أكرم البنيصفحات سورية

الانتخابات الأميركية والثورة السورية


                                            أكرم البني

بغض النظر عن الفائز في الانتخابات الأميركية، إن كان أوباما أم منافسه الجمهوري رومني، يبدو لافتاً انحسار آمال السوريين وانخفاض سقف توقعاتهم بشأن موقف حاسم للرئيس المنتخب من الحدث السوري، ربما بسبب شيوع إحساس بأن البيت الأبيض، الذي استمر في استرخائه المخزي وإحجامه لأكثر من عام ونصف العام عن حماية المدنيين السوريين واستهتر بما يحل بهم من فظائع ودمار وخراب، لن يكون وفياً إلا لمصالح نخبة أميركية أنانية وعاجزة أخلاقياً عن اتخاذ أي تدبير يساهم في وضع حد لهذه المأساة الإنسانية.

وربما بسبب عدم وجود فوارق جوهرية بين موقفي المرشحين من الوضع السوري، وتناوب كل منهما على تبني الحجج والذرائع ذاتها لتبرير سلبية واشنطن وتركها الجرح السوري مفتوحاً، مثل الإصرار على العمل من داخل مؤسسات المجتمع الدولي واحترام قرارات مجلس الأمن ودعم خططه ومبادراته في معالجة الوضع السوري، ومثل التذرع بتفكك العمل المعارض وتشتت رؤيته السياسية، أو الخشية من بديل قادم يهدد حقوق الأقليات، بما في ذلك المبالغة في خطر تسلل جماعات القاعدة إلى بلاد الشام وسعيها لقطف ثمار الحراك الشعبي.

ولا يغير في الأمر تفاوت حدة المرشحين في الهجوم على الفيتو الروسي، أو في وتيرة التصريحات التي تدين العنف المفرط وتطالب برحيل النظام، أو في الدعوات لتشديد العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية على أهم الشخصيات السلطوية ومحاسبتهم على ما ارتكبوه، أو في الإشادة اللفظية بالشعب السوري والتغني بشجاعته والوعود بتقديم الدعم العسكري للمعارضة المسلحة وأشكال من المساندة للحراك الثوري لتمكينه من تحقيق طموحه في العيش بحرية وكرامة.

والحقيقة، ثمة أسباب ومصالح متضافرة وراء ما يصح تسميته بنهج خاص للسياسة الأميركية في التعاطي مع الحالة السورية وهي أشبه بمحددات موضوعية سوف تشكل الضابط العام لسياسة الرئيس المنتخب إن كان أوباما أو رومني.

أولاً، اختلاف ترتيب الأولويات لدى الإدارة الأميركية واحتلال الوضع الداخلي والهموم الاقتصادية والاجتماعية مرتبة متقدمة على حساب تراجع ملموس للسياسة الخارجية وفق حسابات تتعلق بالرأي العام الذي ذاق مرارة الثمار في العراق وأفغانستان، وانقلب مزاجه ضد تفعيل الدور الخارجي لبلاده ومنحه أسبقية على حساب المشكلات الداخلية.

والقصد أن تجنب دور عالمي نشط والنزعة إلى الانكماش والانزواء لدى أكثرية الشعب الأميركي ستكبل بلا شك الرئيس المنتخب، وتشكل ضغطاً مستمراً عليه كي يتجنب أي مغامرة أو منزلق، وتكرهه تالياً على الاستمرار في أسلوب القيادة من الخلف لمعالجة بؤر التوتر وضمان استمرار الهيمنة الأميركية على العالم.

إن مزاج الشعب الأميركي اليوم لا يميل إلى تورط عسكري أينما كان ولأي سبب كان، والأميركيون الذين سارعوا لإنهاء حقبة الجمهوريين لأنهم يريدون إنهاء الحروب وسحب جنودهم من ميادين القتال، هم الآن ومع تفاقم مشكلاتهم الاجتماعية أكثر استعدادا للتخلي عن أحداث لا تمسهم مباشرة، وتجنب أي دور خارجي قد يدفعون ثمنه من شروط حياتهم وعافية اقتصادهم. وبعبارة أخرى فإن الإدارة الجديدة للبيت الأبيض، التي فقدت الكثير من حيويتها بسبب أزمتها الاقتصادية وما عانته في العراق وأفغانستان، لن تذهب بعيداً في تعاطيها مع الوضع السوري، ولن نشهد تحولاً دراماتيكياً في مواقفها بعد الانتخابات، خاصة مع حضور مصلحة عربية تحبذ دعم عوامل التغيير الداخلي تفادياً لآثار التدخل الخارجي ومخاطر تداعياته على الأمن العربي.

ثانياً، الخصوصية السورية وما تتطلبه من دقة في الحسابات، خصوصية تبدأ بطابع ارتباطات سوريا الإقليمية وتأثيرها على بعض الملفات الحساسة في المنطقة، مروراً بمصالح الجوار الإسرائيلي وانتهاءً بتنوع المجتمع السوري وتعدد مكوناته.

فمن جهة تتحسب واشنطن من خطر دفع الأمور إلى حدها الأقصى في سوريا خشية التورط في صراع مزمن قد تتعدد أطرافه ويطول زمنه وربما يكبّدها خسائر لا طاقة لها على احتمالها، ولا يخفى على أحد تهديد طهران الصريح باستعدادها وحلفائها للانخراط في حرب مفتوحة للحفاظ على النظام السوري كأهم حلقة من حلقات نفوذها الإقليمي. ليصح القول إن القيادة في واشنطن مجبرة ربما على تحمل مشاهد الفتك والتنكيل مهما اشتدت لكنها غير مجبرة على تحمل تكاليف التدخل المباشر، في قراءة للمسألة من زاوية النتائج والتكلفة وما يترتب على ذلك من خسائر مادية يصعب تعويضها من بلد فقير بثرواته كسوريا.

ومن جهة ثانية هناك أولوية في الحسابات الأميركية لخدمة مصالح إسرائيل وأمنها، وهذه الأخيرة لا تحبذ وصول سلطة جديدة إلى الحكم في سوريا بدلاً عن سلطة خبرتها جيداً ووفت بوعدها طيلة عقود بإبقاء جبهة الجولان مستقرة، وإذا تعذر ذلك، فما رشح إلى الآن، أن الأفضل والأجدى عند قادة تل أبيب حث الغرب على ترك الصراع السوري يستنزف أطرافه، حتى تصل البلاد إلى حالة من التعفن والاهتراء ويغدو المجتمع ضعيفاً ومفككاً كي تأمن جانبه لسنوات عديدة.

والمغزى أن لإسرائيل كلمة قوية ومؤثرة على مواقف الرئيس الأميركي، وعلى اتجاهات الرأي العام هناك، ويبدو من الصعب القفز فوق ما يسمى الأمن الإسرائيلي ورؤيته الإستراتيجية لمسار التغيير في سوريا، مما يفسر -على سبيل المثال لا الحصر- الانحسار المريب للحماسة الغربية والأميركية الداعية لتغيير سريع في سوريا بعد طلب إيهود باراك الفاقع والمثير من الحكومة الأميركية تخفيف الضغط على النظام وتركه وشأنه!

من جهة ثالثة يبدو واضحاً أن أحد دوافع تردد وتريث البيت الأبيض هو جدية سعيه للحفاظ على التنوع والتعددية في المجتمع السوري وعلى شروط تعايش مكوناته المختلفة وحماية حقوقها، جدية تعززت بعد أحداث بنغازي ومقتل السفير الأميركي والاندفاعات العدوانية لجماعات سلفية ضد السفارات الغربية للتعبير عن رفضها لفيلم يسيء للرسول الكريم، وأيضاً بعد تكرار مظاهر الحصار والتضييق على بعض الأقليات وتواتر المطالبات المباشرة وغير المباشرة من قبلها لتوفير حماية مسبقة لأبنائها وحقوقها وممتلكاتها، مما يشجع على القول إنه لا رهان على نقلة أميركية حاسمة في سوريا قبل أن يجري الاطمئنان على مصير الأقليات وعلى معالم مرحلة انتقالية تكرس قواعد الحياة الديمقراطية وحقوق المواطنة.

ثالثاً، ثمة سبب يمكن النظر إليه من القناة التآمرية ويرتبط بمصلحة أميركية أمنية مزدوجة، تتقصد مرة الإفادة من مد زمن الصراع السوري وتأخير المعالجة الجذرية له لاستنزاف خصومها -روسيا وإيران- أطول مدة ممكنة، وإنهاكهما مادياً وسياسياً وتشويه سمعتهما أمام الشعوب العربية على حساب تحسين صورتها، التي وصلت حد الاحتراق أبان اجتياحها العراق، ومرة باستثمار الساحة السورية لتصفية الحساب مع تنظيم القاعدة وأشقائه من الجماعات الجهادية، فالجميع يدرك أن ما يحصل من فتك وتنكيل بحق الشعب السوري يجعل هذا البلد بؤرة جاذبة للقوى الإسلامية المتطرفة، وهناك أكثر من اجتهاد ونداء صادر عن تنظيمات جهادية تعتبر نصرة السوريين هي فرض على كل مسلم، مما يوفر فرصة ثمينة لتوجيه ضربة قوية لهذه التنظيمات بسلاح النظام السوري ذاته للحد من قدرتها على النمو والتجدد، خاصة وأن تنظيم القاعدة والتيارات الجهادية لا تزال العدو رقم واحد لدى واشنطن.

زاد في الطنبور نغماً تلويح بعض السياسيين الأميركيين بمخاوفهم مع وضوح وزن الإسلاميين في الثورات العربية من أن يفضي سقوط النظام السوري إلى اتساع رقعة التربة الإسلامية الخصبة المواتية لنمو التطرف والعداء لواشنطن ومصالحها وحلفائها.

رابعاً، هناك ما يشي بموقف إستراتيجي، يندر الحديث عنه، حول وجود مصلحة أميركية خفية في الإبقاء على محور “الممانعة والمقاومة” لكن مفككاً وضعيفاً، كبعبع في مواجهة المحور العربي، لتطويع هذا الأخير وضمان استمرار حاجته لها، والدليل هو المفارقة بين سلبية أميركية مخجلة تجاه الحالة السورية مع أن نظامها هو الأشد عداءً لسياستها، وبين مسارعتها للتدخل الحاسم في بلدان كانت أنظمتها حليفة لها، الأمر الذي يصح سحبه على المرونة والمماطلة الأميركية في التعامل مع الملف الإيراني وجعل التهديد المستمر بقدرة طهران على امتلاك السلاح النووي أحد أهم العوامل الضاغطة على المحور العربي والحافزة لتعزيز علاقاته مع واشنطن وتمكين حضورها في المنطقة.

ولا يغير من هذه الحقيقة بل يؤكدها خمود الصراع المباشر بين إيران وتل أبيب طيلة عقود وحرص الطرفين على عدم تجاوز الخطوط الحمر وبقاء الهجمات السياسية المتبادلة بينهما في حيز التجييش الإعلامي فقط بما في ذلك تهديد إسرائيل المتواتر بضرب المفاعلات النووية الإيرانية.

خلال الشهور المنصرمة شكلت الانتخابات الرئاسية الأميركية ذريعة لتهرب المجتمع الدولي من الاستحقاقات في سوريا، واليوم تسقط هذه الذريعة ويقف العالم وجها لوجه أمام تحدٍ إنساني في وقف العنف المفرط وحماية المدنيين، الأمر الذي سيحاصر الرئيس المنتخب ويضّيق هامش مراوغته ومحاولات التفافه على مسؤوليته الأخلاقية كزعيم لدولة عظمى وقائدة للعالم تجاه ما يحصل في سوريا، والأهم أن واشنطن ربما هي خير من يدرك أن إطالة هذه المأساة ستكون مكلفة ليس فقط للشعب السوري وإنما لاحقاً للشعب الأميركي عندما ينمو التطرف جراء الشعور بالغبن والظلم ويطرق مجدداً أبواب الغرب وأميركا انتقاماً.

والمعنى أن على واشنطن تجنب الوقوع في الفخ مرة أخرى وعليها معرفة أن ثمن ترددها في دعم التحول الديمقراطي في سوريا قد يكون أكبر بكثير من مضيها قدماً في درب التغيير، فالتردد ومقايضتها دعم الحراك الشعبي الثوري بمحاربة الإرهاب سوف يشجع على الطعن بصدقية ادعاءاتها بنشر الديموقراطية وحقوق الإنسان ويقوي معسكر الثورة المضادة والعوامل المعادية للتغيير، بما في ذلك تعزيز الثقافات والتقاليد والقيم الرافضة للحرية والديمقراطية، ويفضي في نهاية المطاف إلى توسيع الهوة بينها وبين الشعوب العربية، بما قد يؤلب هذه الأخيرة على كل ما هو أميركي على غرار ما جرى إبان احتلال العراق.

صحيح أن ثمة إشارات متنوعة تدل على جدية الخيار الأميركي خصوصا والغربي عموما لتغيير الحكم في سوريا، وأن زمن الصفقات والمساومات قد ولى، وسياسة الاحتواء ومنح الفرص والمهل قد انتهت، وأن واشنطن لن ترضى أو تسمح بعد ما جرى باستمرار النظام السوري أياً تكن الاعتبارات، لكن صحيح أيضاً أن ما هو مرجح أن تستمر الثورة السورية وحيدة في مواجهة أعتى وسائل الفتك والدمار، وتحاصر بتعقيدات لا تتعلق فقط بالحلف الداعم للنظام، أو بأن بلدها يجاور إسرائيل ويرتهن لأمنها الإستراتيجي، أو بذرائع المجتمع الدولي وخاصة حجج واشنطن وانتخاباتها الرئاسية، وإنما أيضاً بطريق إجبارية عنوانها المثابرة والمجالدة لكسب تعاطف الشعوب الأخلاقي معها لقاء ما تقدمه من الضحايا والجرحى والمعتقلين طلباً لحقوقها البسيطة والمشروعة، مما سيحرج السياسات العالمية ويكرهها على اجتراح مخرج عاجل لما يحصل!

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى