الحرية لرزان زيتونة، الحرية لمخطوفي دوماذاكرة صفحات سوريةصفحات الناس

البحث عن “الأحبة” بين وجوه المقابر الجماعية/ رزان زيتونـة

 

أحاول استرجاع تفاصيل ذلك اليوم ببطء شديد علّي أنفجر بالصراخ والنواح كما يفترض بشخص “طبيعي” أن يفعل. يرعبني الخدر الذي أحسه في صدري والضباب الذي يلف الصور المتلاحقة في ذهني. ليس هكذا تكون ردة الفعل بعد نهار حافل بالتعثر بالأجساد التي صفت إلى جانب بعضها البعض في الردهات الطويلة المعتمة. لفت بالأكفان البيضاء أو البطانيات القديمة، لا يظهر منها إلا وجوه مزرقّة ورغوة جمدت على زوايا الأفواه، وأحياناً خيط من الدماء يختلط بالزبد. على الجبين أو على الكفن، كتب رقم، أو اسم، أو كلمة “مجهول”.

في كل نقطة طبية على امتداد بلدات الغوطة التي استقبلت الشهداء والمصابين، الحكايات نفسها تتكرر والصور نفسها. وجوه من بقي صامداً من المسعفين الذين لم ينج معظمهم من التأثر بالغازات السامة. يروون مرة تلو الأخرى، كيف قاموا بخلع الأبواب ودخول المنازل ليجدوا الأطفال نائمين في أسرّتهم بهدوء وسكينة لن يستيقظوا منها أبداً. معظم الأطفال ماتوا وهم يحلمون. قليل منهم وصل للنقاط الطبية وتمكنوا من إسعافه. الرحيل الجماعي للعائلات هو الصورة الأكثر إلحاحاً. الأم والأب وأطفالهما. نقلوا من أسرَتهم إلى قبور جماعية ضمت رفاتهم.

في إحدى مقابر زملكا، كان الأب يقف على قبر طويل يبدو بلا نهاية. هنا دفنت زوجته وطفله. وإلى جانبهما عائلة فلان، وعائلة فلان. وفكرت، إن كان بينه وبين نفسه يحسد العائلات التي ذهبت بجميع أفرادها إلى تلك القبور الضيقة ولم تترك وراءها من يعيش ألم الفقد.

ولا تزال أصوات الاشتباكات قريبة جداً وعلى أشُدّها. ولا أحد من الحاضرين يكترث، وهم منهمكون في الحفر وإهالة التراب على الأحبة. مشرف الدفن يشرح كيف تتلاصق الجثامين التي بلغ تعدادها 140 في هذه المقبرة الصغيرة.

صوّر صوًر، يقول. هنا آل فلان، ويقوم بتعداد أسماء أفراد العائلة، وهنا آل فلان.. ونحن ننظر وكأننا يجب أن نرى العائلة ونلقي التحية على الوالدين ونداعب الأطفال، لكننا لا نرى إلا تراباً غير مستوٍ وبضعة أغصان جافة من نبات الآس رميت فوقه كيفما اتُّفق.

في ردهات تجميع الجثامين في كل بلدة، تجمع الأهالي للبحث عن أبنائهم. تدخل سيدة مسنة وهي تتوسل للموجودين أن يرشدوها إلى جثمان أبنائها واخوتها إن كانوا قد استشهدوا. يساعدها الشبان في رفع الغطاء عن وجوه صف الشهداء المجهولين الذين ينتظرون من يتعرف إليهم. شهيداً تلو الآخر تمر عليهم. تشهق لدى رؤية أحدهم، ثم تتمالك نفسها وتقول ليس هو. تنتهي من البحث، وتنطق بالحمد بصوتها المتهدج لأن احتمالات موت أحبتها قلت بمعدل نقطة طبية واحدة.

في الأغلبية العظمى من الحالات، تفرق أفراد العائلة بين النقاط الطبية على امتداد الغوطة. ومن شفي منهم واستعاد قواه، بدأ رحلة البحث عن عائلته من بلدة إلى بلدة. كان الجميع غاضبين، بالكاد يتمالكون أنفسهم قبل أن ينهاروا بالبكاء. كلما فشلوا في العثور على أحبتهم في الردهات بين المصابين والشهداء، أو في قوائم الأسماء التي تمكن الإداريون من تسجيلها.

حال المصابين ليس بأفضل كثيرا، خاصة الأطفال. بمجرد التوجه بكلمة للطفل يقلب شفتيه الصغيرتين ويحاول كبت صوت بكائه وكأننا سنعاقبه إن جاهر بقهره ولعن العالم بمن فيه. يبدأ بالسؤال عن والديه ولا أحد يملك الجواب. لا أحد يقوى على الجواب.

لا أحد أصلا يستوعب كل مايحصل فعلا. هذه بلاد العجائب والصدف التي لا يفترض أن تحصل بشكل متواتر وتنقل إلى اعتياد. إلى جانب إحدى النقاط الطبية وقف شخص وهو يبكي ويلوح بيديه. قال أنه أنقذ ثلاث سيدات إلى المشفى، في الطريق وبسبب الاستعجال والارتباك دهس شخصا فقتله، وعندما وصل إلى المشفى ركن شاحنته الصغيرة أمامها بانتظار أن يبت بأمره بخصوص الشخص الذي دهس، وبعد دقائق غارت طائرة الميغ واختارت تلك النقطة بالذات التي تقف فيها الشاحنة فأحالتها ركاما! من يمكن أن تحصل معه أحداث مماثلة خلال ساعات قليلة من حياته ويبقى على إيمانه بأن الدنيا ليست على أبواب القيامة؟!

من لايزال يحتفظ بشيء من القوة والتماسك، ينفجر في موجة غضب تجاه نفسه والآخرين. لأن أحدا لا يقوى على التخيل أن المئات من الشهداء كان بالإمكان إنقاذهم، لو توفر المزيد من الدواء، لو أن “الجهات المانحة” لم تتمنع عن المساعدة في تجهيز نقاط طبية خاصة بمصابي الكيماوي. حتى الأطباء غاضبون من أنفسهم، من اضطرارهم للاختيار بين مصاب وآخر حسب قرعة الحياة والموت في سوريا الثورة. كتب الطبيب ماجد على الفيسبوك: “بكيت وبكيت اليوم وانا استقبل تبرعات الأجواد والكرماء الذين لم يقتنعوا ان المشروع الذي قدمناه منذ اربع أشهر لتجهيز نقطة للتعامل مع إصابات الكيماوي هو ضرورة واليوم اقتنعوا بعد مئات الشهداء .. بكيت وانا أوقع على موافقات بقبض هذه المبالغ التي دفعنا ثمناً لقبضها صور الشهداء”..

المشكلة ليست هنا فقط، بل في قناعتنا واعتيادنا على أن كل شيء أصبح ممكنا، وأن السبيل الوحيد لمواجهته ولو نسبيا، هو في الاستعداد له، الاستعداد للقصف، الاستعداد للجوع، الاستعداد للكيماوي! هذا أقصى مايمكن أن نفعله.

يعني أن تصبح المحادثة التالية مع أطفالنا قبل النوم من بديهيات حياتنا. ابني اغسل اسنانك واذهب إلى سريرك فقد تأخر الوقت. ولا تشرب الكثير من الماء قبل النوم! وإذا سمعت هدير الطائرة انزل إلى القبو، وإذا شممت رائحة غير طبيعية اصعد إلى السطح، وإذا لم تجد الوقت كيف تفعل أي شيء، فاعلم أني أحبك كثيرا، لكن ليس باليد حيلة. العالم قذر ومتوحش. ستفهم يوما حين تكبر، إذا أتيح لك أن تكبر! تصبح على وطن يا بني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى