صفحات سورية

الإيديولوجية الكردية المعاصرة/ مهند الكاطع

 

 

حول مفهوم الإيديولوجية يقول عبد الله العروي: “إننا نقول إن فلاناً ينظر إلى الأشياء نظرة إيديولوجية، نعني أنه يتخير الأشياء ويؤول الوقائع بكيفية تظهرها دائماً مطابقة لما يعتقد أنه الحق”.

استخدام الإيديولوجية في ميدان المناظرة السياسية، يجعل من الطبيعي أن يكتسي الخطاب صبغة سلبية أو إيجابية حسب الاستخدام. ففي الحالة الكردية مثلاً، يرى الأكراد بأن ” إيديولوجيتهم القومية” هي عقيدة تعبر عن الوفاء لهدف قومي سامي، وتعبير عن تضحية، في الوقت الذي ينظرون إلى إيديولوجيات الآخرين ” عرب، ترك ،غيرهم” بأنها ممارسات شوفينية، وفي أحسن الأحوال أقنعة تَحَجُّب خلفها نوايا خفية لئيمة تحمل الكراهية والحقد عليهم. ربما أيضاً يمكن أن نقيس ذلك على الإيديولوجية الإيرانية اتجاه العرب والعكس صحيح، وكذلك ربما في الإيديولوجيات القومية التركية اتجاه القوميات الأخرى، وهكذا.

للتعرف على الإيديولوجية الكردية، وما يهمنا فيها حول ما يمكن أن يكون له تأثير مباشر على علاقة تفاعلية للأكراد مع محيطهم، مع العرب مثلاً في سورية، فهنا يجب أن نحاول إيجاد الأفكار والإيديولوجيات التي تحكمت في أذهان الأكراد اتجاه من يخالفهم، تلك التي جعلتهم ينظرون للمحيط الخارجي من خلال ما وضعوه مسبقاً من أفكار لها علاقة بمآلات واقعهم السياسي الحالي، وبالتالي جعلتهم يقيسون جميع الآراء من خلال منظارهم ورؤيتهم وتفسيرهم وحدهم للحقيقة.

لا يمكن هنا لي أو لأي شخص آخر ادعاء امتلاك القدر الكافي من التجرد الذي يجعلنا نتناول الإيديولجية الكردية خارج بعدنا “الإيديولوجي”، ولا يمكن أيضاً الزعم بأننا لا نخضع بهذا القدر أو ذاك لإرهاصات إيديولوجية مختلفة سواء أكانت قومية أو دينية وبالتالي لها تاثير مباشر على ما نقوله، فخطورة الإيديولوجية تكمن في تأثيرها على أفكار وأعمال الأفراد بكيفية خفية (لا واعية)، وبالتالي من الصعب أن يجزم أي شخص مهما بلغت درجة إلمامه ومداركه وحياديته بأنه يقوم في إطار بحث معين تحييد منطقة اللاوعي من التأثير على أعماله. و تبقى على أي حال مثل هذه المسائل نسبية تختلف من شخص إلى آخر، ولا تقف حاجزاً دون محاولات نقدية جادة.

مرتكزات الإيديولوجية الكردية

قد يُفهم من حديثي عن “الإيديولوجية الكرديّة” بأنني أتحدث هنا عن مفاهيم وظروف وأفكار مشتركة بين الأكراد في مختلف مناطق توزعهم داخل وخارج المجال العربي. وبالتالي من المهم التنويه إلى أنني أقصد من استخدام هذا المصطلح،  أكراد المجال العربي،  وأكراد سورية على وجه التحديد، إذ لا تزال مسألة تبلور عقل جمعي كردي يحمل إيديولوجيا واحدة غير واقعية، وهذا نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية لم تفسح المجال أمام تشكّل ذاكرة جمعية كردية نستطيع من خلالها دراسة إيديولوجية كردية محددة لأفكار وتوجهات الأكراد، بحيث أنها باتت بالفعل جزءا من اللاوعي (للعقل الكردي) على إطلاقه في منطقة الشرق الأوسط.

إن السمة الأساسية لإيديولوجية أكراد سورية، تتلخص في كونها “مقلدة” ، لم تنجح في صناعة وبلورة أفكارها ومشاريعها بحيث تكون متناسبة مع الواقع السوري، فاكتفت الشريحة الأكبر للمشتغلين بالحقل السياسي الكردي بتقليد واستنساخ شعارات وأفكار القوميين الأكراد في العراق بشكل أعمى، معتبرة نفسها امتداداً للمشروع الكردي في العراق، أما الشريحة الثانية، فهي أكثر عاطفية في استنساخها لتجربة العمال الكردستاني في تركيا، ومحاولة إدراج أفكار ومصطلحات عبد الله أوجلان النظرية، في الواقع الذي تفرضه من خلال سيطرة عسكرية، دون أن تعي على ما يبدو النتائج السلبية لهذه الممارسات القسرية على المدى البعيد.

يمكننا تلخيص المرتكزات الإيديولوجية في حالة أكراد سورية اليوم بما يلي:

1-    الأكراد ينحدرون من الشعوب الآرية التي مرت بالمنطقة (الحضارة و العراقة).

2-    الأكراد  يعيشيون على أرضهم “التاريخية” (التاريخ المؤسس لحقوق سياسية)

3-    الأكراد شعب، ينتمي إلى عرق مشترك، وله ميل للشعور بالانتماء لمصير مشترك ( القومية، والنقاء العرقي)

4-    للأكراد أعداء تاريخيون يتربصون بهم ويضطهدونهم إلى يومنا هذا ( تجييش نحو الخيار القومي).

5-    الأكراد مستهدفون من السياسات الإقليمية والدولية منذ فجر التاريخ ( تبرير واقع الأكراد).

6-     كردستان موطن الأكراد، تحتلها شعوب المنطقة، وتحريرها هو استعادة حق مغتصب (قضية عادلة).

مغالطة “الأرض التاريخية”

لا يتسع المقال لوضع جميع الأفكار القومية الكردية المعاصة على المحك، لكنني سأكتفي بعرض مغالطة الأرض التاريخية التي تتردد في الخطاب القومي الكردي في سورية منذ بدء الثورة السورية.

تعمد الإيديولوجية الكردية إلى محاولة خلق فكرة وجود “أرض تاريخية كردية” منذ فجر التاريخ في سورية، فنلاحظ أن أدبيات الأحزاب الكردية في سورية وبرامجها السياسية وبشكل خاص بعد الثورة، لا تكاد تخلو من إدراج عبارة “الأرض التاريخية” بتواتر شديد بات سمة أساسية حتى ضمن البيانات السياسية والصحفية حتى البعيدة عن هذه الجدلية. وبموجب هذا الخطاب يجري اعتبار مناطق تواجد الأكراد أو المناطق المجاورة لها في سورية، هي ضمن ” الأرض التاريخية الكردية”،

ونتيجة الضخ القومي، تراكم باللاوعي الكردي بأن كردستان تتمدد مع تمدد الأكراد، بمعنى أن خروج الأكراد خارج الجغرافية التي كانت معروفة بإقليم الجبال في العصور الوسطى، أو كردستان في آواخر عهد السلاجقة، إلى مناطق أخرى مجاورة، يجعل بالضرورة تلك المناطق مع الزمن جزءا من كردستان، وهذا ما بات معمولاً به لدى أكراد سورية. حيث باتت محاولة فرض مصطلح  “الأرض التاريخية للأكراد” في المجال العربي عموماً، والسوري مؤخراً، غير مكترثة بحقائق المنطقة التاريخية والجغرافية أو الواقع الديموغرافي وتطوره، وهذا ما يمثل مشكلة حقيقية وتخلق فرصا لتوتر مستمر وربما تصادم قومي في نهاية المطاف.

يبدو أنه ومن وجهة نظر القوميين الأكراد، ترسيخ هذه الإيديولوجية لا يحتاج إلى دلائل أو ظروف موضوعية لذلك، فيُكتفى بالخطاب “الديماغوجي” الموجه، وتكراره لترسيخه في أذهان الأكراد والأجيال الناشئة. لكن في واقع الأمر يواجه القوميين الأكراد معضلة حقيقة إزاء تبني ادعاء بحجم “الأرض التاريخية” في هذه المنطقة، إذ أن تاريخ المنطقة ومعالمها الجغرافية وعادياتها وأوابدها المكتشفة ولغة وثقافة وهوية سكانها، كل ذلك لا يدعم هذه المزاعم، ولم تعد المسوغات التي يقدمها القوميين الأكراد كالاستشهاد بفقرة مجتزأة من مشاهدة رحّالة عثماني لعشيرة كردية متنقلة في هذه المناطق، تكفي لإقناع حتى الأكراد أنفسهم بقبول هذه المزاعم.

مسألة أخرى سببت أيضاً إرباكاً للقوميين الأكراد، تتمثل بأنَّ مصادر القرون الوسطى في عهد التدوين، كانت تتناول تواجد الأكراد في مناطق المجال العربي الحالي، في إطار وسياق الاحتكاك مع الشعوب الإسلامية بعد الفتح الإسلامي، أما الحديث عن مواطن الأكراد في تلك الحقبة فقد كانت من الناحية الجغرافية بعيدة عن جغرافية العالم العربي، وتقع جغرافياً في المناطق الجبلية الوعرة بين إيران وأذربيجان. وبالتالي نجد بأن القوميين الأكراد الذين يفشلون في تقديم إجابات على هذه المعضلة، يلجؤون إلى الحقب التاريخية الأبعد بكثير والممتدة لآلاف السنوات قبل الحقبة الإسلامية، مستعينين بنظريات الانتماء للعرق الآري، وبما أن هناك شعوباً آرية سكنت الأناضول وشمال مابين النهرين، فبالتالي يصبح من الممكن تبرير مزاعم “الأرض التاريخية” لدى القوميين الأكراد، دون أن يأخذوا تاريخ الاسيتطان الحديث بعين الاعتبار، فالوجود الكردي من وجهة نظرهم عودة إلى “أرض الأجداد”، وهؤلاء الأجداد هم جميع الشعوب الآرية المنقرضة، وبالتالي أي نقد للمطالب الكردية القومية في سورية، أو أي حديث يذكر السياق التاريخي لاستيطانهم في المنطقة أو تاريخ الهجرات الحديثة أو القديمة، سيتم إدراجه ضمن سياق “اضطهاد الاكراد، واستهدافهم، والشوفينية ضدهم”.  وهنا أيضاً لن يكون إبراز أي وثائق ومعطيات تاريخية أياً كان مصدرها، أي قيمة تذكر في ظل تمسك القوميين الأكراد بخطاب إيديولوجي بعيد عن الواقع.

إن الإشكالية الحقيقية في الإيديولوجية الكردية المعاصرة ربما تتلخص بما يمكن أن نصفه بأنها إيديولوجية “غير ناضجة”، لم تؤسس لها نظرية خاصة بها، ولا فلسفة يمكن الاعتماد عليها، بل كانت مترنحة بين اقتباس تجارب الآخرين، أو تطويع بعض النظريات لإثبات الأحقية بمطالب سياسية حديثة، وهذا قد يؤدي على المدى البعيد إلى صدام فعلي فيما لو بقي الوعي القومي للنخب الكردية والعربية أيضاً، لا يستوعب الانعكاسات المباشرة والمخاطر التي قد يتعرض لها الجميع في حال الإصرار على تفسير الأمور وتحديد الأهداف والمطالب من خلال زاوية إيدولوجية فقط.

ختاماً: ربما علينا هنا أيضاً  الإشارة إلى مسألة هامة، تتعلق بأن خطاب ” الأرض التاريخية للأكراد” في الحالة السورية، هو خطاب حديث جداً، إذ أنه لم تعمل الإيديولوجية الكردية قبل خمسينيات القرن الماضي التي كان يحملها أكراد “الأطراف” الذين لا يزالون حديثي عهد بأوطانهم التي هاجروا منها، إلى تبني أي موطن للأكراد في سورية خارج إطار الحدود السياسية التركية، فتركيا كانت آنذاك تمثل العدو الذي اغتصب كردستان.

تلفزيون سوريا

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى