صفحات الثقافةممدوح عزام

البحث عن قراقوش/ ممدوح عزام

 

 

يسخر إريش ماريا ريمارك، في روايته “كل شيء هادئ في الميدان الغربي”، من الدعاية العسكرية التي تزعم أن الجبهة هادئة أثناء الحرب العالمية الأولى، بينما يموت فيها عشرات الآلاف من الجنود.

مثلما تسخر من بعده بكثير مارغريت آتوود من التاريخ، في أحد فصول روايتها “الدمية”، حين تضع توني، وهي إحدى الشخصيات في الرواية، فصوص الثوم وقرون الفلفل وبذور الكزبرة وحبوب الشعير على الخريطة التي تحدّد مكان المعركة التي تريد أن تحاضر في تاريخها، بدلاً من نماذج الجنود من القوى المتحاربة على الأرض.

ومن الصعب أن تجد رواية عربية تحكي عن الحرب بروح السخرية على غرار “الجندي الطيب شفيك”، لـ ياروسلاف هاشيك، أو “المسلخ رقم خمسة” لـ كورت فونيغوت، أو “رحلة في أقاصي الليل” لـ لويس فرديناند سيلين.

إذ لا تزال الرواية العربية تتردّد تجاه الموقف من الحرب، أو من أسباب الحروب، وخاصة أن معظم الحروب في المنطقة مسجلة بأسماء وطنية وقومية، مثل حروب الاستقلال، والحروب مع العدو الإسرائيلي.

وقد مضت الرواية العربية إلى التاريخ متجهّمة، ولم تكتب، بحسب علمي، رواية تسخر من أي تاريخ، بما في ذلك تلك التواريخ الهامدة التي شهدت هزائم كوميدية، مثل حرب حزيران/ يونيو. وقد تكون الحروب التي نشبت في سورية والعراق واليمن فرصة جديدة أمام الرواية كي تنفتح على الساخر. ففي الكثير من تفاصيل هذه الحروب يرقد جانب عبثي عجيب ينتمي إلى عالم الكوميديا السوداء، بقدر ما فيه من العوالم التراجيدية.

وسبق لماركس أن قال إن التاريخ قد يكرّر نفسه مرة كمأساة، ومرة كمسخرة. وقد شهدت العقود الستة الماضية تجليات مدهشة لفكرة ماركس، حين أنجب التاريخ كل تلك النسخ المقلدة من قادة وزعماء صغار استقوا ممارساتهم من زعماء آخرين في العالم. واللافت أن معظم النسخ المقلّدة ارتأت أن يكون مثالها طغاة ومشعلي حروب لا مصلحين وقادة بناء وديمقراطيين.

ولعل ماركس كان يتنبأ بهذا التقليد حين تحدّث عن المهزلة في تكرار التاريخ، ولدينا أمثلة كثيرة يقدّم فيها الطغاة العرب مادة دسمة محشوة بالممارسة الكوميدية للحكم، على طريقة شر البلية ما يضحك. ولكن السخرية لا تزال مترددة تجاه السلطة السياسية، وجريئة تجاه العادات والسلوك. ولا شك أن الخوف الناجم عن بطش الأنظمة العربية يساهم في تأخير هذا الانخراط. ويمكن التذكير هنا بأن الثقافة الرسمية في سورية أرغمت كاتباً ساخراً، هو حسيب كيالي، على الخروج من وطنه.

وقصة قراقوش في تاريخنا قد تنفع في حثنا على مقاربة رواية السخرية، إذ لم تستطع الكتب التي أشادت بهذا المملوك تبرئته، ومن الصعب أن يستطيع أحد انتشاله من كتاب ابن مماتي “الفاشوش في حكم قراقوش”. وهو يظهر قدرة الساخر على البقاء. إذ استطاع ابن مماتي التسلل إلى منطق القوة الغاشمة التي تنتج عن سلطة مطلقة الصلاحيات، وأعاد كتابتها في صورة الحاكم، ولا يثبت المدافعون عن قراقوش في عصرنا غير التأكيد على خشية الثقافة الرسمية من الساخر، بينما تتحرّر الذاكرة الشعبية بالساخر ذاته.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى