صفحات مميزةمحمد سامي الكيال

البحث عن المدينة السورية!


محمد سامي الكيال

بكثيرٍ من التعالم، وببراعة معرفية شبه معدومة، تحاول العديد من “النخب” الثقافية والسياسية في سوريا إيجاد فتوى تاريخية تُدخل الثورة السورية إلى نعيم الثورات “المدنية الديموقراطية”، كما يحددها قاموس مقولات ثقافتنا الكتابية السائدة. فهذه الثورة التي قامت على أكتاف أبناء أشد المناطق الريفية وعشوائيات المدن المريفة “تخلفاً”، صدمت الحساسية الاجتماعية والايديولوجية لنخبنا المتنورة. فبدلاً من أن نرى جموع المتمدنين تعتصم في ساحات المدن الكبرى، برز لنا الفلاح وعامل الورشة السوري بملامحه وطباعه الخشنة، وثقافته الشعبية “المنغلقة”، يحمل الأعلام ويكتب اللافتات ويبتكر الشعارات، ويحرر أزقة قراه وبلداته معتصماً بها تحت النار والرصاص، في حين غرقت مراكز المدن الكبرى وساحاتها الشهيرة في حالة من العطالة التاريخية الغريبة.

البحث عن “الحراك المديني”، و”المجتمع المدني”، و”دور المدن الكبرى” في هذه المعمعة، أضنى مثقفينا، وجعلهم يبتكرون عشرات النظريات والتحليلات التي صيغت لتحشر مفاجآت الواقع في قوالب مقولاتهم السياسية والاجتماعية. لعل أكثر تلك التحليلات طرافةً، التحليل الشهير الذي يتحدث عن تحالف بين المجتمعين المدني والأهلي في سوريا، يقدم فيه المجتمع المدني للأهلي الخطاب السياسي والاستراتيجيا الثورية، في حين يقدم المجتمع الأهلي للثورة وقودها البشري وضحاياها والعمود الفقري لحراكها. هذا التحالف عمل النظام على تفكيكه، ونجح في ذلك إلى حد كبير، فأضحت الثورة جسداً أعمى لا يملك العقل والبصيرة، يغرق في العنف والطائفية والتشدد الديني، في حين أقصيت المدينة السورية بمجتمعها المدني المتنور عن السياق الثوري، مما أغرق الكثير من المثقفين برثائيات حزينة عن حال الثورة ومستقبل الوطن!

أمام مثل هذه التحليلات لا بد لنا أن نبحث عن المدينة السورية ودورها في هذه الأحداث، مع الغوص عميقاً في المفهوم المُقدّم عن “المجتمع المدني” علنا نفهم مدلوله الحقيقي في عرف ثقافتنا السائدة. إنه بحث ممتع في الجغرافيا الاجتماعية والبشرية للمدينة السورية، أو بالأصح بحث مسلٍّ في الجغرافيا المتخيلة! ولكن، دعونا الآن لا نستبق النتائج.

***

أحد عشر شهراً من الثورة السورية لم تستطع تحريك شيءٍ في الوسط التجاري والإداري لأكبر مدينتين في سوريا، فمهما توسعت التظاهرات والإضرابات في الأحياء الطرفية المهمشة والمكتظة بالسكان في دمشق وحلب، فإن ذلك لن يعني أن هاتين المدينتين قد تحركتا. هذا ما يتفق عليه كثيرٌ من محللي السلطة ومثقفي المعارضة في الآن ذاته. هكذا تغدو أحياء كـ”برزة” و”القدم” في دمشق، و”الصاخور” و”صلاح الدين” في حلب استطالاتٍ سرطانية لريفٍ متخلف لا يستطيع النفاذ إلى مدنية تلك المدينتين. أين تقع إذاً المدينة السورية؟!

علينا العودة إلى الوسط الإداري للمدينتين حيث الكثير من الأسواق والمكاتب والمؤسسات الحكومية والمراكز الأمنية، والقليل من السكان، لا بد أنه الموطن الحيوي للمدنية السورية، ولكن ماذا نقول عن مدن لا تستطيع أن تدمج مراكزها مع أطرافها في متحد اجتماعي يؤمّن شبكة من التواصل والتفاعل المدني العضوي بين كل سكان المدينة وجهاتها؟!

فلنعالج الموضوع من زاوية أخرى: “المدن” السورية لا تستطيع تأمين التفاعل المدني العضوي بين سكانها ومناطقها، ولا تملك المؤسسات الاجتماعية- المدنية اللازمة، يضاف إلى ذلك أن الكثير من البلدات السورية تحولت من قرى إلى “مدن” بعدما جعلتها الدولة مراكز لمحافظات ونواحٍ (إدلب، السويداء، درعا…الخ)، أي عندما مركزت فيها  وجوداً سياسياً- إدارياً تابعاً لها، بمعنى أنها “مدن” بفعل السلطة لا بفاعليتها الاجتماعية- الاقتصادية الذاتية، ولا تزال واقعياً وفي العرف الشعبي بلداتٍ وقرى. أما في دمشق وحلب، وبدرجة أقل حمص وحماة واللاذقية، فهناك إلى جانب ذلك العامل السلطوي، عامل تاريخي يتمثل في تمركز رأس مال تجاري جعل تلك المناطق أسواقاً غنية مزدهرة. ولكن هل تستطيع السلطة ورأس المال التجاري وحدهما صنع مدينةٍ ومجتمعٍ مدني بأي مفهوم حديث لهذين المصطلحين؟

نحن نتحدث هنا عن مراكز سياسية- تجارية تتصل بها مكانياً مناطق عشوائية شبه ريفية تعيش فيها كتلة هائلة من السكان الذين يقتاتون على ما تقدمه لهم هذه المراكز من ريع، والمراكز لا تستطيع تمدين تلك العشوائيات وإدماجها عضوياً في بنية مدنية موحدة، فهل تستحق هذه “المدن” أن تسمى مدناً؟! وإذا كان من الصعب علينا أن نجد “مدينة” بالمعنى الحديث للمفهوم في سوريا، فهل يمكننا الحديث أصلاً عن “مجتمع مدني”؟

منذ مطلع هذه الألفية عمل العديد من الناشطين والمثقفين السوريين في مشروع مهم هو “إحياء المجتمع المدني” الذي حمّلوا السلطة مسؤولية موته وفنائه. الغريب في أمرهم اليوم أنهم ينعون على المجتمع الأهلي انفصاله عن المجتمع المدني، ويتحدثون بذعر عن محاذير استمرار ثورة سيجعلها حاملها الأهلي المتخلف حتماً ثورةً مذهبية عنيفة، وينتظرون بيأس تحركاً ما من المجتمع المدني. السؤال هو: كيف يرتبط مجتمع أهلي يعيش حيوية الثورة، بمجتمع مدني ميت وبحاجة إلى إحياء؟ وكيف يتحرك مجتمع مدني غير موجود أصلاً؟ يحقّ لنا فعلاً أن نتساءل عن أي مجتمع مدني يتحدثون؟!

للإجابة عن تساؤلنا يجب أن نعود من جديد إلى المراكز السياسية- التجارية للمدن السورية الكبرى باعتبارها الحاضن الطبيعي لأي مجتمع مدني مفترض، يعيش في هذه المراكز إضافة الى رجال السلطة والمال، المكروهين بشدة من مثقفي “المجتمع المدني” السوري. ما تبقى من الفئة الوسطى السورية التي نجحت إلى حد ما في وقاية نفسها من الانحدار السريع إلى صفوف المهمشين، يعمل معظم أفراد هذه الفئة في مؤسسات الدولة أو في المهن الحرة (الطب، المحاماة، الهندسة….الخ)، ولهم مصلحة فعلية في “الاستقرار”، ولا يمكن اعتبارهم فئة اجتماعية متجانسة واعية لذاتها، تالياً لا يجمعهم أي تنظيم مؤسساتي مدني فاعل. فهل هؤلاء هم أفراد “المجتمع المدني” في نظر دعاة هذا المفهوم؟

إن الخلط بين “فئة وسطى” و”المجتمع المدني” يدل على ما هو أكبر من تهرؤ الأدوات المعرفية والجهاز المفاهيمي لأنصار ثقافتنا الكتابية السائدة، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن التخوف من المجتمع الأهلي والحديث عن الريف “المتخلف” يشير فقط إلى مناطق معينة من سوريا ذات طبيعة سكانية ومذهبية واضحة، ولا يشمل مناطق ريفية وروابط أهلية أخرى تعتبر في عرفنا الثقافي “منفتحة” و”متنورة”، أي المناطق الريفية التي تسكنها روابط أهلية تنتمي مذهبياً إلى الأقليات الطائفية السورية!

فهل التخوف من حراك المجتمع الأهلي في سوريا، والاحتقار المبطن له ولممارساته، والدعوة الدائمة إلى الوصاية عليه وتقويم سلوكه، والتحذير الدائم من المآل الذي قد يجر سوريا إليه، وابتكار جغرافيا متخيلة عن “مدينة” و”مجتمع مدني” في سوريا، هل يخفي هذا كله في ثناياه تعالياً واحتقاراً طبقياً تجاه أبناء الثورة من المهمشين، ورهاباً طائفياً أقلوياً منهم؟!

ربما يكون تحليلنا خاطئاً على كل حال!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى