صفحات العالم

الانتفاضات والكيانات في المشرق: لماذا الخوف من الحروب الأهلية؟

 


طلال سلمان

يواجه الطموح الى التغيير في الواقع العربي، والذي يتخذ شكل انتفاضات شعبية، مشكلات جدية لم تهيئ قواه المتباينة الاتجاهات السياسية والمنابت الفكرية ذاتها لمواجهتها.

لا الانتفاضات موحدة المنشأ، فكرياً وسياسياً، اقتصاديا واجتماعياً، ولا الحلول جاهزة، ولا توصيف المشكلات واحد.. والوقت أضيق من ان يتسع لإدارة نقاش مفتوح بين القوى متباينة المواقف، من اجل التفاهم على قاعدة الحد الأدنى، تمهيداً لقيام جبهة وطنية تستطيع تحويل الانتفاضة الى سلطة مؤهلة لقيادة التغيير نحو أهدافه الكاملة.

ذلك ان الأنظمة التي جرى او يجري اقتلاعها بزخم الجماهير التي كانت مستكينة فتحررت من خوفها ونزلت الى الشارع، قد حكمت وتحكمت بالبلاد دهراً، فمسخت القيم وزورت الشعار وحقرت العمل الشعبي بالقمع او بشراء القيادات او بنفاق الجماهير في مطالبها الحقيقية تمهيداً لتزويرها.

وإذا كانت وحدة مصر ثابتة بقوة كيانها وتماسك مكونات شعبها، فإن دولاً أخرى كالتي في أقطار المشرق العربي، تفتقر الى تاريخية كيانها واستقراره جغرافياً، فضلاً عن تنوع المكونات والجذور والهويات المختلفة للعناصر التي اندمجت بقرار سياسي، مصدره الخارج في الغالب الأعم، في كيان سياسي موحد لا فرق في ان يكون نظامه جمهوريا ام ملكياً..

إن سقوط النظام في بلد صلب التكوين التاريخي والجغرافي والاجتماعي لا يهدد الدولة، أو على وجه التحديد وحدة الشعب.. وبالتالي الكيان السياسي.

أما في دول المشرق عامة، كالعراق وسوريا والأردن ولبنان وصولاً الى دول الجزيرة والخليج، فإن اضطراب الكيان السياسي قد يذهب بالدولة… هذا من قبل زرع الكيان الإسرائيلي في قلب هذه المنطقة، فلسطين، وعند خط التواصل بينها جميعاً.

ذلك ان الكيانات السياسية لهذه «الشطور» التي صيرت دولاً قد أنشئت بقرار من خارجها فرضه الاستعمار القديم غالباً… وعندما عجز الشعب المعني عن إسقاطه او تجاوزه الى حلم استعادة وحدة الإقليم، اضطر الى التسليم به كأمر واقع.

وعلى سبيل المثال:

لم تكن بلاد الشام (أو سوريا الطبيعية) دولة واحدة، بالمعنى المألوف لكلمة الدولة، في أي يوم… ولكنها كانت – بالنسبة لأهلها، كما بالنسبة للعالم خارجها – مشروع وحدة جغرافية – بشرية تاريخية كاملة.

كان فيها العرب العاربة والعرب المستعربة والكرد والسريان والآشوريون وبعض بواقي الفرس والسلاحقة والــتتار والمغـول والترك، ثم أضيف اليها الأرمن، في أوائل القرن الماضي… أما الأديان والطوائف والمذاهب فكان الى جانب الأكثرية السنـية من يمثل الأرثوذكس والكاثوليك والشيعة والعلويين والدروز والإسماعيليين واليزيديين والصابئة الخ..

ثم إن هذه البلاد لم تعرف الدولة بمعناها الحديث في أي حقبة من تاريخها، لا فرعون قبل آلاف السنين، ولا «محمد علي» قبل مئتي سنة.

صحيح ان بعض مدنها (بابل، دمشق، ثم بغداد) كانت في الماضي القديم عواصم لإمبراطوريات عظيمة، ثم صارت داراً للخلافة التي تحولت الى إمبراطوريات إسلامية وممالك مقتتلة، يتحالف بعضها ضد البعض الآخر، حتى مع التتار والصليبيين، لكنها لم تكن أبدا عواصم لدول، بالمعنى المتعارف عليه لكلمة دولة: شعـب واحد أو غالبية شعبية كاسحة مع مجموعة من الأقليات المتعايشة والقابلـة بالدولة ونظامها، حتى لو كان لها مطالب تتوجه بها الى الدولة من داخلها وليس من خارجها.

.. فلما عرفت هذه المنطقة «الدولة» عرفتها كقرار اتخذ خارجها وفرضه عليها الاستعمار الغربي بالتحديد، على حساب وحدة الشعب والأرض والتاريخ.

وفي ما يعني المشرق العربي، فإن دوله لم تقم عبر استفتاءات شعبية او بالاستناد الى حقائق تاريخية او حتى الى واقع جغرافي، بل هي قامت بقرار فرضه الاستعمار الغربي، عندما احتل هذه المنطقة في الحرب العالمية الأولى، ليرث فيها الاحتلال التركي الذي غلفته السلطنة العثمانية بالإسلام.

إن المرجعية السياسية – التاريخية لدول مثل العراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين هي معاهدة سايكس – بيكو، بين الوريثين البريطاني والفرنسي للمستعمر التركي السابق.

ولقد استكمل البريطانيون، منفردين، هذه المعاهدة التي قسمت بلاد الشام ممالك ودوقيات طائفية وإمارة عشائرية بوعد بلفور بإقامة دولة يهودية (لم يكن لها وجود في التاريخ) على ارض فلسطين.

على هذا قُطْعت بلاد الشام خمس دول، وفقاً لتوازنات القوة بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي. ومعروف ان الاحتلال البريطاني كان يضع يده، من قبل الحرب العالمية الأولى على بعض العراق، وبعض شبه الجزيرة العربية، والخليج العربي، وصولاً الى جنوب اليمن حيث كانت اكبر قواعد في عدن.

من قبل، كان «جبل لبنان» قد حظي بكيان سياسي خاص، نتيجة فتنة طائفية مدبرة بين أهله، وهكذا استولد الغرب «المتصرفية» التي تعين له دول حماية الطوائف «متصرفاً» من بين الرعايا المسيحيين للسلطنة (ولذلك كانت الغالبية الساحقة من المتصرفين من الأرمن) يعاونه مجلس إدارة محلي بطابع مسيحي غالب وشراكة إسلامية ضعيفة.

إذن، كانت سوريا الطبيعية تمتد ما بين البحر الأبيض المتوسط وحدود الرمل في الجزيرة والخليج مع تواصل بَريّ مع مصر، وبحري عبر خليج العقبة وبعض البحر الأحمر.

على أن معاهدة سايكس – بيكو قد وزعت سوريا الطبيعية على المستعمريْن الجديدين، البريطاني والفرنسي، ثم إنها قطّعتها الى مجموعة من «الدول» التي لا تستطيع واحدة منها ان تعيش بشكل طبيعي: اقتطع بعض سوريا الطبيعية ليكون مملكة هاشمية تحت الانتداب البريطاني (العراق)، واقتطع بعضها الجنوبي ليكون إمارة هاشمية تحت الانتداب ذاته (الأردن) في حين (أقصيت) فلسطين تماماً، ليهيئها الاحتلال البريطاني لتكون دولة إسرائيل، تحقيقاً لوعد بلفور عام (1917).

حتى ما صار يعرف باسم سوريا، فإن الفرنسيين حاولوا تقطيعها الى أربع دول طائفية، قبل ان يتواطأوا مع أتاتورك الذي كان قد ألغى السلطنة وأقام الجمهورية فيعطوه «لواء الاسكندرون».

ومن دون دخول منهك في التفاصيل التاريخية وفي القرارات الجغرافية المفروضة بالأمر، تتبدى طبيعة التنوع في هذه المجتمعات التي لا تطمس أكثرياتها العربية (السنية) حقيقة اشتمالها على مجموعات من الأقليات العرقية والدينية والطائفية والمذهبية التي كانت أقامت الدولة شرطاً لاستيعابها في كيانات سياسية مستولدة حديثاً، ومعظمها لا يملك مقومات الحياة.

إن عمر «الدولة» القائـمة الآن في كل من العراق وســوريا والأردن ولبنان أقل من قرن… وعمر «الاستقلال السياسي» لكياناتها لا يزيد عن ستين سنة، مع الأخذ بالاعتبار ان هوية هذه الكـيانات لا تتصل دائماً بهوية رعاياها.. فنكبة فلسطين قد حولت الإمارة الهاشمية في الأردن الى مملكة، وجعلت الفلسطينيين فيها أكثرية، قياساً الى بدو الأردن، لكن قوة الكيان والوظيفة السياسية المناطــة بدولته همشت الفلسطينيين المتهمين دائماً بنقص الولاء للعرش الهاشمي، لارتباطهم بقضية التحرير، مؤكدة مرة أخرى ان الكيان هو الأقوى، لأنه قرار من يملك القرار في الغرب، لا يهم ان يكون قد صار اميركياً إسرائيليا بعد ان كان بريطانيا – إسرائيليا.

ربما لهذا كله يخاف أهل المشرق من ان ترتد الانتفاضات على الواقع الجيو ـ سياسي للكيانات القائمة، فتنتهي الى حروب أهلية بين أديان وطوائف وعناصر ومذاهب وأعراق لم تنجح «الدول» التي أنشئت على عجل في توحيدها وصهرها شعباً واحداً يرتضي كيانه السياسي كوطن نهائي.

وربما لهذا يخاف أهل المشرق من أن تنهار الكيانات السياسية فتمهد ليس فقط لعودة «الاستعمار الجديد» بل لان تكون «إسرائيل» هي الدولة الوحيدة في هذه المشرق، الذي لا يقصر أهل نفطه في البذل من اجل ضرب احتمال قيام دول قوية فيه، بما يكشف أنها – هي الأخرى – لم تكن دولاً ولن تكون دولاً في أي يوم… وإنما هي محميات غنية ترحب بحماتها الذين يتركون لها من أسباب الثروة ما يغنيهم عن الدول وصراعاتها العديدة، وعن الهم العربي كله.

وما زلنا في بداية البدايات على الطرق الى اقتحام الصعوبة، لتحويل الكيانات الى أوطان والرعايا الى شعوب تقيم دولها وتحميها بإرادتها.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى