صفحات العالم

الانتفاضة السورية إذ تطرق باب ‘قصر الروضة’


فراس كيلاني

يكاد يتفق غالبية المعنيين بالملف السوري على حقيقة حتمية سقوط نظام البعث بصيغته التي حكمت البلاد والعباد لأربعة عقود ونيف، وذلك بعد أن ثبت فشل كل الطرق التي اتبعها الرئيس السوري والمقربون منه في وأد انتفاضة الشعب المطالب بالحرية، لكنها حقيقةٌ يبدو أن أركان هذا النظام لا يزالوا يرفضون الاعتراف بها حتى اللحظة.

وبالمقابل، ليس من المبالغة في شيء القول بأن الانتفاضة السورية، ورغم هول الإنجاز الذي استطاعت تحقيقه بصمودها حتى اليوم، ستختبر في مقبل الأيام أصعب اللحظات وأقساها، قد تخلف في البلاد ندوباً كبيرة لن يكون من السهل التخلص منها سريعاً.

ليس التشاؤم هو ما يدفع إلى هذا التوقع بقدر ما هو المسلك الذي اتبعه نظام الأسد منذ بدء الاحتجاجات في درعا منتصف آذار/مارس الماضي، والذي لا يدع مجالاً للشك بأن هذا النظام سيخوض معركته، في الداخل والخارج،حتى النهاية.

السيناريوهات المتعددة التي بدأت تتسرب عبر بعض وسائل الإعلام العربية والغربية لدفع الأسد لوقف حمام الدم في غير مدينة سورية، تؤكد أن الانتفاضة استطاعت دفع كل القوى الفاعلة في المشهد الإقليمي للبدء بترتيب نفسها لمرحلة ما بعد نظام البعث. شكل ذلك تطوراً تلا مرحلة طويلة من التردد الذي وسم غالبية مواقف الدول الغربية إزاء هذه الانتفاضة، والامتناع عن الإدلاء بأي رأي من قبل الدول العربية لحين صدور الموقف الخليجي وبيان المملكة العربية السعودية قبل أيام.

لكن هذا التطور، وما تلاه من رسائل وصفت بالحاسمة وصلت القيادة السورية من حليف الأمس التركي، لم تدفع بشار الأسد للقيام بأي تغيير حقيقي على صعيد سحب قوات الجيش والأمن والشبيحة من المدن السورية، والبدء بخطوات إصلاحية حقيقية. حتى أنه لم يكلف دبلوماسيته عناء الرد رسميا على البيان السعودي وما تلاه من استدعاء للسفراء من قبل الكويت والبحرين، ما يشي بأن النظام السوري اختار متابعة مسار اختطه منذ البدء بوأد هذه الاحتجاجات بقوة النار.

ويلحظ المتابع لما يجري على الارض السورية بسهولة أن مستوى العدوانية الذي يميز سلوك قوات الاسد قد ارتفع بشكل ملحوظ بعد هذه التطورات وصل حد استهداف مآذن الجوامع بالقذائف كما حدث في مدينة دير الزور الاربعاء الماضي، وهو ما يشكل مرآة تعكس حجم الحنق والتوتر اللذان يميزان سلوك القيادة السورية في هذه اللحظة العصيبة التي يمر بها النظام في مواجهة السؤال الابرز، وهو سؤال القدرة على الخروج من هذه الأزمة مع الاحتفاظ بالسلطة.

حتى اليوم لم يصدر عن هذا النظام ما يشي بتفكيره في احتمال تسليم مقاليد الحكم للشعب الذي يبدو أن جزءاً كبيراً منه مصرٌ على المضي قدماً في تحقيق مطالبه بإسقاط النظام، بل لم يوحِ هذا النظام حتى بمجرد وضع هذا الاحتمال بعين الاعتبار. العكس هو ما يثبت يوماً تلو آخر، إذ لم يطرأ على الخطاب السياسي للنظام أدنى تغيير، رغم توسع الاحتجاجات لتعم غالبية المدن والقرى السورية، مخلفة أكثر من ألفين وخمسمائة قتيل وآلاف الجرحى والمعتقلين، ناهيك عن نحو ثلاثة آلاف مفقود، بحسب تقديرات إحدى المنظمات الحقوقية السورية.

لكن هذا النظام بات على ما يبدو قاب قوسين من تجرع كأس السم، إن لم يكن قد تذوقه بالفعل مؤخراً من يد وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو. فالمؤشرات على اختلاف مصادرها، تؤكد أنه بات مضطراً لمجابهة الحقيقة التي اصر على تجنبها طيلة الاشهر الماضية، ماضياً في خياره الامني لوأد الاحتجاجات دون جدوى.

بات على نظام بشار الاسد الذي ورث حكم الجمهورية العربية السورية عن أبيه أن يفكر جدياً في الخيارات التي تضيق، ليس يوماً إثر يوم، بل ربما ساعة تلو أخرى، وأن يضع في الحسبان احتمال خسارته معركة بقائه، وهو الاحتمال الذي لو كان وضعه نصب عينيه مبكراً لكان جنب البلاد الكثير من الدم الذي سفك، والويلات التي تلوح في الافق.

لكن، وبناء على الخطاب السياسي لهذا النظام، لا يبدو أن ثمة من يبدي أي استعداد لهكذا خيار ضمن التركيبة التي تدير شؤون البلاد. بناء على هذا الخطاب، وعلى ما تقدم من سلوك هذا النظام منذ بدء الاحتجاجات، يمكن القول بأن اللحظة الاصعب على الانتفاضة السورية، قد تكون تلك التي سيبدأ فيها نظام البعث الإدراك بأنه فقد زمام المبادرة وفي طريقه لفقدان خيوط اللعبة بالكامل والخروج من قصور الحكم إلى مهب الريح.

فهذه اللحظة قد تدفع النظام، الذي يدار اليوم من قبل أشد المتطرفين ضرواة، للإيغال أكثر فأكثر في الدم السوري، لدرجة لا يستبعد معها أن يقوم باستخدام أقصى أنواع القوة ضد المحتجين، ربما في محاولة أخيرة لإنهاء الاحتجاجات، أو انتقاماً لن يتورع عنه إذا ما وجد نفسه على أبواب محاكمة دولية، تقول بعض المصادر الدبلوماسية الغربية أنها بدأت أولى فصولها بالفعل بجمع الأدلة على ارتكاب نظام الاسد جرائم ضد الإنسانية.

فبنية وتركيبة النظام التي تستر عليها الاسد الأب والابن طيلة أربعة عقود، بمزايدات قومية على الخليج الرجعي ومصر كامب ديفيد والنظام الاردني العميل واليمين الفلسطيني وغيرها من اتهامات ظل يسوقها هنا وهناك، بنية هذا النظام تكشفت في الاشهر الماضية بأقبح صورها عبر جيوش الشبيحة التي استباحت البلاد بطريقة ‘شائنة’ والتعبير للخارجية الأمريكية.

ومفهوم الشبيحة هنا لا يقتصر كما كان سابقاً على بعض مرافقي أبناء أعمام الرئيس في اللاذقية، إذ فوجئ المجتمع السوري بعد بدء الانتفاضة بأنه تعبير مطاط اتسع ليضم بين جنباته جزءاً كبيراً من جيش ‘حماة الديار’، خصوصاً في الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، وكذا الحال فيما يتعلق بعشرات الآلاف من العاملين في المؤسسات الأمنية، المدنية منها والعسكرية، وأيضاً أولئك الذين تصدوا لدورهم في المعركة عبر ‘التشبيح الإعلامي’، فبات بحسبهم الطفل حمزة الخطيب ‘في طريقه لسبي نساء مساكن الضباط’ قبل أن يختطف ويقتل بأبشع الطرق. وربما يتسع المفهوم أيضاً ليشمل جيش الاسد الالكتروني واتحاد الطلبة وقطاعات لم تكن لتخطر على بال.

جيوش لن تتوانى عن ارتكاب أبشع الانتهاكات في اللحظة التي ستستشعر فيها خطر فقدان السلطة، فحبل نجاة هؤلاء لن يكون إلا بانهيار بنية الدولة وزوالها، وهي معركة يجب أن تضعها كل الاطراف المشاركة في الانتفاضة السورية وفي مقدمتها معارضة الداخل نصب عينيها والتحسب لها، لما قد تقود إليه من مخــاطر قد تســتدعي إعادة النظر في الموقف المعارض للتدخل الخارجي، ونشدد قد تستدعي ذلك، امام هول ما قد يقدم علــيه هذا نظام الاسد الجـــريح الذي لم يبد أي استــعداد لأدنى تنازل حــقيقي حتى اللحظة.

وفي هذا السياق، وبالنظر إلى شح المعلومات عما يدور في اروقة السلطة، ليس من الواضح إن كان لا يزال ثمة مجالاً لصوت العقل، لا مؤشرات علنية على ذلك حتى اللحظة، اللهم باستثناء المبادرة التي صدرت عن وزير الإعلام السوري الأسبق محمد سلمان وبعض المسؤولين السابقين الذين لعبوا دوراً بارزاً خلال حكم الأسد الاب، والتي اشتُم منها رائحة انتقادات قد تكون مقدمة لتصدعات في الجدران المنيعة لهذا النظام، تستند إلى ضروة تأمين استراتيجة خروج آمن ولو متأخرة من السلطة قبل أن يغرق المركب بجميع من عليه، خصوصاً وأن المحتجين تظاهروا على بعد عشرات الامتار من مكاتب الرئاسة في قصر الروضة على كتف قاسيون قبل بضعة أيام.

‘ كاتب فلسطيني – لندن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى