سلامة كيلةصفحات سورية

الانتفاضة: الواقع والظلال


سلامة كيلة *

أصبح واضحاً أكثر مما كان تأثير ثنائية الإعلام/ المعارضة على الانتفاضة السورية. وقد رُسمت للانتفاضة صورة في الإعلام ليست منها. وهنا أقصد الإعلام «المؤيد» لها ولا أقصد إعلام السلطة الذي رسمها منذ البدء (وحتى قبل أن تبدأ) في صورة عممها ولا يزال يكرر تعميمها. ولن يكون مفاجئاً إذا ما تلمسنا بأن الإعلامين يتوافقان في الصورة المرسومة.

هذا الواقع هو الذي زاد «الدوز» المطالب برفض مواقع إلكترونية لأنها لا تخدم الانتفاضة (ومنها موقع الثورة السورية ضد بشار)، أو بالإشارة إلى دور القنوات الفضائية مثل الجزيرة والعربية التي تنقل وجهة نظر وحيدة بعيدة عن الواقع. أو حتى النأي عن عديد «القيادات» التي تملأ الإعلام متحدثة باسم الثورة.

فمن يتابع الإعلام «الداعم» يتأكد من أن رواية السلطة صحيحة، أو يتشوش ولا يعود يعرف شيئاً مما يجري على رغم الوقوف إلى جانب الثورة. حيث أن المنطق العام لهذا الإعلام يريد أن يصوّر الانتفاضة من منظور «أيديولوجي» ضيق ذي طابع «ديني». وللجزيرة هنا الدور الأهم في تصوير الانتفاضة، منذ البدء، بأنها انتفاضة «إسلامية» (هذا إذا لم يكن يسرّب بأنها تقاد من قبل جماعة الإخوان المسلمين). ولهذا يتركز التصوير على اليافطات «المعدة سلفاً» التي تخدم هذا التوجه، من دون ذكر ليافطات أخرى. وإذا كانت في المرحلة الأولى تنوّع في المعلقين الذين تستضيفهم أو تتصل بهم، فقد حصرت المسألة بـ «الهيئة العامة للثورة السورية»، التي هي تشكيل إعلامي له مراسلون على الأرض ولا يمثل التنسيقيات (على رغم أنه يُعرض كممثل للتنسيقيات)، وهو من صنع الإخوان المسلمين. فقد باتت الهيئة المراسل والمعلق لهذه القنوات، وأيضاً المعد للصور واليافطات المطلوبة.

وقناة الجزيرة تهتم هنا بهذا الطابع «الإسلامي» انطلاقاً من «رسالتها الخالدة» التي أصبحت تتعلق بالتحضير ودعم الإسلاميين لكي يحققوا الوعد بالوصول إلى السلطة لإقامة الخلافة كما بشرنا إسلاميو تونس ومصر بعد «انتصارهم» في الانتخابات.

لهذا أصبحت أيام الجمع تسمى من قبل موقع الثورة السورية ضد بشار، رغماً عن التصويت، وتعمم من قبل القنوات الفضائية، وتكتب لها يافطات ترفع في التظاهرات من قبل شباب منتفض لا يهمه اليافطة (وفي الغالب لا يعرف ماذا تقول). ومعظم التسميات كانت فاجعة لتخلفها وأصوليتها، و «بدائيتها» (يكتبها ربما طفل في الصف الأول، أو تكتب لطفل في الصف الأول. لهذا نكزها أبطال كفر نبل في تسمية من العيار ذاته هو: جمعة البرد يقتلني). وإذا كان الإخوان المسلمون يعدون لتشكيل هيئة تحضّر لطلب التدخل العسكري منذ الشهر الأول للانتفاضة، وبدأوا بتسريب اسم المجلس الانتقالي وتغيير العلم تيمناً بليبيا، فقد عملوا على إدخال هذا المنطق إلى الانتفاضة عبر الآلية التي أشرت إليها، وتعمم «الوهم» بدعم عسكري خارجي لم يصل ولن يصل (ومن الأفضل ألا يصل لأنه خطر حقيقي على الثورة ذاتها، كما على البلد). ولقد جرى تسريب ذلك تحت كلمات في غاية «الإنسانية»، حماية المدنيين، التي جرى تفسيرها بأنها تتعلق بإدخال مراقبين وإعلام. ووافق المتظاهرون على هذا الحد ليكتشف بأن المسألة أبعد من ذلك وتتعلق بالتدخل العسكري تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

وأيضاً جرى تسويق المجلس الوطني وفق الصيغة ذاتها، على رغم أنه كان لوجود برهان غليون دور في قبوله من قبل قطاعات منتفضة (ولقد خسر ذلك الآن بعد أن توضح هدف المجلس وظهرت سياساته الخاطئة).

بهذا بدت الانتفاضة انتفاضة إسلامية وتستجلب التدخل العسكري الإمبريالي، وهي في الواقع مدنية بحق ووطنية بعمق. فكل هذه الآلاف المنتفضة خرجت لإسقاط نظام ذاقت ويلاته لعقود، من الفقر والبطالة وسوء التعليم والصحة، إلى الممارسات البوليسية والفساد والسحق الشخصي. ولهذا فقد حددت أنها تريد إسقاط النظام مضمنة سقوطه تحقيق ما تفتقده من كل ذلك. وهي هنا لا تحمل رؤية «أيديولوجية»، ولا ميلاً لشكل ديني للدولة، ولا ترى الصراع من منظور ديني أو طائفي. فعلى رغم كل محاولات السلطة تفجير الصراع الطائفي في بعض مناطق التماس فقد فشلت لأن الشباب المنتفض كان يعرف اللعبة، ولا يرى بأن هذا شكل الصراع، على رغم كل ما كان يظهر من «طائفية» مقابلة. وهذا الشباب يأخذ على السلطة عجزها عن تحرير الجولان والتنازل عن لواء الإسكندرون، ويتلمس أخطار الدور الإمبريالي، وظهر ذلك في لحظات كثيرة سابقاً.

والانتفاضة أُظهرت كلعبة بيد المجلس الوطني الذي بات يتصرف أعضاؤه كممثلين حصريين لها، يتحكمون بالشارع ويفاوضون باسمه، ويطلبون التدخل باسمه، ويصدقون بأن اليافطات التي رفعت في التظاهرات هي من مطالب الشارع وصنعه، على رغم أن بعض أطرافهم هي التي طلبت ذلك. فكل من يتلمس الشارع يصل إلى نتيجة وحيدة هي تلك التي لخصها الصحافي جوشوا لانديز بعد أن عاش أياماً في سورية، حيث يقول بأن «الجميع هنا يتجاهل بقصد شبكات النشطاء الضخمة الفاعلة على الأرض بالإضافة لمجموعات المعارضة السياسية المستقلة داخل سورية والتي لا تشكل صدى لأية قوة عالمية». هؤلاء هم «روح» الانتفاضة، وبنيتها الفاعلة، وهم ليسوا مع كل الأحزاب، وكثير منهم لا يريد الحزبية (على رغم ضرورة الحزبية، لكن تجربة المعارضة لم تقدّم ما يشجّع إلى الآن، على رغم أن هؤلاء سوف يتوصلون إلى ضرورة الفعل السياسي والحزبية من خلال تجربتهم ذاتها). وهؤلاء يريدون هم إسقاط النظام وليس غيرهم، أو كما قال ناطق باسم الهيئة العامة للثورة السورية (اختفى عن الإعلام بعدها) إن الانتفاضة حينما انطلقت في 15 آذار (مارس) انطلقت ليس لطلب الحماية الدولية بل من أجل إسقاط النظام.

الصورة التي تعممت في الإعلام، وعبر المعارضة أصبحت عبئاً على الانتفاضة، لأنها تقدّم صورة أخرى غير الصورة الحقيقية لها، وهي الصورة التي تعبّر عن مصالح قوى فيها، تريد أن «تركب» الموجة للوصول إلى السلطة، حتى ولو على «الدبابة الأميركية»، والتي جعلت الانتفاضة تبدو إسلامية من جهة ومرتبطة بالخارج الإمبريالي من جهة أخرى.

لكن من يريد معرفة طبيعة الانتفاضة السورية لا بد له من أن يلامسها مبتعداً عن كل المعارضات التي تمثل أجيالاً مضى زمانها، ولم تعد صالحة، وهي راحلة مع رحيل النظام. والشباب الذي انتفض، وتحمّل كل أشكال العنف هو الذي سوف يرسم أفق المرحلة المقبلة.

نحن إذاً، إزاء «انتفاضتين»، واحدة في الواقع يخوضها الشباب والشعب عموماً، وأخرى هي الكاريكاتور الذي يتعمم في الإعلام وعلى ألسنة كثير من المعارضين في الخارج.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى