صفحات العالم

الاحتجاجات في سوريا والخلافات الأمريكية – الروسية

 


يوسف مكي

في السياسة، قاعدة مهمة تقول إن على أي صانع قرار ناجح، قراءة ميكيافيلي، والتعلم من كتابه ذائع الصيت “الأمير” . وأهم درس في هذا السياق، بمجال العلاقات الدولية، أن الأخلاق وقيم الحرية والديمقراطية مهمة بقدر خدمتها للمصالح الحيوية . إن القانون الدولي، ليس وحده الضامن لحسم الخلافات بين الدول، ولكنه صراع الإرادات . ولا يُستثنى من هذا التوصيف شرق أو غرب .

في حركة الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها بعض البلدان العربية، حضرت نصوص ميكيافيلي بقوة . وكان صراع الإرادات قد بدأ بالميل رأسياً، منذ انتهاء الحرب الباردة لمصلحة الولايات المتحدة وحلفائها . سقط النظام الشيوعي، ومع سقوطه سقطت الإمبراطورية – السوفييتية . وبرزت الاتجاهات القومية، وأخذت جمهوريات السوفييت السابقة تعلن استقلالها الواحدة تلو الأخرى . وبالتزامن مع ذلك، تفاعلت أوروبا الشرقية مع الإعصار، فأعلنت انضمامها إلى الوحدة الأوروبية وحلف الناتو .

لقد ألحقت تركة الإمبراطورية السوفييتية بالغرب، وخرجت روسيا الاتحادية خالية الوفاض . ولم يبقَ لديها، ما تعتد به، سوى ترسانة نووية كبيرة وأسلحة فتاكة، يحتاج تأمين صيانتها إلى دعم اقتصادي أمريكي وأوروبي مستمر . وحتى في الهند الصينية، سارع التنين الصيني لتحقيق اختراقات واسعة في تلك البلدان، وأحكم قبضته بقوة عليها، مزيحاً عنها حليفه الروسي .

في الوطن العربي، تراجع الجرف الروسي كثيراً، فاليمن الجنوبي توحد مع الشمال . ومع الوحدة اختفى عن الواجهة الحكام الذين تعلموا مبادئ الثورة في جامعة باتريس لومومبا في موسكو . وخسر الروس القواعد والتسهيلات العسكرية التي تمتعوا بها أثناء حكم الرفاق . وكانت اليمن برئاسة علي عبدالله صالح قد بدأت مبكراً في تطبيع علاقتها مع الغرب . ومع التطبيع تراجعت العلاقة مع الروس، وتغيرت أنظمة تسليح الجيش اليمني، ولم تعد مقتصرة على السلاح الروسي . وكانت مصر قد اتجهت إلى الغرب، وتم طرد الخبراء الروس بطريقة مهينة أثناء التحضير لمعركة العبور عام 1973 . ومع توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 بين مصر والكيان الصهيوني، انتقلت العلاقة بين مصر والولايات المتحدة إلى مستوى استراتيجي، كان من نتائجه حدوث قطيعة اقتصادية شاملة مع الاتحاد السوفييتي السابق، وتغيير في أنظمة التسلح . وليتم استبدالها بالسلاح الأمريكي والأوروبي . ولم يتبقَ من التحالف الاستراتيجي السابق بين مصر والسوفييت سوى علاقة دبلوماسية باردة، تكتنفها جفوات وأزمات .

لم يكن وضع روسيا بالجزائر والسودان، وكلاهما حليفان سابقان للاتحاد السوفييتي، بأفضل من أوضاعهما مع اليمن ومصر . فقد سالت مياه كثيرة على تحالفاتهما السابقة . وباحتلال الأمريكيين للعراق عام ،2003 خسرت روسيا حليفاً استراتيجياً آخر، تشعبت علاقاته معها لتشمل جميع المجالات . وكان العراق، المعروف بضخامة احتياطاته من النفط، يعتمد حتى تاريخ احتلاله في تسليحه العسكري واحتياجاته التكنولوجية على روسيا . وبإعلان الثورة الليبية ضد نظام العقيد القذافي، خسرت روسيا الاتحادية حليفاً آخر من حلفائها . وقد أخذت القيادة الروسية مؤخراً في التعبير عن ندمها على عدم استخدامها قرار حق النقض في أثناء التصويت في مجلس الأمن على تدخل حلف الناتو جوياً في ليبيا .

حالياً يجري صراع شرس بين الروس والأمريكيين، فالإدارة الأمريكية، تسعى إلى تجريد روسيا من القدرة على الحركة، بعد أن قامت بتطويقها من جميع الاتجاهات . والروس يدركون أن نهاية الحرب الباردة لن تجعل الأمريكيين يتراجعون عن محاصرتهم . وقد أعلنوا بجلاء أن الدرع الصاروخية، الذي تعمل الإدارة الأمريكية على نصبه في أوروبا الشرقية، هو موجه ضد الصواريخ الروسية وليس لأي هدف آخر . وهم يدركون أيضاً حجم النجاحات التي حققها الأمريكيون وحلفاؤهم الأوروبيون، في حرمان روسيا من منابع وطرق النفط الحيوية في منطقة القوقاز والبحر الأسود .

يعتقد الروس أن الحديث عن الحرية والديمقراطية في سوريا وإدانة قمع الأمن والجيش للسوريين ليس سوى محاولة أخرى في مسلسل التطويق الاستراتيجي العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة ضدهم . ولهذا تبدو روسيا مصممة على رفض أي قرار دولي، يجيز للغرب التدخل في الشؤون الداخلية السورية . وإذا ما أصرت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها على مناقشة فرض أي عقوبات على النظام السوري في مجلس الأمن الدولي، ولا يستبعد أن تستخدم روسيا حق النقض ضد أي قرار أممي بشأن سورية .

فسوريا بالنسبة لروسيا هي الحصن الأخير المتبقي في البلدان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، حيث تقدم في ميناء طرطوس تسهيلات للبحرية الروسية، كما أن سوريا هي البلد العربي الوحيد الذي ظل يعتمد في تسليح جيشه على السلاح الروسي .

إن حيوية العلاقة بين البلدين وأهميتها الاستراتيجية، هي التي دفعت بالروس إلى إعادة النظر في مواقفهم السابقة المترددة في تزويد سوريا بالسلاح الدفاعي المتطور . وقد تضمن ذلك منظومة متطورة من الصواريخ البالستية والمضادة للطائرات، وكانت هذه الصفقة ثمرة هذه المراجعة .

تقودنا هذه القراءة إلى المواقف الروسية تجاه الأحداث التي تشهدها سوريا منذ ثلاثة أشهر . فالواضح أن الروس يعملون على استمرار نظام الرئيس بشار الأسد لضمان احتفاظهم بالحصن المتبقي لهم قرب مياه البحر الأبيض المتوسط، بينما يعمل الأمريكيون على استثمار حالة الغليان، ليحققوا جملة من أجنداتهم السياسية في سوريا والمنطقة .

الأهداف الأمريكية في سوريا أكثر اتساعاً، فبينما ترتكز السياسة الروسية، على التصدي لحالة التطويق التي يفرضها الأمريكيون ضدهم، تعتمد السياسة الأمريكية على المبادرة وسرعة الحركة . وإسقاط النظام في دمشق يحقق جملة من الأهداف . لعل في أعلى قائمة الأهداف القضاء على قوة حزب الله اللبناني، وإبعاد إيران عن البحر الأبيض المتوسط . وكلاهما حليف استراتيجي لدمشق . يضاف إلى ذلك، إضعاف المقاومة العراقية التي يتمركز كثير من مقراتها في دمشق .

يعتمد التحرك الأمريكي الجديد في المنطقة، على استثمار “ربيع الثورات العربية” لتحقيق ما عجز الاحتلال المباشر عن تحقيقه، وللعودة مجدداً لصياغة الخريطة السياسية لعموم البلدان العربية . أن الأسلحة التي توجه من إيران عبر دمشق إلى لبنان لدعم قوة حزب الله، والأسلحة التي تهرب عبر الأراضي السورية للعراق، لمنظمات المقاومة العراقية سيجري تعطيلها من خلال إشغال النظام السوري بمواجهة شأنه الداخلي .

ستتواصل لعبة القط والفأر بين الروس والأمريكان، ويستمر صراع الإرادات . أما النتائج فهي رهن لمبادرات عملية، وخطوات سريعة تقدم عليها القيادة السورية، باتجاه تحقيق المصالحة الداخلية . وما لم يتحقق ذلك فإن المنطقة برمتها، مقدمة على تحولات أكثر دراماتيكية . . ولن يطول بنا الانتظار .

الخليج

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى