إيلي عبدوصفحات الناس

الانتحار الموثق وفيديوهات الموت اليومي/ إيلي عبدو

 مشهد السوري عمر حسين أحمد وهو يسقط من الطابق السادس من دون أن يتمكن أحد من انقاذه فتح شهية الكاميرا الصغيرة على توثيق نوع جديد من الموت. فالشاب الذي يتحدر من مدينة الميادين بريف دير الزور، ويبلغ من العمر 27 عاماً، قرر الانتحار، جاعلاً من موته حدثاً طوعياً ينافس تلك الفيديوهات الكثيرة التي توثق الموت اليومي والكثيف في بلاده.

 بصرف النظر عن أسباب انتحاره فإن أحمد صنع موتاً احتجاجياً بامتياز، موتاً لا ينتظر طيران أو قذائف أو أقبية تعذيب لإنجازه. الموت الطوعي الشخصي يقف بالضد من الموت العبثي العام. الأول يختار تفاصيله بعناية، يصرّ على المتابعة حتى النهاية بدون خوف أو وجل، فيما الثاني يحصل بسرعة كبيرة ويطغى عليه الخوف منذ البداية. يمكن ملاحظة ذلك، بعد إجراء مقارنة بسيطة بين الفيديو الذي انتشر على “يوتيوب” ويظهر عمر يتدلى من سور البناء المرتفع نحو ستة طوابق في منطقة صربا في مدينة جونيه وبين أي فيديو آخر جرى تصويره في سوريا على وقع القصف والدمار.

 ثمة موتان يحتج أحدهما على الآخر عبر تثبيت فكرة الإرادة، فعمر أراد موته، خطط له وأنجزه من دون أن يتمكن أحد من تغيير شيء. المحاولات الفاشلة التي قام بها البعض لإنقاذه على ما يظهر الفيديو الذي وثق الحادثة، تدل أن موت هذا الشاب محكم لا يحتمل أي إنقاذ. خصوصاً أن أفقاً درامياً فتح أمام واقعة الانتحار لحظة تصويرها. الدراما المتمثلة بالنداءات المتكررة من قبل منقذي الشاب وتجاهله لها تضيف على الحدث معنى إراديا جديدا يضاف إلى ذلك الذي صنعه عمر نفسه عبر قرار انتحاره.

 كاميرا “الموبايل” التي التقطت الحادثة لاحقت الجسد وصولاً إلى لحظة ارتطامه بالشارع، حدث ذلك بسرعة خاطفة استلزمت إعادة المشاهدة مرات لفهم ما جرى أو استيعابه نفسياً. فعل التصوير ليس توثيقياً فقط، هو أقرب إلى مضاعفة الواقعة، منحها أبعاداً مشهدية تجعل مما جرى جزء ملازماً لذاكرتنا الصورية لا ينقضي بوقت قريب. من المؤكد أن وجود معادل درامي للحادثة لم يكن في ذهن عمر وكذلك في ذهن الرجل الذي صور حادثة الانتحار. قد يكون غرض التصوير انقاذياً. هناك من أراد أن ينقذ فعل الانتحار المجهول، فلاحق التفاصيل وصوّرها. لكن على الأرجح فإن عمر بقي خارج الميديا التي صنعت موته، مصراً على منح انتحاره معنى احتجاجيا يخرج من حسابات الخوف والرهبة.

الموت انتحاراً بات أمراً  يدعو للسخرية عند السوريين وفق ما تقترحه الصفحة الجديدة في “فايسبوك”، “رحلة الانتحار الجماعي”، مستفتية مشاركيها بين خيارات عديدة لانتقاء طريقة الموت الذي يريدونه ( البراميل المتفجرة – الصواريخ الفراغية – السيارات المفخخة – صواريخ سكود – العودة إلى حضن الوطن).  يقول مؤسس الصفحة عبد الحكواتي لـ”المدن” إنه “لم يقو على النوم بعد مشاهدة فيديو انتحار المواطن السوري في لبنان ما شكل عندي دافعاً قوياً لإنشاء هذه الصفحة”، مضيفاً “وجدت إن السخرية هي أفضل علاج لهذا الموت الذي يصيب السوريين يومياً. السخرية تعمل بهدوء على تحطيم رهبة الموت وقسوته”.

 الحكواتي الذي يتنقل بين المناطق السورية المحررة يؤكد أنه “بعد محاولته الانتحار ثلاث مرات أصبحت هناك صداقة بيني وبين الموت”، موضحاً “كنت أعدل عن فكرتي مفترضاً وجود أمل ما سيغير من سوداوية الواقع”. ويبدي الحكواتي عدم اهتمامه بالرواج الذي ستصل إليه الصفحة بين مشتركي “فايسبوك” لأن “الهدف من الصفحة معرفة أسباب الخوف عند اليائسين الذين يفكرون في الانتحار”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى