صفحات مميزةيارا بدر

الاسم… والاسم المستعار أزمة الهويّة في زمن الثورة


يارا بدر

رفعت السلطات السورية حجبها عن مواقع التواصل الاجتماعي مثل “فيس بوك” و”تويتر” مع بداية أحداث الربيع العربي, 8 شباط 2011, وحتى ذلك الحين كان عالم مثل هذه المواقع مجهولاً وغريباً بالنسبة إلى شرائح اجتماعية مختلفة في البلد, في الوقت الذي تزامن تقريباً مع حجب السلطات المصرية لهذه المواقع بعد أن انتشرت دعوات التظاهر عبر صفحاتها. أذكر جيداً الدهشة التي أصابتني عند دخولي محل لبيع الألبسة المستخدمة في بدايات صيف 2011 ورأيت البائع الشاب يتابع الأخبار على صفحته على موقع “فيس بوك”.

في الحال السوري لم يكن الوضع يسمح بنشر الدعوة إلى التظاهر السلمي عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي, إذ بدا أنّ هذه السماحة الحكوميّة لم تكن سوى وسيلة لتشديد الرقابة على مستخدمي هذه المواقع, الذين كانوا يضطّرون سابقاً إلى دخولها عبر استخدام “بروكسي” يكسر الحجب, ويُزيد من تعقيد عملية مراقبة الصفحات ومستخدميها.

منذ ذلك الزمن, وربما قبله بقليل, تزايد عدد مستخدمي هذه المواقع في سوريا أضعافاً, ومن جميع الأطراف, من الثوار وصولاً إلى مؤيديالنظام, والشباب الما بين بين. وانتشرت ظاهرة الأسماء المستعارة, لدى الجميع. هذا التخفّي الذي يُتيحه موقع “الفيس بوك” عبر قناع اسم مختلف, صورة مختلفة, شكّل لدى البعض هويّة أخرى. فكما أنّ الأقنعة في المسرح والعروض الكرنفالية في القرون الوسطى ليست سوى وسيلة لإخفاء الشخصية الحقيقية بكل جمالياتها ونقائصها, بحثاً عن تحرّر اجتماعي أو فكري من القيود التي تربط تلك الشخصية بمحيطها, ظهر في حالتنا السورية تأسيس صفحات لناشطين في الحراك الثوري بقناع مختلف باعتباره وسيلتهم للتحرّر من خوفهم الأمني بالدرجة الأولى بحثاً عن مُتنفّسٍ ولو وهميّ للحريّة.

عبر صفحاتهم “الزائفة” كتبوا للثورة أشعاراً وآراءً لم يجرؤوا على التعبير عنها بصوتهم الحقيقي, تضامنوا مع المعتقلين والشهداء, ونفّسوا عن غضبهم الآني, ثمّ أغلقوا الجهاز وعادوا إلى ممارسة يومياتهم التي لا تنتمي إلى الثورة بأي صلة. فهم لم ينزلوا إلى الشارع للتظاهر ولا حتى مرّة واحدة, لم يطلقوا صوتاً واحداً بوجه أي آخر لا يتفقون معه حتى في الرأي, لم يكونوا في أي اعتصام شموعٍ سلمي من أجل قضية سورية, صامت, مفتوح القراءات, وربما ذهبوا, راقبوا من بعيد وغادروا مع تقديرهم للوقت الذي يستغرقه وصول قوات الأمن السورية إلى المكان.

هذه المسافة بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي, بين الزمن الكرنفالي للاحتفال الثوري والزمن الواقعي للخوف والاضطهاد وصرخة الحرية, هي التي تشكّل- وهذه وجهة نظر من حق الأخصائيين النفسيين وحدهم الفصل فيها- أزمة الهويّة لدى “ثوار الفيسبوك” كما أسمتهم إحدى ناشطات الحراك الميداني من مدينة درعا. ويمكن الوقوف على هذه الملاحظة في الفصل العفوي ما بين “ثوار الفيسبوك” و”ثوار الشارع”, بين الحقيقي وصورته, بين الأصل والاستنساخ كما يقول “افلاطون”, في التعليقات المتكررة على الموقع نفسه, وفي الأحاديث العابرة للناشطين الميدانيين وسواهم, والأهم في الفعاليّة الناتجة عن كل حراك وهمي “إلكتروني” أو مادي على الأرض.

 إلاّ أنّ سبب العجز عن الإبداع والخلق هنا شخصيّ تماماً, مرتبط بذات المُستنسِخ الذي يحاول انتحال هويّة شخص لا يُشبهه في شيء: شخص شجّاع, جريء, واثق بنفسه, عدائي حتى في بعض اللحظات, تصل الحدّة في آرائه العامة ربما حد الوقاحة. هذا التطرّف الذي تؤمنه حريّة التخفي خلف القناع مفهومة تماماً, لعكس كل ما يحتاج هذا الشخص أن يكونه, ما يتمنى أن يكونه, وما يعجز عن أن يكونه. ربما بمثل درجة الجنون والصخب والعنف والبذائة التي كانت تسود احتفالات الكرنفال حيث التمرّد على جميع أشكال السلطات الرسميّة من الكنسية إلى السلطة الاجتماعية القامعة للرغبات الفرديّة. في زمن الاحتفال الكرنفالي يتم إنتاج عالم مقلوب عن كل ما هو حقيقي, ببؤس ذلك العالم الحقيقي وقحطه وقسوته.

بعد قرابة العشرين شهراً من زمن الثورة السورية, لا نستطيع غض النظر عن هذا الشكل الذي يُثير كل هذه الأسئلة, بعد اعتقالات طالت مئات الآلاف وبعد كل هذا الدمار لمناطق سكنية بأكملها, بعد كل هذا الصخب والجنون والدم المسفوح الذي غدا بذاته سمّة يومية لحياة المواطن السوري العادي, يبدو مُقلقاً جداً تمسّك البعض بهويتهم الأخرى, بل وترتفع شحنة السلبية الواقعية لتطغى حتى على ابسط الممارسات اليومية, خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار الضغط الذي يولدّه الحراك الثوري مع امتداد تأثيراته واتساع دوائره لتضيق أكثر فأكثر مساحة ما يُعرف بالكتلة الصامتة. يبدو مُقلقاً أنّ البعض لا يزال غير قادر على التصالح مع ذاته وهويّته الأصلية, مع نفسه وخوفه على شخصه الذي يمنعه من الانتماء إلى فكرة أو مجموعة بشكلٍ صريح, يمنعه أن يوازن بين ما هو عليه في الحقيقة وبين ما يرغب في أن يكونه. علماً أنّ كثيراً من شباب لم يكونوا يوماً من روّاد عالم التواصل الاجتماعي, دمجوا وبشكلٍ عفويّ بين حراكهم على الأرض وبين صفحاتهم على الموقع التي تعكس آراءهم وممارساتهم, إنّ هذا التوازن بين العالمين يُلغي حالة القطعيّة بين زمنين افتراضي وحقيقي, وإن بشكلٍ نسبي, ففي بعض الأحيان تزيد الشحنة الانفعالية على الصفحات الاجتماعية عن الفعل المُقابل والمُمثِل لها على الأرض, وفي أحيان كثيرة هو العكس تماماً, حيث تصح النظرية القائلة: كلما كثر الفعل, قلّ الكلام.

مقالي في جريدة “حرية” الإلكترونية- العدد 9

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى