صفحات سورية

الاقتصاد السوري في الأربعين عاماً الأخيرة في دراسة تحليلية للدكتور منير الحمش


سوء توزيع الثروة والدخل وانحسار الطبقة المتوسطة وصعود الطبقة الجديدة

                                   الاقتصاد السوري في الأربعين عاماً الأخيرة، دراسة تحليلية للتطورات الاقتصادية والاجتماعية في سورية (1971 2010) أنجزها الدكتور منير الحمش في كتاب جديد، منشورات دار “منتدى المعارف” بيروت 2011.

تتناول الدراسة تطور الاقتصاد السوري وتراجعاته واخفاقاته في مرحلة تعتبر من أدق المراحل في التاريخ الاقتصادي السوري الحديث، وفي مرحلة ليست مفصولة عما سبقها أو مقطوعة الجذور وبالتأكيد لها صلة بما تعيشه سورية من أحداث يقفز فيها الوضع الاقتصادي والاجتماعي الى الواجهة.

وإذا كانت الثورات العربية بدأت في تونس مع محمد بوعزيزي من مطلب اجتماعي تطور الى منطق التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الحرية فيه في صلب التحولات والكرامة الاجتماعية جزء أساسي من منطق الثورات العربية، فيمكننا لقول إن الثورة السورية انطلقت من أداة فعل على العنف والقتل والتسلط والهيمنة وإعادة اعتبار الى الهوية الذاتية للكرامة الانسانية لأطفال درعا وهاهي فصول الأزمة السورية تتحول الى فصول اقتصادية واجتماعية مع تراجعات الاحتياط بالعملات الصعبة في البنك المركزي السوري واضطرار النظام السوري الى بيع قسم من احتياطي الذهب لديه لروسيا لتسديد ديونه أو لشراء أسلحة أو للنقص في القطع الصعبة لتغطية أعماله العدوانية ضد الشعب السوري في ثورته المستمرة والى الحدود القصوى.

أحداث وتطورات على الصعد كافة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وقعت قبل هذه الفترة أثّرت على مسيرة الأحداث وعلى المسيرة المستقبلية وعلى دور مختلف العوامل الجيوسياسية في تكوين سورية الراهنة من المرحلة العثمانية الى مرحلة الاستعمار الفرنسي، الى مرحلة الاستقلال، ومرحلة حكم حزب البعث والى الآن.

وتصح فيها مقدمة ابن خلدون “إن أحوال العالم الأمم، وعوائدهم، ونحلهم، لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر. إنما على اختلاف كل الأيام والأزمنة، وانتقال من حال الى حال”.

يتوزع الكتاب على ثلاثة فصول، يتناول الفصل الأول التطورات في الفترة 1971 1985، والفصل الثاني يتناول الفترة 1986 2000، والفصل الثالث يبحث في التطورات الحاصلة منذ بداية 2001 ولغاية 2010.

ما نريد أن نقوله إن مجموعة تراكمات اجتماعية واقتصادية تكون مدخلات لأزمات كبرى تكون قائمة على تصفية أوضاع داخلية أو منهجية سياسية متشددة أو اجراءات اقتصادية تقود البلاد الى مجموعة من الاختلالات في الموازين كافة. واحدة من الحقائق التي تركز عليها الدراسة أن النظام السوري فوّت على نفسه فرصة حقيقة أن يكون جزءاً من الاقتصاد العربي الحديث وفرصة مراعاة مبدأ التكامل الاقتصادي العربي في التخطيط الوطني وأعطاء الأولية لتشجيع المشاريع الاستثمارية العربية ومن خلال التوجهات القومية نفسها في علاقاتها مع باقي الدول العربية. ثم أن موقع سورية الجغرافي وسط مجموعة الدول العربية كان يؤهلها للعب دور مميز في هذه الدول والدول المجاورة غير العربية خاصة تركيا وإيران والدول الآسيوية الأخرى وعبر تركيا الى الدول الأوروبية لو عرف النظام الأسدي أن يعي دوره المتميز وحدود وطبيعة هذا الدور وحجمه بين السكان الحدوديين. وتقييم أفضل للأوضاع الدولية الخارجية والحاجات الداخلية للشعب السوري والحد من الاختلالات في التوازنات الاقتصادية والاجتماعية. ثم الأهم من ذلك ضعف الأداء أو تدني مستوى الأداء على المستويات كافة وتشظي القيادة المركزية لبشار الأسد قيادة كانت بالواقع أقرب الى الواجهة في تسيير الأمور منها الى الإدارة الحقيقية في ظل مراكز قوى مالية اقتصادية وأمنية وعسكرية وسياسية ساهمت في مجمل المشكلات التي تواجهها سوريا اليوم. وها هي السياسات الكلية تترك آثارها الكارثية على الأزمة السورية وما يعنينا في الدراسة هو اشارة المؤلف الى جذور الأزمة الاقتصادية في سورية والسياسات التي اتبعها الفريق الاقتصادي الحاكم والتي تخالف التحول نحو اقتصاد السوق الاجتماعي والفساد الذي فاقم الأزمة الداخلية والسياسات الخاطئة علماً أن الأزمة الاقتصادية في سورية بدأت قبل الأزمة المالية العالمية. والنتيجة أكثر من مليوني سوري 11,4% من السكان لم يتمكنوا من الحصول على حاجاتهم الأساسية من المواد الغذائية وغير الغذائية و13% أي 5,3 ملايين نسبة الفقر الاجمالي في سورية أي ان استهدافات الخطط الخمسية وسياسات التحرير الاقتصادي لم تصب شرائح تصل الى 14,5 بالمئة من الشعب السوري ومعدل بطالة وصل العام 2009 الى 14,34% ومليونين ونصف مليون مواطنة سورية ومواطن أصبحوا خارج البلد أي 8% من السكان يعيش خارج سورية 5,66 بالمئة من النساء!.

الأخطر من كل ذلك هو غير انخفاض الأجور والارتفاعات المتوالية للأسعار وتزايد الحاجة الى الانفاق، هو انتشار الفساد والاستئثار وارتفاع حجم الاقتصاد غير الرسمي أو الاقتصاد الموازي لأفراد عائلة الأسد وصحبها مع وجود درجة عالية رصيدها الكتاب من عدم اليقين حول الأرقام والمؤشرات الاحصائية والناتج المحلي الاجمالي والاستهلاك والادخار والاستثمار مما يؤدي الى عدم دقة وصحة السياسات الاقتصادية والمالية وما يعكسه ذلك من تهديد للأمن والسلم الاجتماعي وحتى السياسي.

هنا فصل من الكتاب عن سوء توزيع الثروة والدخل وانحسار الطبقة المتوسطة وصعود الطبقة الجديدة من شبيحة وسماسرة النظام. وشروح مهمة حول أوضاع المنطقة الشرقية حيث ولدت الثورة السورية الثانية بعد الاستقلال الأول.

اختيارات وتقديم: يقظان التقي

سوء توزيع الثروة والدخل

توصلنا الى بعض النتائج الهامة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، للسياسة الاقتصادية والمالية والتجارية التي تم انتهاجها في السنوات الأخيرة تلك السياسات التي يمكن دعوتها بأنها محابية للأغنياء، ولا تتماشى مع مصالح وطموحات غالبية الشعب.

وتتجنب الاحصاءات الرسمية البحث أو الاعلان عن توزيع الدخل والتغير الحاصل في توزيع الثروة، ودور السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية في ذلك.

لكن تقرير الفقر يشير الى توزيع الانفاق، مما يعطي مؤشراً (ولو أنه غير دقيق) للشرائح الاجتماعية. فهذا التقرير وزّع الشرائح الاجتماعية الى نسب عشرية. فالشريحة الدنيا التي تشكل 50 بالمئة من السكان بلغت النسبة التراكمية لإجمالي النفقات لديها 25,3 بالمئة بينما الشريحة الوسطى (30 بالمئة من السكان) بلغت هذه النسبة لديها 29,45 بالمئة، في حين أن الشريحة الأعلى (20 بالمئة) من السكان تصل نسبتها الى 42,25 بالمئة.

ومن الطبيعي أن تنسجم النتائج التي يسبق أن توصلنا اليها في ما يتعلق بتوزيع الناتج المحلي الاجمالي، مع هذه النتيجة حول توزيع الإنفاق.

فالشريحة من المشتغلين التي تحصل على أجور مع من يعيلونهم، وتصل نسبتها 80 بالمئة من السكان تحصل على نسبة تتراوح ما بين 18,4 بالمئة و24,3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن 20 بالمئة من السكان يحصلون على 81,6 بالمئة 75,7 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي. كما يقول تقرير الفقر إن 20 بالمئة من السكان (الأدنى انصافاً) استهلك 7 بالمئة فقط، في حين استهلك الـ20 بالمئة (الأكثر ثراء) 45 بالمئة من جميع أنواع الإنفاق. مما يعكس تراجعاً في عدالة توزيع الدخل.

انحسار الطبقة المتوسطة وصعود الطبقة الجديدة

إن النتائج التي توصلنا اليها، تؤكد التراجع في عدالة توزيع الدخل لصالح الفئات الأغنى، من جهة، ومن جهة أخرى، فإنها أظهرت التوسع الحاصل في الفقر وانحسار الطبقة الوسطى.

فمنذ مطلع التسعينيات، ومع تصاعد عمليات الانفتاح الاقتصادي والأخذ باقتصاد السوق، بدأت الطبقة الوسطى تتقلص مع اتساع قاعدة الفقر، وأخذت الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتصاعد. فسياسة تشجيع الاستثمار وموالاة أصحاب رأس المال ساعدت على تمركز رأس المال دون مراعاة قاعدة توسيع الملكية، وأصبحت هذه السياسة تتعارض مع سياسة تعزيز صغار الكسبة التي درجت عليها السياسة الاقتصادية السورية منذ عام 1963.

لعبت الفئات المتوسطة، تاريخياً، وفي جميع بلدان العالم، دوراً رئيسياً في تقدمها وتنمية مجتمعاتها. وفي سورية لعبت هذه الفئات دوراً بارزاً على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وكانت ثورة الثامن من آذار/مارس 1963 قد أوضحت في سياساتها وبياناتها، أن الحامل الاجتماعي للنظام هو الشريحة الواسعة من السكان التي تشمل: العمال والفلاحين والحرفيين وصغار الكسبة والعسكريين، وفي أحيان كثيرة كانت ترد فئة البورجوازية الصغيرة الوطنية، وهكذا انحسرت مساهمة القطاع الخاص في الرأسمال الثابت للاقتصاد الوطني من 46 بالمئة عام 1963 الى 30 بالمئة عام 1970، ما تراجعت مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الاجمالي من نحو 85 بالمئة عام 1963 الى حوالى 30 بالمئة عام 1970 بالأسعار الثابتة لنفس العام… إلا أن أسلوب العمل مع هذه المقاولات، نجم عنه تشكل الرأسمالية السورية الجديدة.. رغم أن هناك قانوناً يمنع التعامل مع الشركات الأجنبية عن طريق الوكلاء. لكن ظهور هذه الفئة الجديدة، رافقه بداية انتشار الفساد كظاهرة، الذي لم يوقفه تشكيل لجنة المحاسبة ولا تأسيس محاكم الأمن الاقتصادي وكان الإخفاق في مكافحة الفساد ومحاسبة المسؤولين، إيذاناً بفتح باب الفساد على مصراعيه. فخرج بعض رجال الأعمال وبعض المسؤولين في الشركات من السجن، الى قطاع الأعمال الواسع، حيث بدأ يظهر على نحو يكاد يكون علنياً، التزاوج والتلاحم فيما بين قشرة بدأت تتسع من القطاع الخاص، وأخرى من رموز البيروقراطية الحكومية، وبدأ ينمو أيضاً دور القطاع الخاص من خلال زيادة مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي، الذي ارتفع من 30 بالمئة عام 1970 الى 37 بالمئة عام 1990. هذا على الرغم من أن قسماً كبيراً من عمولات الوسطاء في إقامة المشروعات الصناعية وفي العلاقة مع الموردين الأجانب لمؤسسات التجارة الحكومية، قد هرب الى الخارج، أو أنه لم يورد أصلاً الى الوطن، وإنما شكل اقتطاعات من الاقتصاد الوطني، تم توظيفها في الخارج، وبذات الوقت.

وهكذا لعب الفساد دوراً مهماً في تراكم الثروة لدى البعض من أفراد القطاع العام والبيروقراطية. وكان الرديف الثاني لتكوين الثروات لدى القلة، ناجماً عن اضافة أراض جديدة الى المخططات التنظيمية للمدن، والمضاربة بالأراضي وبالعقارات فارتفعت أسعارها، وكانت فرصة لأصحابها وللوسطاء العقاريين لجمع ثروات هائلة، تم رفدها للتراكم الراسمالي المحلي، وللاستثمار داخل وخارج البلاد.

وفي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، أصبح الاقتصاد الوطني أمام مشكلات جديدة تمثلت في:

[تأخر إنجاز المشروعات الصناعية الجديدة (التي تم التعاقد عليها منذ منتصف السبعينيات)، وعدم وصولها للطاقات التعاقدية، أو لوجود مشكلات فنية نتيجة سوء التنفيذ.

[توقف المعونات العربية اجمال المساعدات العربية لسورية (1974 1985) بلغ 11 مليار دولار أميركي

[ترهل القطاع الحكومي.

[تراجع الصادرات وتزايد المستوردات وتفاقم العجز التجاري.

[تصاعد عجز الموازنة.

[انخفاض رصيد القطاع الأجنبي الى أدنى المستويات.

أمام هذه الوضع، انبرى (دعاة القطاع الخاص واقتصاد السوق) في الحكومة، الى تقديم حلولهم التي تركزت على أمرين:

الأول: تقليص الانفاق (التجاري والاستثماري) الى أقصى الحدود وانتهاج سياسة مالية انكماشية.

والثاني: التوسع في إعطاء المزيد من المهام للقطاع الخاص، والسماح للتجار باستيراد العديد من المواد الاستهلاكية التي كانت محصورة من حيث الاستيراد والتوزيع بمؤسسات التجارة الداخلية والخارجية.

وكان هذا الإجراء، سبباً جديداً لتصاعد دور فئة من القطاع الخاص في الاقتصاد، عن طريق المتاجرة والاحتكار في المواد الحياتية، مما زاد من قدرتها على اجراء تراكم جديد في رأس المال، عززه قيام هذه الفئة بالانخراط في تنفيذ اتفاقية المدفوعات مع الاتحاد السوفياتي، فاستطاع قلة من التجار تحقيق أرباح هائلة خلال فترة بسيطة من أواخر الثمانينيات وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي من خلال تحالفهم مع فئة من البيروقراطية السورية والبيروقراطية السوفياتية.

رجال الأعمال الجدد

وفي منتصف التسعينيات من القرن الماضي، بدأ ظهور (أصناف جديدة) من القطاع الخاص، الذين يمكن دعوتهم برجال الأعمال الجدد، الذين تبلور موقعهم الجديد في الاقتصاد والمجتمع بعد السير قدماً في ترسيخ السياسات الاقتصادية الانفتاحية، في ظل الخطتين التاسعة والعاشرة.

وهنا لا بد لي من التوقف عند مصطلح (رجال الأعمال) فهو تعبير جديد بدأ يحمل في طياته “بعداً سياسياً” ويرتبط مفهومه بمفهوم “النخبة” ويقابله لغوياً من الناحية الاقتصادية تعبير “القطاع الخاص” لكن في فئات هذا القطاع العليا، أو ما يكن دعوته “القطاع الخاص الكبير” فهو لا يشمل جميع فئات القطاع الخاص، إنما الشريحة العليا الفاعلة منه (بنفوذها المادي والمعنوي). أما اجتماعياً فيشمل هذا المصطلح أصحاب راس المال أو رؤوس الأموال أي “الطبقة الرأسمالية” التي أصبح يرتبط دورها بتصاعد نفوذها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وبظاهرة التزاوج بين المال والسلطة، ووصول هذه الشريحة من أصحاب رأس المال الى لعب دور أساسي في السلطتين التنفيذية والتشريعية. إما مباشرة، أو على نحو غير مباشر بواسطة ممثليها في هاتين السلطتين.

من هنا يمكن التمييز بين ثلاث فئات أو أشكال للقطاع الخاص السوري يرتبط منشأ كل منها بحقبة تاريخية، تحكمها ظروف خاصة بها:

الفئة الأولى: التجار والصناعيون التقليديون، وهم الفئة من الرأسمالية الوطنية التقليدية التي بقيت ناشطة ضمن الظروف المتاحة، من خلال وجودها في غرف التجارة والصناعة، رغم عمليات التحويل الاشتراكي التي تمت في ستينات القرن الماضي.

الفئة الثانية: الوسطاء والسماسرة الذين بنوا ثروات هائلة من الوساطة والسمسرة من خلال علاقتهم بالشركات الأجنبية لإقامة مشاريع التنمية أو لتوريد المواد للمؤسسات الحكومية. وأصحاب العقارات الذين بنوا ثرواتهم على نحو استثنائي (ريعي) من الفساد ومن ارتفاع أسعار الأراضي، والمضاربة، وتضم هذه الفئة العديد من الأشخاص الذين بنوا ثروات طائلة من التهريب والأعمال غير المشروعة، ومن المتاجرة والاحتكار (بمن فيهم من حقق عائدات هائلة من خلال التعامل بموجب اتفاقية المدفوعات مع الاتحاد السوفياتي). ونمت هذه الفئات عموماً في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

الفئة الثالثة: هم رجال الأعمال الجدد، الذي بدأوا بالتشكيل مع الانفتاح الاقتصادي، ولبسوا لبوس العولمة والتحديث، وقادوا مرحلة الانفتاح باتجاه الأعمال السياحية والعقارية والمضاربات والاتصالات، وبنوا علاقات اقتصادية وثيقة مع الخارج. وتجمعهم مع البيروقراطية الحكومية علاقات وثيقة، تبلور من خلالها نشوء ما يمكن دعوته “الطبقة الجديدة” التي تم تصنيعها في “أنابيب الرأسمالية”.

وإذا كان من الصعب تقدير الحجم الاقتصادي لهذه الطبقة، إلا أنه يمكن ملاحظة تكرار أسماء البعض منهم من خلال المساهمين الأساسيين في المصارف وشركات التأمين الخاصة، والشركتين القابضتين (الشام وسورية) وشركتي الاتصالات (الموبايل) ويقدر عددهم بما يتراوح ما بين 150 و200 رجل أعمال جديد.

فشركة الشام القابضة تتكوّن من 71 رجل أعمال سوري، وسورية القابضة تتكون من 23 رجل أعمال. وتتركز مشاريع الشركتين القابضتين في مجال السياحة والعقارات والمصارف والطاقة والصحة. فهي إلى جانب ما تتمتعان به من نفوذ، فإن حجمها المالي يزيد من نفوذها “رأسمال شركة الشام 350 مليون دولار (17,5 مليار ل.س) وشركة سورية القابضة رأسمالها 10 ملايين دولار (4 مليارات ل.س)”.

والملاحظ ان هذه الفئة (من رجال الأعمال الجدد) لم تتوجه نحو الانتاج العيني، وإنما نحو قطاع المال والمصارف والاتصالات والعقارات والسياحة بوجه خاص.

فماذا نقول، (في سورية) ونحن نشهد تكدس الأموال في أيد قليلة من رجال الأعمال الجدد، مع انحسار الطبقة الوسطى، وتوسع دائرة الفقر؟! إن الصفة الغالبة على أنشطة رجال الأعمال الجدد، هي في المجالات التي تمكنهم من تعظيم الأرباح، وما يلي ذلك من تهريب الأموال إلى الخارج، مع غياب المسؤولية الاجتماعية، حيث يتعامل هذا الغياب مع تراجع الإنفاق الاجتماعي الحكومي النسبي، خاصة في مجال التعليم والصحة، مما يقودنا الى “مجتمع المخاطر” نتيجة للتفاوت الكبير بين الدخول مع عدم عدالتها، الأمر الذي يهدد السلم الاجتماعي، ويضعف الاقتصاد، وبالتالي يضعف الدولة.

لقد أدت السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية الى حراك اجتماعي، تم تحويل الحامل الاجتماعي فيه للنظام من الفئات المتوسطة والفقيرة المتمثلة في الجمهور العريض من الفلاحين والعمال والحرفين وصغار الكسبة والعسكريين والبورجوازية الصغيرة، إلى الفئات الغنية من التجار والوسطاء وأصحاب الملايين الاستثنائية ورجال الاعمال الجدد.

“المال يمكن أن يتكلم، ولكن هل باستطاعته الكتابة”؟

هذا السؤال البليغ حافل بالدلالات بالنسبة لتحليل ما جرى ويجري على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي في سائر البلدان النامية، التي انزلقت إلى قاع العولمة الاقتصادية والمالية. وهو من التساؤلات الهامة التي علينا طرحها في مرحلة التحولات التي يعيشها الاقتصاد والمجتمع في سورية. خاصة فيما يتعلق بدور “النخب المهنية والبيروقراطية والأكاديمية” وتكوينها، تلك النخب التي لعبت دوراً هاماً في التاريخ السوري الحديث.

وقد لحقت بالطبقات الثلاث الرئيسية (العليا والوسطى والدنيا) في سورية تحولات جوهرية، بدأت في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ولكنها تبلورت منذ مطلع الالفية الثالثة أي في خضم الخطتين التاسعة والعاشرة، ومنذ الإعلان عن الإصلاح الاقتصادي الليبرالي الجديد. وانتهاج سياسة اقتصاد السوق.

فقد برزت، من خلال التحولات، عملية حراك اجتماعي في العمق أظهرت فئة من الأغنياء الجدد، حصلوا على ثرواتهم من خلال اعمال الوساطة والمضاربة والمقاولات الظاهرة ومن الباطن، ومن ارتفاع أسعار الأراضي، ومن الفساد الكبير والصغير على السواء، وفي ظل الأعمال السافرة والمستترة التي تتم في اطار ما يدعى الاقتصاد الأسود، واقتصاد الظل.

إن معظم هذه الطبقة الجديدة، لم تحصل على ثرواتها من خلال عمليات التراكم الانتاجي الانمائي على نحو ما فعلت “رأسماليات” بلدان نامية اخرى مثل بلدان جنوب شرق آسيا، ولهذا فإنّ هذه الطبقة لا تزال غير واضحة المعالم، وليس من احصاءات دقيقة حول حقيقة ثرواتها، وترتبط بعلاقات وثيقة غير معلنة مع الاوساط النافذة. وهي تشعر انها بحاجة الى حماية، ولكنها تتصرف على نحو غير مسؤول، وقد اشاعت في البلاد سلوكاً استهلاكياً استفزازياً واكب افتتاح العديد من المواقع السياحية والمنتجعات وبناء القصور والمزارع الملحقة.

ويرافق، هذا النمو السريع والهائل للثروات لدى هذه الفئة، نوع من “الغسيل الاجتماعي” لأصحابها، فنجدهم يستخدمون “سلطان المال” لكسب مواقع في المجتمع ومنتدياته، فيدخل الجيل الثاني منهم المجتمع من أبوابه، مما يجعل من العسير البحث في “مشروعية الثروات” وآليات “الثراء السريع” والتفريق ما بين (الحلال) و(الحرام) فتصبح الثروات الجديدة خليطاً من (المشروع) و(الممنوع) و(الأبيض) و(الأسود) فيصبح سلوك الكسب السريع سلوكاً مقبولاً من الناحية الاجتماعية حيث تطغى المصالح الخاصة على المصالح العامة.

أما الطبقة الوسطى التي كانت عنواناً للنزاهة والانتاج والثقافة والتعليم، فقد تشرذمت وتفككت وفقدت جانباً هاماً من عزتها وعصاميتها حيث ضاق الرزق، ففقدت مكانتها الاجتماعية المتميزة، وانهكتها مطالب الحياة وقسوتها ووضعها المعنوي والمادي.

وعلى صعيد “الطبقات الشعبية الدنيا” فإنها مع اتساعها، واحتضانها لأفواج جديدة من الفقراء والعاطلين عن العمل والمتساقطين من الطبقة الوسطى، أصبحت تعاني مزيداً من التهميش في سياق غير متكافئ مع متطلبات الحياة.

وإذا ما عدنا الى السؤال الذي وضعناه عنواناً لهذه الفقرة، نجد أن (المال) أصبح يتكلم في سورية، فقد أصبح له دعاته ومروجو أفكاره وثقافته (أي ثقافة المال) وممثلوه في الادارة الاقتصادية. ولكننا قلما وجدنا أحداً من (الأثرياء الجدد) يكتب، ليعلن عن فكره وثقافته، ويعلن عن برامجه وعما يريده. فأغلب هؤلاء إما جهلة، او أنهم لا يمتلكون حجّة لها قوة الإقناع، فتراهم يتوارون خلف بعض الأقلام المأجورة، من أنصاف المثقفين الذين تتلقفهم المؤسسات الدولية، أو الذين انخرطوا في الأعمال البيروقراطية.

العلاقة الحميمة بين السلطة والمال، معروفة في التاريخ القديم والحديث، فإلى متى تظل الفئة الجديدة من الأثرياء ومن أبناء الطبقة الجديدة، تقبل بعلاقة عن طريق (الحبل السري) مع السلطة؟ فإذا كانت راضية بأداء ممثليها في الادارة الاقتصادية اليوم، فهل سيستمر هذا الرضا في المستقبل؟

[أوضاع المنطقة الشرقية

تعترف الحكومة في تقرير أداء الخطة الخمسية العاشرة، بأنّ الخطة لم تحقق الأهداف الأساسية في معالجة الخلل بين مؤشرات التنمية في المنطقة الشرقية، مقارنة مع المتوسطات على المستوى الوطني، وكالعادة، عندما يتم (تركيب) مبرر للفشل، فقد تم إلقاء المسؤولية على الجفاف. (الذي اسهم بشكل ملموس في عرقلة تحقيق أهداف الخطة).

والواقع فإنّ فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وتوجهاتها، هو السبب الاساسي في “فشل الخطة في معالجة الخلل في المنطقة الشرقية”. ليس فقط فشل السياسات، وإنما هذا الفشل الذي يعبر تماماً عن (مأساة) الخطة والحكومة، وعن (بؤس) الخطة و(بؤس) الحكومة. كما أنه يلقي ضوءاً، واضحاً على (فشل) الإدارة الحكومية، وعلى كيفية تناولها وتعاملها مع قضايا المجتمع والفساد.

تتكون المنطقة الشرقية من ثلاث محافظات حدودية هي الحسكة والرقة ودير الزور، في الشمال الشرقي توجد محافظة الحسكة التي يحدها من الشمال تركيا ومن الشرق العراق. مركز المحافظة مدينة الحسكة التي يمر منها نهر الخابور، ويتبع لها 5 مناطق و19 ناحية و1193 قرية و1607 مزرعة. ويبلغ عدد سكانها (حسب سجلات الأحوال المدنية في 1/1/2010) 1,540 مليون نسمة بنسبة 6,5 بالمئة من مجموع السكان.

وفي وسط المنطقة وشمالها تقع محافظة الرقة، التي يحدها من الشمال تركيا، وتحيط بها محافظات حلب والحسكة ودير الزور وحماة ومركز المحافظة مدينة الرقة وتقع على الفرات، ويتبع لها 3 مناطق و12 ناحية و465 قرية و1057 مزرعة. ويبلغ عدد سكانها 966 ألف نسمة بنسبة 4,1 بالمئة من اجمالي عدد السكان.

أما المحافظة الثالثة، فهي دير الزور، التي يحدها العراق من جنوبها وجنوبها الشرقي، ومدينة دير الزور هي مركز المحافظة، وتقع على الفرات، يتبع لها ثلاث مناطق و14 ناحية و86 قرية و68 مزرعة. ويبلغ عدد سكانها 1,623 مليون نسمة، بنسبة 6,8 في المئة من اجمالي عدد السكان.

هكذا يمكن القول ان نسبة سكان المنطقة الشرقية إلى اجمالي عدد سكان البلاد تبلغ 17,4 في المئة، في حين ان مساحتها الاجمالية تبلغ بحدود 7,6 مليون هكتار أي بنسبة 41 في المئة من اجمالي مساحة سورية. أما المساحات القابلة للزراعة فهي 2,6 مليونا هكتار بنسبة 43 في المئة ويبقى 41 في المئة مروجا ومراعي و20 في المئة حراجا.

والمنطقة الشرقية تعتبر أهم المناطق الانتاجية في البلاد، فهي تسهم بإنتاج 68-78 في المئة من الانتاج الاجمالي للقطن، وتنتج حوالى 60 في المئة من انتاج القمح و33 في المئة من انتاج الشوندر، وبنسبة 62-72 في المئة من انتاج الذرة الصفراء.

وفيها ثروة حيوانية هامة، تشمل 33-39 في المئة من اجمالي عدد رؤوس الماعز، و36-41 في المئة من اجمالي عدد الأغنام، و31-34 في المئة من اجمالي عدد الأبقار، فضلاً عن ذلك فالمنطقة الشرقية تعتبر المنتج الرئيسي (ويكاد يكون الوحيد) للنفط والغاز.

ووجود المنطقة على حدود تركيا والعراق، يجعل لها اهمية جيوسياسية خاصة، ومما يزيد من أهميتها تاريخها الحضاري وموقعها الجغرافي الذي أكسبها عبر التاريخ اهمية سياسية واقتصادية وثقافية، مما يمنحها ميزة اضافية كموقع سياحي وتراثي.

وقد عانت هذه المنطقة (تاريخياً) من إهمال، يكاد يكون متعمداً من قبل الحكومات المتعاقبة، رغم هذه الامكانات الهائلة، ورغم ما تقدمه للاقتصاد الوطني.

وإذا كان الجفاف هو السبب الذي تدعيه الحكومة لتبرير ما آلت إليه الامور في هذه المنطقة الحساسة، فإنّ الجفاف ليس جديداً، ولطالما مرّت على البلاد وعلى المنطقة الشرقية موجات عديدة من الجفاف، وكانت في كل مرة، تستطيع ان تتجاوز تلك المحنة العابرة. إذن لماذا تصل الامور في هذه المرحلة الى ما وصلت إليها؟ لماذا تخلو القرى (في الجزيرة خاصة) ويرحل اهلها الى المناطق الداخلية والجنوبية بأعداد تقدر بـ300 ألف نسمة؟ لماذا تصل حالات الفقر والجوع والعطش الى ما وصلت إليه؟ لماذا ترتفع الامية الى تلك المستويات العالية؟ لماذا يتسرب الأطفال من مدارسهم؟ لماذا يلجأ هذا العدد الكبير من الاسر الى أطراف المدن الداخلية ليعيشوا في خيم مرقعة حياة البؤس والعوز؟ لماذا يطوف أولادهم شوارع المدن ليعيشوا حياة التسول والحرمان؟

بالتأكيد ليس الجفاف، وحده، هو السبب.

لكن لماذا لم تستطع الحكومة، باعترافها، معالجة ذلك؟ وتثبيت السكان في أرضهم، ومنحهم فرصة حقيقية في الحياة الحرة الكريمة؟

إن المشكلة، نتيجة تراكم تاريخي، فشلت الحكومات المتعاقبة عن معالجته، وتفشل الحكومة الحالية عن التصدي لها، بسبب سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، التي حصرت همّها الأساسي في إحداث تحول الاقتصاد والمجتمع نحو اقتصاد السوق الحر، فأهملت كل ما عدا ذلك، فقد كانت تتحرك في كل اتجاه من اجل تحرير التجارة وعقد الاتفاقات وتخفيض الضرائب على الأغنياء، كان همها (وفقاً لنصائح المؤسسات الدولية والاتحاد الأوروبي) تحقيق ما يدعى (الاستقرار الاقتصادي والمالي) بتخفيض عجز الموازنة، ولو صرفت جزءا من وقتها الذي كرسته لمؤتمرات جذب الاستثمار المحلي والاجنبي للوقوف على مشاكل الناس وهمومهم في المنطقة الشرقية لما حدث ما حدث. كان همها السياحة والعقارات وتكديس الثروات لأصحاب الأعمال، والحصول على رضاهم وثناءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولم يكن في برامج هؤلاء جميعاً هموم الناس في المنطقة الشرقية، التي كان ولا يزال النظر إليها انها “كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول”. إن أوضاع المنطقة الشرقية مثل آخر على فشل الحكومة وفشل سياساتها وإخفاق خططها.

لو كان هناك ديموقراطية تشاركية؟

[ ضمن توجهات المسار التنموي نحو الديموقراطية التشاركية، يفترض ان يتجه نظام الحكم نحو توسيع قاعدة المشاركة الشعبية، وفي مرحلة نضوج متقدمة يفترض ان تعزز الحياة السياسية في البلاد، باتخاذ خطوات عملية بالسماح بالأحزاب السياسية المعارضة، ومنح المزيد من الحريات خاصة في مجال حقوق الانسان والتوسع في إقامة منظمات المجتمع المدني، وتعميق فصل السلطات وإقامة الحكم الرشيد.

[ في ضوء التجارب التاريخية في سورية، والتطور الاقتصادي فيما بين 1970 2005 فقد وضع هدف تحقيق معدل نمو سنوي وسطي خلال الفترة 2006-2025 (7 في المئة) وذلك باعتماد أسعار عام 2000 الثابتة، وهذا يعني وصول الناتج المحلي الاجمالي عام 2025 الى اربع مرات ما هو عليه عام 2005 .

النفقات الاستثمارية

جرى توقع أن تحافظ على نسبتها من الناتج وتشكل عام 2025 (12 في المئة من الناتج) يعود ذلك الى تزايد كفاءة استخدام رأس المال مما ينعكس على معدل النمو الاقتصادي إيجابياً.

وبذلك فإنّ العجز في الموازنة العامة يتوقع ألا يتجاوز 8 في المئة من الناتج في المتوسط.

[ يتوقع ان تزداد الواردات من الخدمات السياحية من 2 في المئة من الناتج المحلي عام 2005 الى 5 في المئة كمتوسط خلال الفترة و7 في المئة عام 2025.

[ أما الواردات من الخدمات الاخرى والتحويلات الجارية، فيتوقع ان تصل نسبتها الى 8 في المئة في المتوسط، وهي نسبة تقل عما كانت عليه عام 2005 الى 15 في المئة.

بالتأكيد هذه التوقعات ولغياب الشفافية والتشاركية الديموقراطية ذهبت مع الريح ولصالح مصطلح رجال الأعمال الجدد، في طغمة الأسد وعائلته..

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى