إيلي عبدوصفحات الثقافة

بالعودة إلى زياد الرحباني والطلاّب المحتجّين…

إيلي عبدو *

لم تكن لحظة النهاية تلك التي واجهها زياد الرحباني أمام طلاب الجامعة الأميركية في بيروت منذ فترة وجيزة. فزياد مات فنياً وسياسياً قبل ذلك بكثير، لكن أحداً لم يمتلك الجرأة لإقامة مراسم الدفن. الطلاب الذين رفعوا لافتات تصف الفنان اللبناني بالفاشية وبمناصرة الأنظمة المستبدة على حساب الشعوب، قاموا بذلك نيابة عنّا جميعاً. مراسم العزاء الأخلاقي والسياسي والإبداعي في الظاهرة الزيادية واجب مؤجل، بادر هؤلاء الشباب لإقامته.

والحال، فإن ما حدث لا يكتسب أهميته من مصادمة زياد واقتطاع كلمات من أغانيه لمواجهته بها. فالرجل تصادم قبل ذلك مع ذاته الإيديولوجية الصلبة وهزم مرات كثيرة قبل أن يكبت كل ذلك ويرتمي في حضن حزب ديني يقيه بعضاً من عراء ألمّ به. الطلاب الذين أعلنوا نهاية الرحباني كانوا في الوقت نفسه يعلنون بدايتهم. ذاك أن دفن الإيديولوجية التي توسلت الفن والمسرح وسيلةً للانقضاض على العقول وتزييف وعيها، يعني أيضاً إشهار أفكار نقيضة تحطم الصنمية العقائدية لتشهر رغبتها في الحرية بتجرد وحياد. فاللافتات التي رُفعت لم تنتقد زياد فقط إنما كانت تعلن نقيضه.

والنقيض، هنا، طلاب دربتهم جامعتهم على نمط حياة أميركي يدير ظهره لكل الأفكار الكبرى ويسعى لعيش حريته بمرونة وخفة بعيداً من تعقيد الإيديولوجية وسطوتها. كان يمكن لزياد أن يواجه من قبل شيوعيين مثله يختلفون معه في مسألة الثورات العربية وتحديداً الثورة السورية، لكن الصراع هذه المرة كان لا بد أن يكون كلياً شاملاً، لا يتبع تلك الخرافات التي يسوقها البعض لتبرير المواقف الخاطئة، كمقولة أن زياد فنان عظيم لكنه أخطأ في مواقفه السياسية. وهي قولة مستقاة مـن تلك التي تبرر قمع نظام عربي ما بحجة أنه مـــــمانع يقــــاوم إسرائيل. طلاب الأميركية أرادوا أن يقولوا إن التـــجربة الزيادية بمساراتها واتجاهاتها كلها خاطئة وليــــــس موقف بعينه. فزياد كثّف في تاريخه الفني والسياسي ذلك الفوات الذي أصابنا وجمّد أحوالنا عبر مساهمته في ضخ وعي زائف، مسرحاً وغناءً وهلوسات سياسية.

ولعل اللافتات التي رفعت في وجه الفنان اللبناني كانت العلامة الأبرز على سقوطه النهائي وبزوغ نقيضه. الطلاب استخدموا عبارات من مسرحيات الرحباني ليستعملوها ضده، لشعورهم بالخيبة من مواقف صاحبها وتصحيح الجهة التي يجب أن يسير بموجبها. لقد كان من الضروري أن تقتل الظاهرة بأدواتها ولغتها لينتج نقيضها في سياق يحاكي ما حدث في تظاهرات الربيع العربي، حين رفعت شعارات بلغة الأنظمة لتبرز لاحقاً لغة جديدة تقطع مع كل ما سبق. المتظاهرون السوريون رفعوا شعار «الله سورية حرية وبس» مستخدمين شعار النظام «الله سورية وبشار وبس»، لتنفتح مخيلتهم في ما بعد على إبداعات مغايرة. الكلام في الحالتين يتحرر من دلالاته القديمة ويبحث عن أخرى تنتمي إلى اللحظة الراهنة تمهيداً لإنتاج خطاب جديد.

ويبدو زياد الرحباني حقلاً تجريبياً جيداً لتحقيق ذلك. الشيوعي الملتزم الذي بدأ مناصراً لقضايا الفقراء والكادحين وانتهى بالحديث عن مؤامرة ضد بشار الأسد، يصلح ليكون نصباً تذكارياً لحقبة تزاحمت فيها الأوهام والإيديولوجيات الساذجة.

وإذا كان الرحباني نصباً تذكارياً لمرحلة مضت، فإن الطلاب الذين انتقدوه هم التأسيس الفعلي لمرحلة جديدة سماتها الأبرز التخفف من القضايا الكبرى وتحطيم الأصنام، فنية كانت أو سياسية. الطلاب الذين طالما سخر منهم زياد متهـــماً إياهم بأنهم أبناء ثقافة الوجبات السريعة، أعطوه درساً في الحرية حيث رفعوا بصمت لافتات وعبارات تنتقد سلوكه. إنها الحرية التي كثيراً ما شتمها زياد في مسرحياته مفضلاً عليها العدالة الاجتماعية، ولو بسحق الناس وإخضاعهم.

أن نعتبر ما حدث في الجامعة الأميركية نقداً علنياً للظاهرة الزيادية، يعني أننا نرجع من دون أن ندري إلى سجال سقيم حول صوابية آراء زياد في السياسة من عدمها، فيما نحن بتنا في فضاء ثقافي آخر، أبرز مقترحاته ما فعله الطلاب الجامعيون.

* كاتب وشاعر سوري.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى