صفحات سوريةهوشنك بروكا

“الباب العالي” وبكائيات المعارضة السورية


هوشنك بروكا

من يستمع لخطاب بعض المعارضة السورية، هذه الأيام، لا سيما “معارضة أردوغان” أو تلك التي توّكلت عليه، والتي عوّدتنا خلال الأشهر القليلة الماضية من الثورة السورية، على لقاءاتها ومؤتمراتها ومشاوراتها العاجلة، على عتبات “الباب العالي”، في كلٍّ من استانبول وأنطاليا وما بينهما من مكانٍ تركيٍّ غير بريءٍ على أية حالٍ، سيلحظ مدى الإحباط الذي أصابها جرّاء الموقف التركي الأخير وما سبقه من سكوتٍ كبيرٍ كان “من ذهب”، على ما يبدو.

هذا البعض من المعارضة، الذي وضع كلّ بيوضه في السلّة التركية دفعةً واحدة، ووضع كلّ الرهان أو جلّه على الجارة المسلمة تركيا، كي تخلّصه من تغوّل النظام السوري وآلة قمعه، استيقظ من غفلته “المتدينة” جداً، الآن على ما يبدو، لا سيما بعد شهر رمضان، وتجاوز اجهزة النظام وجيشه كل الخطوط الحمر، ليقول لنا: ما كنا نعلم أنّ تركيا المسلمة بقيادة الثلاثي التركي الحاكم المسلم(رجب طيب أردوغان وأحمد داوود أوغلو وعبدالله غول)، ستدير ظهرها لنا ولثورتنا، و”تطنشنا” حسبما وكيفما تقتضي مصالحها، على هذه الشاكلة، التي تركتنا عليه، في صمتٍ كثيرٍ قتلنا، دولياً وإقليمياً، ولا يزال.

بعد صمتٍ تركيٍّ طويل فاق توقعات الكثيرين من المعارضين السوريين، بدأنا نسمع من هؤلاء كلاماً منكسراً، في الكثير من اللوم والعتاب على أهل الحكم في تركيا. هذه الأيام، تعجُّ وسائل إعلام المعارضات السورية، والعربية، ببكائيات هذا البعض المعارض الذي عوّل كثيراً على الموقف التركي، الذي تفوّق في الأول من الثورة السورية، على مواقف كلّ الدول الغربية، والعربية الشقيقة، بدون استثناء، وهو الأمر الذي دفع بالكثيرين من أهل الثورة السورية، إلى رفع العلم التركي إلى جانب العلم السوري، وصور أردوغان إلى جانب صور رموز الثورة السورية وشهدائها، وذلك إلتزاماً منهم ب”جميل” أردوغان وتركيا(ه)، تجاه ثورتهم ودمهم الكبير المسفوك لأجلها.

فأردوغان(الذي سميّ في دفاتر بعض المعارضين ب”المخلّص”)، سيد “الباب العالي” في تركيا المعاصرة، كان أولّ من احتضنت بلاده أولّ مؤتمرٍ جمع بعض المعارضين السوريين، على طاولةٍ واحدة، للبحث في مصير القادم من سوريا، والقادم من ثورتها. فكان مؤتمر استانبول الأول، ثم مؤتمر أنطاليا، فمؤتمر استانبول الثاني، إضافةً إلى مؤتمرات ولقاءات تشاورية أخرى، تخللت هذه المؤتمرات وعقبتها، هنا وهناك.

جلّ هذه المؤتمرات المنعقدة في تركيا، أو خارجها(كمؤتمر بروكسل)، خرجت بوحدة أقلّ بين صفوف المعارضات السورية، وموقف أقل انسجاماً، هذا فضلاً عن أنها لم تستطع الخروج عن فلك الأجندات التركية المرسومة لها سلفاً، كما تبيّن لاحقاً.

أما إنسانياً أو تحت هذا الغطاء، فكانت حكومة أردوغان سبّاقةً لإحتضان أكثر من 10 آلاف لاجئ سوري هرب من أتون حرب النظام السوري ضد شعبه.

أردوغان وحزبه وتركيا(ه) هددوا النظام السوري بالكثير من “الخطوط الحمر”، كما وعدوا السوريين بالكثير من الحرية و”العدالة والتنمية” في “سوريا القادمة”، لكنّ الأيام أثبتت أنّ تلك التهديدات والوعود قد ذهبت أدراج الرياح السياسية، التي لا تزال تهّب بين دمشق وأنقرة.

حتى مخيمات اللاجئين السوريين على الأراضي التركية، حوّلتها هذه الرياح التركية المتقلّبة، وفقاً لأهواء السياسة، إلى ما يشبه “المعتقلات”.

“أخوان” أردوغان المسلمين، فهموا المسألة لكأنها صلاةٌ واحدة تجمع المسلمين في جمعةٍ واحدة، لأجل أمةٍ إسلامية واحدة، لكنّ أردوغان وربعه الأتراك فهموا المسألة السورية على أنها سياسة ومصالح وصفقات و”غايات تبرر الوسائل” فحسب.

والحالُ فإنّ تركيا المسلمة، لم تحتضن بعض المعارضة السورية، و”أخوانها المسلمين”، واللاجئين السوريين، لخاطر عيون الإسلام، أو الشعب السوري وثورته المشتعلة منذ خمسة أشهر، كما اعتقد الكثيرون من أهل المعارضات السورية، وصوّروا تركيا لكأنها “جمعية خيرية إسلامية”، تحت الطلب لخدمة الشعب السوري، وعلى بركة الله.

كان لتركيا وأردوغان(ها) منذ بداية الأزمة السورية، أجنداتهم ومصالحهم التي حرّكت سياساتهم ما بين سوريا النظام وسوريا المعارضة.

تركيا، التي صرّح مسؤولوها الكبار مراراً، بأنّ ما يحدث في الداخل السوري، هو مشكلةً تركية تمس الداخل التركي، بقدر كونها مشكلةً داخلية سورية، لم تعبّر عن هذا الموقف اعتباطاً.

ما عبّرت عنه تركيا، هو موقفها الحقيقي عن حقيقة ما يجري في سوريا، للعبور عليه إلى مصالحها الإستراتيجية الحقيقية.

تركيا، لا تنظر إلى سوريا في كونها “جارةً عابرة”، أو مجرد دولة عابرة، على حدودٍ صعبة، تشترك معها على طول أكثر من 850كم.

لتركيا في سوريا مصالح استراتيجية، وعمق استراتيجي، ومشاكل استراتيجية لا تزال عالقة على جانبي الحدود، وعلى رأسها مشكلة الأكراد.

رغم كلّ ما أبدته تركيا من مواقف بدت وكأنها مع المعارضة السورية وشعبها ضد النظام، إلا أنّ صمتها الأخير على تجاوز قمع النظام لكل الحدود وكلّ الخطوط الحمر، أثبت للسوريين وللعالم أنّ الأتراك لعبوا بالثورة السورية وبعض معارضتها، بذات القدر الذي لاعبوا فيه النظام بذكاء، طالما مصالحهم مع السوريتَين؛ سوريا النظام وسوريا الشعب، اقتضت وتقتضي ذلك.

وهنا لا يقع اللوم على تركيا، بالطبع، لأن الدول لا تُلام في السياسة، فكلّ دولة تبحث مع حواليها عن أكبر قدر ممكن من مصالحها، وهذا هو بالضبط ما تفعله وسوف تفعله تركيا، وكل دولة أخرى تريد البحث لها عن موطئ قدمٍ، أو دورٍ قادم، في قادم سوريا. وإنما اللوم، بل كلّ اللوم يقع على عاتق بعض المعارضة السورية(معارضة الأخوان المسلمين وأخوانهم الآخرين)، التي إئتمنت على أردوغان كإئتمانها على ثورتها، وراهنت عليه كرهانها عليها.

تركيا، بعكس أميركا وأروربا، لم تقاطع سوريا اقتصادياً ومالياً، حتى الآن، ولم تشد عليها الخناق ديبلوماسياً، ولم تستدعي سفيرها في دمشق، كما فعلت هذه الدول ودول عربية أخرى، مثل قطر والسعودية والكويت والبحرين. كلّ ما فعلته، هو أنها ركبت الموجة السورية سريعاً، وخطفت الثورة(أو حاولت ذلك) من بوابة بعض المعارضة السورية، ولّوحت للنظام السوري بعصاها، لتكون مع النظام في “إصلاحاته” حيناً، ومع بعض المعارضة، شكلياً في الأقل، في دعوتها إلى إسقاط النظام، حيناً آخر.

تركيا أمسكت بالعصا السورية من منتصفها، ولا تزال. لهذا بقي موقفها رماديا، لم تفصح عنه عملياً حتى اللحظة، وهو الأمر الذي أغضب أهل الثورة السورية، كما رأينا في جمعة “لن نركع إلا لله” الأخيرة، حيث قام هؤلاء برفع لافتات وإطلاق شعارات استهجنوا فيها هذا الموقف التركي المتذبذب، الضبابي، اللاواضح، بين شعبٍ يراه كلّ العالم في سوريا كيف يصعد، ونظامٍ ليس له إلا أن يسقط.

ما يهم تركيا في سوريا، هو مصالحها فقط، كأية دولة أخرى جارة قريبة أو بعيدة.

هي احتضنت بعض المعارضة السورية، ليس حباً بالشعب السوري و”إخوانهم المسلمين”، ولا كرهاً بالنظام(المختبئ في عباءة علوية) كما قد يُظن، وإنما ضماناً لعمقه الإستراتيجي، ومصالحه الإستراتيجية. لهذا اختارت تركيا اللعب السياسي، مع الطرفين في آن، فلعبت بالمعارضة( أو ببعضها) في ذات الوقت الذي لم تنسَ ملاعبة النظام ومهادنته.

تركيا لا تزال سائرة على النهج الرمادي ذاته، فلا تريد أن تسقط من يدها ورقة المعارضة(أو بعضها)، في ذات الوقت الذي لا تزال تعوّل على النظام، وتتمنى له أن “ينجح في إصلاحاته” للبقاء في السلطة.

 تركيا لا تهمها حماة وأخواتها السوريات المسلمات، ناهيك عن اللامسلمات، لا بالأحمر ولا بالأخضر.

ولا تهمها الشعب السوري، حرّاً أو بدون حرية.

كما لا تهمها الثورة السورية، بكرامةٍ أو بدونها.

ما يهم تركيا، فقط، هو سوريا تؤمن لها استقرار حدودها، وأمنها، وتضمن عمقها الإستراتيجي، كبوابة عربية تؤمن لها عبوراً آمناً إلى العالم العربي والإسلامي.

عليه، فإذا كانت السياسة فناً للممكن؛ الممكن من المال والملك والمصلحة، فإنّ ما ارتكبته بعض المعارضة السورية التي وضعت كلّ بيوضها في السلّة التركية، هو دخولٌ في الممكن من الدين والإيمان وما حولهما، أكثر من الدخول في الممكن من السياسة.

فهل نقول: لهذا نجح أردوغان، ورسب “أخوانه” في المعارضة السورية؟

ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى