صفحات العالم

الاهتمام بسوريّة


حازم صاغيّة

يجمع بين الأنظمة العربيّة التي سقطت وتتساقط، أي التونسيّ والمصريّ والليبيّ واليمنيّ والسوريّ، جامع اللاشرعيّة. فهي كلّها أنظمة جمهوريّة استنفدت أغراضها ثمّ خانت جمهوريّتها في أسّ النزعة الجمهوريّة، أي في استدخالها التوريث على نحو أو آخر.

هكذا باتت الأنظمة المذكورة غير جمهوريّة من دون أن تغدو ملكيّة أو أن تتظلّل بالشرعيّات التي تتظلّل بها الملكيّات. وكان ما يفاقم مأزق الخيانة لجمهوريّتها أنّها في معظمها ولدت من مناهضة الملكيّة ومنها استمدّت شرعيّتها الأولى: يصحّ هذا خصوصاً في مصر التي أسّست، في 1952، عمليّة القطع مع أسرة محمّد علي، تلتها اليمن حيث صفّي حكم أسرة حميد الدين من خلال حرب أهليّة تحوّلت حرباً أهليّة عربيّة، ثمّ كانت ليبيا التي أنهت عهد إدريس السنوسيّ الاستقلاليّ. أمّا تونس فكان مؤسّسها الحبيب بورقيبة نموذجاً للبطل الجمهوريّ الحديث، فيما عرفت سوريّة الخمسينات، حيث نما حزب البعث وتصلّب عوده، بعض أشرس السجالات العربيّة وأوضحها بين النزعتين الملكيّة والجمهوريّة.

إلاّ أنّ أمراً آخر سرّع في افتضاح الخيانة الجمهوريّة، ألا وهو العجز عن تقديم الرشوة الاجتماعيّة بسبب ضيق اليد وضعف الموارد. والواقع أنّ الإفقار كان الوعد الاقتصاديّ الوحيد لكتل متعاظمة من السكّان. ولئن كانت ليبيا القذّافيّة ذات الثروة النفطيّة استثناء في هذا الباب، فإنّ سياسة التبديد غير الاعتياديّ التي اتّبعها القذّافي حالت دون اعتماد العلاج هذا.

لكنّ التشارك في هذه العناصر لا يحول دون الاختلاف الذي يجعل من سوريّة البلد الأهمّ في حسابات الدول وفي مصالحها. فإذا كانت مصر أهمّ البلدان العربيّة من حيث المبدأ، إلاّ أنّ العقود المباركيّة الثلاثة عطّلت هذه الأهميّة وعملت على إيهان الدور المصريّ. وبدوره غدا البُعد الاستراتيجيّ لليمن جزءاً من بُعد «الحرب على الإرهاب»، وغدت حكومة صنعاء لا تفعل إلاّ التوسّط المراوغ والانتهازيّ بين طرفي الحرب هذه. ولئن بقي كلّ دور تونسيّ محصوراً بحدود تونس لا يتعدّاها، فإنّ «الجماهيريّة العظمى» باتت، بعد تسليمها الاستباقيّ لأسلحة الدمار التي امتلكتها، مجرّد جعجعة من دون طحين.

أمّا سوريّة فلم يفعل نظامها غير تفعيل أدواره الخارجيّة إلى الحدّ الأقصى، وبيع تلك الأدوار في مزاد متواصل، مستفيداً من الموقع الجغرافيّ المؤثّر في لبنان والعراق والموضوع الفلسطينيّ، كما في الأردن وجنوب تركيا. وكان لتحالف دمشق مع طهران أن قلب جميع المعادلات موفّراً للسلوك الإيرانيّ غطاء عربيّاً غير مسبوق وغير مسبوق تنافره مع سائر الحساسيّات العربيّة.

في هذه المعاني جميعاً كان النظام السوريّ أكثر نظرائه افتقاراً إلى داخلٍ وأكثرهم امتلاكاً لخارجٍ تجسّده «أوراق» ومصالح ومقايضات متبادلة. وهذا ما يفسّر اتّساع درجة الاهتمام بما يجري في سوريّة، وفي الوقت نفسه مدى التردّد الذي تصطبغ به المواقف العمليّة حيال ما يجري فيها. ذاك أنّ الخارجيّة المستفحلة في العقيدة الحاكمة في دمشق كوّنت لنفسها مساحات داخليّة في معظم البلدان المجاورة لها والمتأثّرة، على نحو أو آخر، بها. فليس من المبالغة، بالتالي، اعتبار الصراع المتجدّد على ذاك البلد صراعاً داخليّاً في معظم تلك البلدان، وهذا ما يعنيه الرئيس السوريّ حين يتحدّث عن الزلازل والبراكين أو يهدّد بعظائم الأمور، ممّا يُرجّح أن نعيش طويلاً معه ونعاني وطأته الثقيلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى