في العالم العربي ولا يملكون أية فرصة للتطور والتقدم في ظل الأنظمة القائمة. فانتفض هؤلاء الشباب مستعينين بالتكنولوجيا الحديثة من الفايس بوك والتويتر وغيرها لينتظموا بعيداً عن أعين أجهزة الأمن المتربصة بهم في كل مكان.

4- فقدان الشرعية:

لا يوجد نظام في العالم، مهما بلغ من العتو والدكتاتورية، يستطيع أن يعيش دون شرعية. لذلك تفتش الأنظمة دائماً عن تكتيكات واستراتيجيات من أجل اكتساب الشرعية والظهور بالمظهر اللائق أمام شعوبها. وللتوضيح أكثر؛ لا بد من الخوض في بعض التفاصيل.

إن الأنظمة العربية القائمة في العالم العربي تقسم ظاهريا إلى نوعين :

الأنظمة الملكية: كدول الخليج والمغرب والأردن، حيث تستمد هذه الأنظمة شرعية وجودها من كون العائلات الحاكمة فيها هي التي أنجزت قيام واستقلال هذه الممالك والأمارات، وذلك بغض النظر عن مدى استقلالها الفعلي وعن القوى الاستعمارية التي ساهمت في ذلك. فآل- سعود مثلاً أقاموا المملكة العربية السعودية، والهاشميون أقاموا الأردن وهكذا.

الأنظمة الجمهورية: كما في سوريا والعراق وليبيا والجزائر ومصر…والتي استمدت شرعيتها من خلال العمل الانقلابي أو الثوري ضد الأنظمة السياسية التي سبقتها؛ فالنظام المصري، على سبيل المثال، استمد شرعيته من ثورة 23 يوليو ضد النظام الملكي الذي كان سائداً آنذاك. والنظام السوري استمد شرعيته من ثورة البعث في 8 أذار1963 التي قامت على قوى الانفصال، والنظام الليبي استمد شرعيته في الفاتح من سبتمبر من انقلابه على السنوسيين وهكذا .

إن هذه الشرعية بدأت تتآكل بالذات في الأنظمة الجمهورية لأسباب عديدة؛ مثل الفقر المتزايد في هذه الأنظمة وعدم قدرتها على الإنجاز بما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي وغيرها من الأسباب. ولكن السبب الرئيسي والذي شكل القشة التي قصمت ظهر البعير، من وجهة نظري، هي قضية التوريث والتي لا تتناقض مع جوهر النظام الجمهوري فقط وإنما تشكل التفافاً على القدر، وفقدان الأمل عند الشعوب للخلاص من هذه الأنظمة حتى عن طريق القدر، فتتحقق عندها مقولة هذه الأنظمة ” إلى الأبد”. إن قضية التوريث من جهة وإمكانيات دول الخليج الاقتصادية من جهة أخرى هي التي تفسر لنا لماذا بدأت الثورات في الأنظمة الجمهورية وتنتقل فيها كالنار في الهشيم، في حين أن الأنظمة الملكية تتمتع حتى الآن بقدر مقبول من الاستقرار قياسًا بالأنظمة الجمهورية.

إن التوريث في الحكم الجمهوري، والذي حصل في سوريا وكاد أن يحدث في مصر واليمن وليبيا، ضرب هذه الأنظمة في صميم شرعيتيها، كونها سوقت نفسها على أنها أنظمة ثورية . وهكذا تحولت إلى أنظمة جمهورية وراثية؛ وهو نظام سياسي جديد استنبطه حكام هذه الدول وقدموه هدية للإنسانية!. إن التوريث ليس فقط إهانة كبرى للشعب وإنما خرق واضح لأسس الأنظمة الجمهورية. فعندما تصبح السلطة فوق الدولة، ويصبح الدستور ألعوبة يفصل على المقاس المطلوب، يفقد الشعب ثقته في هكذا نظام وفي مؤسساته وبالتالي يفقد شرعيته. وعندما يتلازم الظلم والقهر والاستبداد الذي تفرضه أجهزة الأمن السائدة في العالم العربي مع فقدان ابسط قواعد الشرعية بسبب التوريث في هذه الأنظمة، التي تدعي أنها جاءت للسلطة بفعل ثوري أو انقلابي لتخليص الناس من ظلم الأنظمة السابقة ؛ يصبح الخروج ضد هذا النوع من الأنظمة مسألة وقت فقط .

إن الأنظمة السياسية تعلم أن ما تخطط له أو أقدمت عليه من خلال التوريث هو أمر غير مشروع، لذلك تبدأ بالتفتيش عن طرق جديدة لإعادة الشرعية من خلال مثلاً؛ تذكير الشعب بالانجازات التي أنجزها هذا النظام، فقد كان حسني مبارك والذين حوله يذكرون الشعب حتى لا ينسى انه قائد سلاح الجو في حرب 1973 وصاحب الضربة الجوية الأولى. وكذلك فعل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ونظامه عندما كانوا يذكرون دائما إن تونس حصلت على اكبر معدل نمو اقتصادي في العالم العربي تحت حكمه وذلك بفعل سياساته الحكيمة. أما النظام السياسي في سوريا فقد استمد شرعيته من سياسة الممانعة ودعم المقاومة؛ وبحق استطاع النظام السياسي السوري أن يسجل مواقف قومية ووطنية تحسب له في دعمه للمقاومة اللبنانية في مواجهاتها المختلفة مع إسرائيل، وكذلك دعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين. ولكن يبدو أن هذا لم يكن كافياً ليمنع الشعب السوري من الخروج للمطالبة بحريته لأنه وببساطة؛ سياسة الممانعة لا تتعارض مع الإصلاح الذي وعدوا به وتأخر كثيراً باعتراف الرئيس بشار الأسد في خطاباته المتكررة في الآونة الأخيرة.

ومما زاد الطين بله؛ هو تغيير التكتيك في سياسة النظام السياسي اتجاه الجبهة السورية الإسرائيلية والتي حافظت على هدوئها شبه التام منذ حرب تشرين 1973. هذا التغيير جاء كردة فعل على الحراك الشعبي السوري؛ وذلك عندما سمح للاجئين الفلسطينيين بالدخول عبر الجولان المحتل وكأنه يقول؛ أن كل ما حصل من اعتداءات إسرائيلية سابقاً كالتحليق فوق القصر الجمهوري، أو ضرب ما ادعت إسرائيل أنه منشأة نووية قيد الإنشاء مثلاً لم يكن كافياً لتغيير هذه السياسة. فقط عندما تعرض النظام لهزة شعبية تغيرت السياسة، هذا هو الخطأ الأول الذي وقع فيه النظام السياسي في سوريا. أما الخطأ الثاني يكمن في أن السياسة الجديدة جاءت على لسان رامي مخلوف الذي لا يملك أي منصب رسمي في النظام السياسي السوري. فقط كونه قريب الرئيس يسمح له أن يغير استراتجيات أو يعلن عن تغييرها، مما يدل على أن مؤسسة الدولة لا تحكم وإنما هناك اوليغاركية حاكمة؛ أي أسرة تحالفت فيها القوة العسكرية مع رأس المال، ضربت عرض الحائط بالشرعية المكتسبة من سياسة الممانعة لتبعث لإسرائيل رسالة واضحة تربط بين الاستقرار في سوريا والاستقرار في إسرائيل، مستغلة الحماس الفلسطيني للعودة، أو لطرح قضية اللاجئين على جدول أعمال الدول المعنية. هذا التصرف جعل الشعب يتشكك في جدية تبني النظام السياسي في سوريا لسياسة الممانعة، والتي تشكل أساس شرعيته، وهناك من ذهب لأبعد من ذلك مثل بعض أطراف المعارضة السورية والتي اعتبرت ذلك دليلاً على أن سياسة الممانعة للنظام السياسي السوري عبارة عن تكتيك للإبقاء على النظام في الحكم ليس أكثر.

إدارة الأزمة:

إن الأزمات نظريا تقوم على عاملين أثنين :

التهديد المباشر لمصالح حيوية: وفي حالتنا التهديد المباشر لأنظمة الحكم القائمة في العالم العربي.

الوقت المحدود لاتخاذ القرار:أي أنه ليس فقط مهم ماذا تقول وتفعل كصانع للقرار في دولة ما وإنما متى تقول وتفعل ذلك. فعامل الزمن حاسم جدا، فما يصح اليوم قد لا يصح غدا. إذن إدارة الأزمة هي القدرة على الربط بين متغيرين اثنين: المتغير الأول: هو مستوى التهديد والمتغير الثاني: هو الزمن المحدد لاتخاذ القرار. فالقرارات الصحيحة في الزمن المناسب يمكن أن تخفض من مستوى التهديد إلى حد يمكن السيطرة فيه على الأزمة، ومثال على ذلك إدارة ألازمة في المغرب، من قبل الملك، والذي قدم تعديلات دستورية ذات قيمة في الوقت المناسب، أي قبل فوات الأوان واستطاع أن يسيطر على الأزمة على الأقل مرحليا . ولتوضيح ما أرمي إليه، سأحاول التطرق باختصار لأزمة النظام السياسي في سوريا بعد اندلاع الثورة هناك أي منذ منتصف آذار هذه السنة وحتى الآن.

دراسة الأزمة في الحالة السورية:

لقد عرف صانع القرار في سوريا أن الثورة أتيه، أو على الأقل يجب عليه أن يأخذ بعين الاعتبار حدوثها، خصوصا بعد سقوط النظامين التونسي والمصري. ولذلك كان هناك هامشا من الزمن ممكن أن يستفيد منه لرسم سياسات واستراتجيات وسيناريوهات مختلفة لاستيعاب الأزمة القادمة. وعندما بدأ الحراك الجماهيري السوري، في منتصف آذار، كان متواضعا في البداية ولم يطرح شعار إسقاط النظام، بل ركز على المطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد، أي أن مستوى التهديد مع بداية الأزمة لم يكن كبيراً، وكان من الممكن احتوائه وبسهولة فيما لو كان تحرك النظام السياسي سليماً. ولتوضيح ذلك؛ لنتصور لو أن الخطاب الثالث الذي ألقاه الرئيس على مدرج جامعة دمشق حل محل الخطاب الأول الذي القي أمام مجلس الشعب. لو حصل هذا ،باعتقادي، كان النظام السياسي في سوريا قد احتوى الأزمة، وامسك بناصيتها، ودخل في حوار كان من المحتمل أن يوصل إلى بعض الإصلاحات التي كان من الممكن أن يقبل بها الشعب السوري في هذه المرحلة. ولكن التعامل الخاطئ مع الأزمة وخروج الرئيس ،غير الموفق، أمام مجلس الشعب شكلاً ومضموناً جعل هذا الحراك الشعبي يتطور ويزداد حدة وينتقل إلى مرحلة جديدة عندما بدأت المظاهرات تتسع وتطرح شعار “إسقاط النظام” الذي لم يرفع من قبل، حتى بعد دخول الأمن والجيش السوري إلى درعا لم يكن شعار إسقاط النظام آنذاك متداولاً في كل أماكن حدوث المظاهرات.

أن سيطرة العقلية الأمنية والتي استبعدت الحلول السياسية في سوريا في المرحلة الأولى، هي التي أججت الأزمة وجعلتها تخرج عن السيطرة تدريجيا. فالسيناريو الذي اعد من قبل أجهزة الأمن بدء بتنفيذه، وأختار النظام السياسي اللجوء إلى البديل الأمني لحل الأزمة، فصاغ مجموعة مقولات أراد لها أن تدخل إلى عقول الناس من خلال التكرار والتصميم على سرد نفس القصة. فأعتمد نظرية المؤامرة، وان ما يحدث في سوريا هو مؤامرة خارجية، وان هناك عصابات مسلحة تقوم بأعمال تخريب وقتل داخل سوريا. وبذلك يصبح استعمال العنف أمرا مبررا للتخلص من هذه العصابات من جهة، ومن جهة أخرى يبرئ النظام السياسي نفسه من قتل الناس في المظاهرات، وأن من يقتلهم هم العصابات المسلحة. النتيجة كانت ازدياد وتوسع رقعة المظاهرات، فأزداد مستوى التهديد خصوصاً حين ما بدأ العالم يستنكر ما يحدث في سوريا، وبالمقابل بدأت المعارضة ترتب أوراقها وتصطف بطريقة تؤدي إلى الضغط على النظام السياسي السوري. ففي المرحلة الأولى من الأزمة كانت تتمنى المعارضة أن تدعى لمؤتمر حواري حول الإصلاح، ولكن هذا لم يحصل لأن النظام السياسي اختار الحل الأمني بالتعامل مع الأزمة، وقام بتغيرات شكلية من خلال تغيير الحكومة ورفع حالة الطوارئ. فجاء خطاب الرئيس الثاني، والذي من المفروض أن يشكل البديل السياسي للتعامل مع الأزمة، أمام الحكومة مخيباً لآمال الجماهير ليفوت الفرصة الثانية للتصالح والخروج بماء الوجه.

وبعد أن أصبحت المظاهرات في سوريا شبه يومية ليلاً ونهاراً ، وبعد أن أصبح هناك مهجرين في تركيا ولبنان، وبعد أن بدأت تتفاقم الأمور باتجاه اللاعودة ؛ أي بعد ارتفاع مستوى التهديد بشكل كبير خصوصاً بعد ارتفاع عدد الشهداء بشكل هائل إضافة إلى الجرحى وآلاف المعتقلين، وبعد أن أصبح الممكن غير ممكن بسبب سوء إدارة الأزمة، خرج علينا الرئيس بخطابه الثالث ليطرح ما كان يجب أن يطرحه في الخطاب الأول أي قبل أشهر، فعرض فكرة الحوار الوطني من خلال جلسة تحضيرية، ولكن المعارضة التي كانت تتمنى أن تجلس على طاولة حوار مع النظام السياسي في بداية الأزمة رفضت المشاركة في جلسات التحضير لمؤتمر الحوار، حيث وضعت شروطا لخلق أجواء ايجابية للحوار لم يستجب لها النظام السياسي.

انقلبت الموازين نتيجة سوء إدارة الأزمة، وبدأ النظام يفتش عن من يحاوره، فأوعز لبعض المؤيدين لإيجاد ما عرف “بالطريق الثالث” كي يخرج هذا الحوار بالحد الأدنى، فلا يجوز للنظام السياسي أن يحاور نفسه. وبالفعل عقدت الجلسات التحضيرية وكان سقف الأطروحات عاليا وديمقراطيا وشفافا يبعث في بعض الأحيان على الإعجاب، ولكن ومن حيث لم يحسب النظام السياسي حسابا ، قام رموزه وعلى رأسهم نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع وعضو مجلس الشعب السابق محمد حبش بتفكيك مقولات النظام التي أراد ترسيخها في عقول الناس. فعندما يقول نائب رئيس الجمهورية “أن التظاهر غير المرخص يجر عنفا غير مبرر” أليس هذا اعترافاً واضحاً بأن العنف غير المبرر هو من قبل السلطة الحاكمة وليس من قبل العصابات المسلحة. وبالمقابل يقول حبش “أن ما يحدث في سوريا 20 بالمئه منه مؤامرة و 80 بالمئة احتقان داخلي نتيجة الظلم والقمع والاستبداد” .

أن هذه التصريحات تؤكد أن الأزمة في سوريا هي أزمة شعب يطلب الحرية بامتياز، فحتى لو وجد بعض الأشخاص الذين أطلقوا النار على الجيش للانتقام أو الثأر فأن ذلك لم يشكل ظاهرة، وأن هذه المقولة بدأت بالتفكك والتلاشي ويجب على النظام السياسي أن يتخلى عنها. لقد كان من بين النتائج الايجابية لهذه الجلسات في بيانها الختامي الاعتراف بالمعارضة الوطنية كجزء من النسيج الوطني السوري. وإذا كانت كذلك، إذن يجب على النظام السياسي في سوريا أن لا يتنازل عن حضور جزء من النسيج الوطني السوري أي المعارضة في مؤتمر الحوار القادم، وهي الفرصة الأخيرة لإخراج سورية من أزمتها. ولذلك يقف النظام السياسي على المحك الآن. فهل سيلتقط هذه الفرصة؟ ويخلق الأجواء الملائمة لحضور المعارضة هذا المؤتمر، من خلال تلبية مطالبهم المحقة المتمثلة بسحب الجيش من المدن، والسماح بالتظاهر السلمي، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. أم انه سيفوت هذه الفرصة الأخيرة لتدخل سوريا في المجهول؟ .

ولكي يحدث ذلك، وليقتنع الشعب بجدية الحراك الإصلاحي، يجب على رئيس الجمهورية أن يأخذ قرارا شجاعا بالانحياز كليا إلى جانب الإصلاحات المطروحة؛ وذلك من خلال إسقاط النظام الأمني، خصوصا أن هناك إجماع في الشارع السوري، على نقل سوريا إلى دولة ديمقراطية مدنية. والى رفض التدخل الخارجي بكل أشكاله. فإذا كانت أهم أسباب الثورات تكمن في تسلط أجهزة الأمن على المواطنين، والفقر وفقدان الفرص أمام الشباب، والفساد، وفقدان شرعية هذه الأنظمة، فكيف يمكن لنظام سياسي أن يتخلص من كل هذا دون إعادة إنتاج نفسه بوسائل جديدة تقوم على مبدأ الحرية، والعدالة الاجتماعية، والتعددية السياسية، وتداول السلطة، والتي بدون تحقيقها لا يمكن لسورية ولكل دولة عربية مماثلة أخرى أن تخرج من أزمتها السياسية.

كاتب وباحث سياسي

الجولان السوري المحتل

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى