صفحات الثقافة

المترجم العربي… أيقول الشيء نفسه؟!/ محمد العباس

 

 

الترجمة، بمنظور امبرتو ايكو هي (قول الشيء نفسه بلغة أخرى). وهو تعريف يبدو في ظاهره بسيطاً إلا أنه يختزن منهجية الترجمة وتبعاتها الفكرية والجمالية. لأن قول الشيء نفسه يستلزم في المقام الأول معرفة ذلك الشيء المراد قوله بلغة أخرى، مع إمكانية اللجوء إلى (كل تلك العمليات التي نسميها شرحاً أو تفسيراً أو إعادة صياغة. من دون الحديث عن الإستبدالات المزعومة بواسطة المرادفات). وهذا هو بالتحديد ما يفرض التساؤل حول طبيعة الترجمات الجديدة في المشهد العربي. ومدى تطابقها مع الأصل في اللغات الأخرى. فربما لا يمارس المترجمون الجدد من خلال منتجاتهم إلا ما يسميه جيرار جينت بالفعل الضار، الذي يحاولون تأديته على أكمل وجه.

جيل جديد من المترجمين بدأ يجرب حضوره في المشهد الثقافي العربي. وهو اتجاه مبهج ومبشر بانتباهة ثقافية لها تداعياتها. فأن تظهر موجة جديدة من المهتمين بنقل آداب الآخر إلى العربية يعني بروز إحساس شبه عام بأهمية مواكبة ما يُنتج في الثقافة العالمية. حيث يُلاحظ وجود ترجمات من مختلف اللغات. وإن كان النقل من اللغة الإنكليزية هو الأكثر والأوفر حظاً. إلا أن بعض هذه الترجمات التي يؤدي فروضها فصيل جديد من المترجمين الشباب لم تختبر حتى الآن في مختبر قرائي أو أكاديمي. فهي تتدافع بموجب حماسة المترجمين، وجشع دور النشر، وطمأنينة القراء.

معظم ما يُنشر من ترجمات، خصوصاً فيما يتعلق بالأعمال الأدبية، التي تلقى رواجاً عند الشباب، لا يخصع لأي شكل من أشكال التدقيق أو المراجعة، بل ولا يتعرض لمقروئية فاحصة. علاوة على كون تلك الترجمات خارج ما يُعرف بثقافة المشروع. أي بمعزل عن أي خطط مؤسساتية معتمدة. بمعنى أنها جهود فردية يتحكم فيها المزاج والمصادفات ورواج اسم الكاتب أو المنتج المراد ترجمته. وإذا كان الجهد الفردي يعطي للمترجم مساحة قصوى من الحرية إلا أنه، من جانب آخر، قد يورطه في انفلاتات تنزاح به عن اشتراطات الترجمة. وبالتالي يمكن الإخلال بعملية التواصل ما بين الثقافات والحضارات بمقتضى تلك الترجمات الرديئة.

الترجمة إذاً بهذا المعنى مجرد هواية، يقترفها شباب على درجة من الولع بالأدب، والإفتتان بنصوص الآخر. وهم في أغلب الأحيان غير متحدرين من حقول أدبية، فمنهم المهندس والطبيب والمحاسب والطالب، ليسدوا فراغاً في المكتبة العربية. لأن الجامعات في العالم العربي لا تخرج ذلك الطراز من المترجمين المختصين بالأدب. وتلك نتيجة طبيعية للفكرة المأخوذة عن المترجم ككائن هامشي في الثقافة العربية مقارنة بالكاتب. الأمر الذي أدى إلى فراغ كبير ومربك لأي ثقافة من الثقافات. بسبب غياب دور المؤسسات وانشغالها بأولويات مختلفة. وعلى هذا الأساس ترتفع وتيرة الترجمات الفردية. لأن جيل المترجمين الأوائل الذين عُرفوا بتخصصهم في نقل الآداب الروسية والإنكليزية والأسبانية وغيرها غادروا المشهد عدا استثناءات قليلة جداً.

وهنا يتضح الفرق ما بين أولئك الرواد في حقل الترجمة، الذين كانوا على درجة من المعرفة باللغة التي ينقلون عنها، والأهم أنهم على دراية بثقافة تلك المجتمعات. ولذلك كانت الأعمال الأدبية المترجمة تقول الشيء نفسه تقريباً. لأنها متقنة على مستويات اللغة والصوغ والمرجعيات والشروحات. وهو أداء يتوفر في القليل من ترجمات الجيل الجديد. فيما تزدحم معظم الترجمات اليوم بالأخطاء الإملائية والنحوية والطباعية والصياغية. وهي انحرافات ترسم علامات استفهام كبيرة حول صدقية النص المترجم. ومدى ارتباطه بالأصل. فمن لا يأبه بكل تلك المتوالية من الأخطاء، لن يبذل من المجهود ما يستحق لنقل الأفكار بأمانة. ولن يراعي أدبية النص بأي شكل من الأشكال.

ما يقال عن صعوبة نقل النص وظلاله إلى لغة أخرى مسألة واقعية جداً. وهي مفهومة في حقل الترجمة الأدبية. ولذلك يُسمح بشيء من التحريف اللا مقصود في رسالة ووجدان النص. حيث تغيب بعض القيم العاطفية والثقافية بسبب عدم استيعاب عوالم النص والمجتمع المغاير. ولكن اللامبالاة في استكناه مرادات النص يمثل خيانة حقيقية له. إذ لا يكفي نقل المحتوى المفهومي فقط، بل لا بد من الإحساس بذلك المجهود الفكري الفني أثناء العمليات الترجمية لدى المترجم لاستدعاء الصوت والمعنى والدلالات إلى جانب المفهوم العام. على اعتبار أن الجُملة نظام أكثر من كونها منظومة نحوية. وهكذا هو النص. وهذا هو ما يربك حسّ التلقي عند الإرتطام ببعض الترجمات الجديدة التي تفتقر إلى أبجديات النص.

ليس كل من يجيد لغة أخرى يستطيع ترجمة النصوص إلى لغته. فالنص الأدبي على درجة من الإلتباس حتى داخل اللغة الأم التي كُتب بها. وما يقال عن حاجة المترجم إلى الحرية الفائضة لتحطيم السياقات وإعادة تحويل مصادر الصوت والحد من جنوح المجازات لإفساح المجال للفكرة، لا يمثل فكرة الترجمة بمعناها الأدبي. وفيها من التجني على مصدرية النص ومراداته وما يختزنه من إيحاءات ورسائل. وهو الأمر الذي يحتم الإنتباه إلى ما بات يشكل ظاهرة في الثقافة العربية. بمعنى أن تراعي دور النشر ما يصلها من ترجمات وتخضعها للمراجعة. كما ينبغي على القارىء أن يمارس دوره في اختبار تلك المنتجات. حتى المؤسسات التي تدمغ أغلفتها بأسماء كبيرة وفاعلة في المشهد غير مستثناة من الملاحظة. لأن الشك يطالها بموجب فكرة الفساد الثقافي. حيث يوكل بعض المتنفذين مهمة الترجمة إلى طالب مبتدئ هو بحاجة ماسة إلى المال ليؤدي مهمته كيفما اتفق.

الترجمة فعل إضطراري للتعرّف على الآخر. وكلما أُتقنت الترجمات تحولت إلى حالات جمالية. وهو أمر ممكن إذا التقى المترجم بالكاتب فيما يسميه بول ريكور بالذخيرة المشتركة بين لغتين. وهنا ينبثق السؤال مرة أخرى حول رداءة بعض الترجمات التي لا ترى في النص الأدبي سوى قشرته اللغوية. ولا تستطيع الغوص في أبعاده الثقافية. وكأن اللغة هي الوسيط الوحيد بين النصين. إذ يمكن في هذه الحالة الإجهاز على قيمة عمل فني رائع بترجمة رديئة. ولذلك صار القارىء اليوم يتساءل عن أفضل الترجمات. فهناك روايات مترجمة بواسطة سبعة مترجمين. وعند مقارنة الترجمات ببعضها يتضح وجود فوارق كبيرة فيما بينها. الأمر الذي يعني أن الجهد الترجمي فيه الكثير من السرعة واللا مبالاة وانعدام الصدقية.

إن وجود عدة ترجمات لعمل أدبي واحد قد يوحي بحيوية المشهد، إلا أنه من ناحية أخرى يشير إلى سباق تجاري رخيص ما بين دور النشر خصوصاً حول الأسماء التي تلقى رواجاً قرائياً. وهي نصوص عالمية الطابع وقابلة للترجمة الفخمة التي تليق بالأصل. إلا أن الناشر العربي الذي لا يأبه للحقوق أصلاً، وبعض المترجمين الطارئين على الأدب يتسابقون لتخريب النصوص الإبداعية. لدرجة أن بعض المترجمين يحذفون بعض العبارات أو المقاطع من منطلقات أيدلوجية أو أخلاقية. وهذه مجرد لقطات جانبية في فساد حقل الترجمة. من ضمن اختلالات كثيرة داخل فعل الترجمة وخارجه. إذ لا بد من إعادة تأهيل مجموعة من المترجمين ضمن رؤية ثقافية شاملة تمكن المترجم من رفع منسوب وعيه النقدي التحليلي وتخصيب خياله وشحذ حسّه الفني، إلى جانب إجادته للغة. بحيث يلتزم بأدبية النص لا بما يتوقعه أفق القارىء.

كاتب سعودي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى