صفحات الثقافة

دمشق ترحل بين نصّين/ بشار فرحات

 

دمشق، النازحة عن نفسها، يلِجُ الحنين قلوب مريديها داخل الأسوار وخارجها. الحنين المقرون بالمدينة، الموسوم بالفقد، لا يتعلق بالمسافة فقط لينقضي بانكسارها، ولا يتّخذ غير العشق سنّةً، ليتوق لغير الوصل غايةً. هو لغة الواقفين على تخوم البقاء الأخير، وهي مفردات الراحلين.

في ثنائية “المكان – الذكرى”، تحترف دمشق رسم جغرافيا الحب، وتنفرد بالتيه إذا اجتاحت عناوين “الزمن الجميل” في دفاتر العابرين، وإذا افترشت أرصفة الشوارع الخلفية للمقيمين أبداً في روايات المدينة، الواقعين في أسر لغتها، وقد استحالت التفاصيل أبجديّة لم تمتنع عن طالب ولا استعصت على مريد.

الحرب تجتاح اللغة والرصاص يجيد العبث بالأبجدية. الحكايا مقطعة الأوصال والرواة على حافة الصمت.

المدينة الموزعة على قلوب الهائمين تلملم نفسها، تنجز كل مهام الوداع، تعدّ الحقائب، حزناً حزناً، وتبدأ سِفر الرحيل.

دمشق خارج النص، موقتاً.

هنا دمشق… صيف 2012

على أبواب دمشق تخلع كلّ ما يفيض عنك. تدخلها وحيداً، إلّا منك.

ترمي بعضك خلف ظهرك، تتعرّى من الآخرين، وتخترق جسد المدينة.

لا أحد يعود خائباً عن أبواب دمشق. يدخلها الجميع. لكنها، ومن دون أن ينتبه أحد، تدسّ في جيب من تحب مفاتيح غرفها السريّة وزجاجة عطر ياسمينيّ الطبع.

في دمشق لا يدوم إلا الياسمين، ولا تفتح الأبواب إلا لحامليه.

لا تكترثْ بالخرائط في بحثك عنها. فتِّش عن أقرب ابتسامة على أقرب وجه دمشقي. اقرأ في تجاعيد جبهة سائق تاكسي كل دروبها، واتبع أطولها إلى مبتغاك. الدروب هنا بيوتٌ لم يغادرها الدفء ولا هجرتها موسيقى الحياة.

دمشق حولك. دمشق فيك. دمشق منك. إليك. قبلك. بعدك. لك… و…. لك.

فاخرج عن نفسك قليلاً كي تجد دمشق، واسكن نفسك كثيراً كي تدركها.

على أعتاب دمشق تكتمل أنوثة الثورة. تكشف كتفيها للقصيدة وتمنح خصرها للضوء. تخفي من نهديها ما يكفي ليشتعل الخيال، وتظهر ما يكفي ليقترف المتيّمون خطيئة الانتظار.

قُبيل دمشق تتمهّل الثورة، ترتدي أبهى حللها وأكثرها إيحاءً، وتدخل على إيقاع الغواية.

هل نحن قادمون يا دمشق؟ أم أنك قادمة إلينا؟

لا فرق، سيدتي. ففي لحظات التوق، لا تتخذ الدروب اتجاهاً.

وفي حكايا التوق ، تأسرنا النهاية فقط.

هناك دمشق… صيف 2013

في دمشق، تنحّى الياسمن قليلاً عندما مرّت رصاصة.

وفي دمشق، فاض بردى عن خصره عندما أمطَرَت نَزَقاً.

في دمشق، هجر الحمام مآذن المساجد، لملم أمتعته من ساحة الأموي، ورابَطَ على كتِفَي ثائر.

في دمشق، أُغلِقَت أبواب المدينة على صرخة، وفُتِحَت على نعش شهيد.

في دمشق، يجهد الدمشقيون كي لا يعتادوا رائحة البارود، ومن أجل أن يحفظوا بقايا ابتسامتهم بالحد الكافي كي لا تغلبهم إيماءة خوف.

في دمشق، مدّ قاسيون جناحيه وغطّى سماءها. ضمّ الأصوات كلها، وخبّأها في صدره.

لا صوت يتسلل إلى السماء. فما يحدث في دمشق يخصُّها وحدها.

وأنا، في غفلة من قاسيون، أسرّب إليكم بعض أنباء دمشق.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى