صفحات سورية

الانتفاضة السورية ونفاق المجتمع الدولي

 


فايق عمر

قبل دكّ حيّ “بابا عمرو” في مدينة حمص بالأسلحة الثقيلة، لم يكن هناك يقين قاطع بالسيناريو الذي يعتزم النظام السوري اعتماده، رغم أن كل المؤشّرات، وميراث القتل والسفك والبطش الذي تميّز به هذا النظام، وعن جدارة، منذ اعتلائه صدور السوريين، ولمدة أربعة عقود، كانت تشي بأنه لن ينفكّ عن ماضيه وطباعه.

السفك الوحشي لدماء أهالي “بابا عمرو” جاء إعلاناً، إنذاراً، من العائلة الأسدية وحاشيتها، بأنها عازمة على انتهاج سياسة “الأرض المحروقة”، التي اتّخذها القذّافي، وأولاده، خاتمةً لاثنين وأربعين عاماً من “ملكيتهم” للجماهيرية الليبية، وهي ذات السياسة التي كان يطبّقها الاحتلال الأجنبي، الذي قدّم أجدادنا تضحيات جسام لدحره، لنعود اليوم مكرهين على الاستنجاد به.

تصريحات رامي مخلوف، خال العائلة الحاكمة، المتحكّمة في البلاد والعباد، هي الأخرى إنذارٌ، وصكّ على سيناريو القمع والإبادة، الذي أدخل النظام فصوله الأولى حيّز التنفيذ. مخلوف، لا يملك أيّ صفة رسمية، قال لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية: “إذا لم يكن هناك استقرار هنا (في سوريا) فمن المستحيل أن يكون هناك استقرار في إسرائيل. لا أحد يضمن ما الذي سيحصل بعد، إذا لا سمح الله حصل أي شيء لهذا النظام”. وقال أيضاً: “لن نخرج ولن نترك مركبنا ونقامر. سنجلس هنا. نعتبرها معركة حتى النهاية. يجب أن يعلموا اننا حين نعاني، لن نعاني لوحدنا”. وليس مصادفة، البتّة، أن تتزامن هذه التصريحات مع الهجوم البربري بالأسلحة الثقيلة على أناس عزّل.

رغم كلّ الجرائم التي اقترفتها العائلة الأسدية بحقّ السوريين، قبل وخلال الانتفاضة تحديداً، وتوافر الأدلّة والقرائن الدامغة على القادم الأسوأ، نجد أنفسنا ومن جديدٍ، ووجهاً لوجه، أمام صمت ونفاق المجتمع الدولي، الذي كان له تجربة مماثلة حيال الأزمة الليبية، حيث قضى أسابيع مكتفياً بالمشاورات والتصريحات، ونظام القذافي يدكّ المدنيين بالطيران والأسلحة الثقيلة، وأولّ خطواته الفعلية جاءت بعد أن تجاوز عدد القتلى حاجز المئات، والجرحى والمهجّرين كانوا بالآلاف.

مع بداية الانتفاضة السورية، وحين كان عددُ الضحايا في حدود العشرات، قالت وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، ومعها بعضٌ من أعضاء الكونغرس، إن بشار الأسد رجلٌ “إصلاحي”، واستبعدت أن يتكرّر سيناريو “الزنقة” الليبي في سورية. ورفضت كلينتون مقارنة النظام السوري بتوأمه الليبي في القمع والاستبداد، بالقول: “هناك فرق بين استدعاء الطيران وقصف مدن بلدك بطريقة عشوائية، وأعمال شرطة تجاوزت بجلاء في استخدامها للقوة ما كان يرغب أيّ منا في رؤيته”، وهي، بالطبع، كانت تقصد ما يفعله العقيد وزبانيته ومرتزقته بالشعب الليبي.

الإدارة الأمريكية هي أكثر من يعلم أن النظام السوري أبعد ما يكون من الإصلاح، وعلاقاتها معه لم تشهد أي استقرار، وإن كانت قد سجّلت شبه انفراجة مع بدايات الإدارة الحالية، فإنها سرعان ما عادت إلى سابق عهدها. وإذا لم يكن منطقياً، وهذا هو الصحيح، تقييم أداء النظام السوري، وعمّا إذا كان فعلاً إصلاحياً أم لا، من خلال علاقاته مع الإدارة الأمريكية، فلا بأس من التذكير بإدراج الأخيرة اسم سوريا في اللائحة الأمريكية السوداء لأسوأ دول العالم انتهاكاً لحقوق الإنسان، وذلك بعد أشهر قلائل من وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، ولا أظنّ أن هناك إصلاحاً، في أيّ مكان في العالم، يمكن أن يستقيم في ظلّ خروقات وانتهاكات حقوق الإنسان، فما هي المعطيات التي تستند عليها هذه الإدارة لنعت الأسد بـ “الإصلاحي”؟

في السابق، كانت أمريكا تُبدي أشدّ الانزعاج من كلّ تصرّفات النظام السوري، ولم يسبق أن وجدنا ترحيباً أمريكياً بأيّ من المواقف السورية حيال قضايا المنطقة، خاصة تلك التي تشغل بال واشنطن!

الآن، والانتفاضة السورية على مشارف شهرها الثالث، والقتل والبطش بالمحتجين السلميين مستمرّ، بل وفي صعود، لكن دون أن تتّخذ واشنطن، ومعها حلفاؤها الأوروبيون طبعاً، أيّ مواقف جدّية، ترأف بحال السوريين، وتكفّ سفك دمائهم على يد زبانية النظام السوري وشبّيحته.

يبدو أن واشنطن غير عازمة، في الوقت الراهن، على تصعيد حدّة خطابها إزاء ما يجري في سورية، ولا يبدو أنها نفضت يدها، وقعطت الأمل، من إصلاحات الأسد، وأعداد القتلى على مقربة من الرّقم ألف، والجرحى والمعتقلون يُحصون بالآلاف. فهذه كلينتون تقول قبل يومٍ واحدٍ من “جمعة حرائر سورية” بأن بلادها ستمارس مزيداً من الضغط على النظام السوري لإجراء الاصلاحات المطلوبة. كما أن واشنطن لا تزال متردّدةً في اتّخاذ موقفٍ حول ما إذا فقد نظام الأسد شرعيّته أم لا! أليس مثيراً للدهشة الحديثُ عن شرعية نظام غرق في دماء السوريين حتى أرنبة أنفه؟ ثمّ ماذا كانت بأمريكا فاعلة لو أنّ القتلى، بل لو أنّ قتيلاً واحداً، من الأعزّاء على قلبها؟

موقف الاتحاد الأوروبي، الدائر في فلك السياسة الأمريكية، كان هو الآخر مخزياً ومحبطاً، فقد برّأ بشار الأسد من دماء السوريين، باستثنائه من عقوبات فرضها على ثلاثة عشر مسؤولاً سورياً.

أملنا الوحيد بإمكانية التحرّك الفعلي ضد النظام السوري في حال تماديه في زهق الأرواح، كنّا قد وضعناه في الجار التركي، سيما والتصريحات القوية التي أطلقها رئيس الوزراء التركي، السيد رجب طيب أردوغان، والذي قال غير مرّة: “لا نريد حلبجة أخرى، ولاحماة وحمص أخرى، ولا بوسنة أخرى”. وقال أيضاً: “إذا وقعت مثل هذه المجزرة مرّة أخرى، ستكون تركيا مضطرّة لأن تنهض بمسؤولياتها”. لكنّ غياب المأمول من تركيا بعيد استبدال النظام القنّاصة بالأسلحة الثقيلة، ودكّه الأحياء السكنية بها، يدفعنا إلى القول، متأسفين، بأن الموقف التركي أيضاً كان مجرّد كلام.

الشعب السوري يُقتل وتُسفك دماؤه وسط صمت ونفاق المجتمع الدولي، أو القوى الكبرى في هذا المجتمع، على وجه الدقّة، باعتبار أن هذه القوى هي التي تسيّره، وتقوده وفق مشيئتها وهواها. وهذه القوى حتّى وإن تدخّلت، وحرّكت المجتمع الدولي صوب سورية، فلن يكون قبل تأكّدها لمن ستكون الكفّة الراجحة، هلّ هي للنظام السوري أم للسوريين، لتعادي الأخرى. ولهذا فإن هناك معركةً طويلة الأمد، وكارثيةً وفقاً لمعطيات الحال، أمام الشعب السوري. ورغم علمنا بالصعوبات الجمّة التي تعترض طريق السوريين نحو الحرّية، لم يبقَ لهم إلا أنفسهم سبيلاً إلى هذا المجد العظيم.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى