صفحات الرأي

البعث السوري: عفلق والأرسوزي، البدايات الأولى


حازم صاغيّة

في 1947، بعد عام واحد على الجلاء الفرنسي عن سوريا، ولد “حزب البعث العربيّ”. كانت تلك هي الولادة الرسميّة، إذ سبقها تبشير بـ”البعث” في مقاهٍ دمشقيّة كان الطلاّب يتحلّقون فيها حول أستاذين عائدين من باريس، هما المسيحيّ الأرثوذكسيّ ميشيل عفلق والمسلم السنّيّ صلاح الدين البيطار، ومعهما دمشقيّ ثالث لم يعمّر طويلاً اسمه مدحت البيطار.

و”البعث” هذا كانت مقدّماته قد ظهرت في “الإحياء العربي”، ذاك العنوان الذي يستعيد “عصر النهضة” وعناوينه، والذي في ظلّه أطلق الثلاثة دعوتهم أوّلاً، قبل أن ينشطوا تبشيريّاً. لكنْ في أجواء مشابهة، كان أستاذ آخر درس أيضاً في باريس، يُدعى زكي الأرسوزي، يبشّر بـ”البعث العربيّ”. والأخير، وهو علويّ المذهب، لم يكن دمشقّياً، بل جاء لاجئاً من أنطاكية في لواء الاسكندرون بعد استيلاء الأتراك عليه في 1938، بموجب اتّفاق بينهم وبين الفرنسيّين.

الثلاثة ربطتهم صلة متفاوتة بتجربة سابقة هي “عصبة العمل القوميّ” التي أسّسها، في 1933، اللبنانيّ علي ناصر الدين ومعه بعض شبّان سوريّين وعراقيّين ولبنانيّين. بيد أنّ “العصبة” التي توقّف عملها بعد ستّ سنوات، كانت أشبه بمحفل ضمّ وجهاء متعلّمين بعضهم يمتّ بالنسب إلى الأرستوقراطيّة القديمة، فيما يتّسم نشاطهم بخطابيّة وإنشائيّة موسميّتين لا تتجاوزان محيط المحفل المغلق.

وعفلق والبيطار والأرسوزي لم يُعرفوا بودّ متبادل، وقد نُقلت عن ثالثهم عبارة شهيرة في أوّلهم تقول إنّ “الأدب خسره فيما ابتُليت به السياسة”. لكنّ الأمر كان أكثر من عبارة شاردة، إذ الأرسوزي رأى في منافسه الدمشقيّ تجسيداً للفشل ولانحطاط الهمّة والكسل الفكريّ. وبينهما قامت فوارق أعمق في عدادها أنّ المعلّم الأنطاكيّ اعتبر الجاهليّة، لا الإسلام، عصر العرب الذهبيّ، كما عوّل، متأثّراً بالأدبيّات العرقيّة الأوروبيّة، على “عنصر” عربيّ متفوّق، فقال بـ”العروبة فوق الجميع”، وهو ما لا أثر لمثله في كتابات الأستاذ المنافس. وإذ اهتمّ الأستاذ الاسكندروني بفقه اللغة (الفيلولوجيا) ودوره المفترض في قيام الأمّة وتكوّن القوميّة، قصر الأستاذ الدمشقيّ تركيزه على “وحدة” اللغة والتاريخ والوجدان. إلاّ أنّ الطباع الشخصيّة الحادّة للأرسوزي كانت، على ما يبدو، ما نفّر الرفاق الصغار منه دافعاً بهم إلى أحضان الأستاذين الآخرين.

وكان ممّن ورثهم هذان عنه شبّان لعبوا لاحقاً أدواراً مهمّة في تاريخ البعث، كسامي الجندي ووهيب الغانم، فأضيفوا إلى أوائل البعثيّين الذين كان منهم جلال السيّد، صاحب الملكيّات الزراعيّة في دير الزور والهاجس بتفوّق عرقيّ للعرب على سواهم، ومنصور الأطرش، نجل قائد الثورة الدرزيّة في العشرينات، سلطان باشا الأطرش، وجمال الأتاسي، الطبيب النفسيّ وابن العائلة السياسيّة الحمصيّة العريقة.

لكنّ كتلة البعثيّين الأوائل، ممّن أسماهم عفلق “الأنبياء الصغار”، ظلّت ضعيفة محدودة العدد، أقرب إلى الشَلل منها إلى الفعّاليّة. وهي تميّزت، كذلك، بملامح سوسيولوجيّة لا تخطئها العين: فأكثريّتها شبّان صغار من الطلاّب والتلاميذ، يغلب عليها أبناء المناطق الريفيّة الصادرون عن طوائف أقليّة، درزيّة وعلويّة واسماعيليّة. وهؤلاء وفدوا إلى دمشق للدراسة فواجهوا غربة عالمها وصدّه لهم وتعاليه عليهم. هكذا وفّر البعث تعويضاً إيديولوجيّاً مزدوجاً لهم يقاومون به تشاوُف “عاصمة الأمويّين”: فهم، من جهة، صاروا أصحاب “رسالة خالدة” توارثوها جيلاً عن جيل، كما أنّهم، من جهة أخرى، مَن كُلّفوا الردّ على تفتّت الوطن وتقطّع الجماعات الأهليّة بطوبى “الأمّة العربيّة الواحدة” المتعالية والممتدّة “من المحيط إلى الخليج”.

والأفكار الدائرة في الفلك البعثيّ كانت بسيطة، مصاغة بلغة عفلق الإنشائيّة والأنيقة التي احتوتها مقالات قصيرة نُشر معظمها افتتاحيّاتٍ في جريدة “البعث”. ووفقاً لتلك الأفكار، مثّل البعث “الانقلاب” العميق على النفس، والعودة إلى “الفطرة” التي شوّهها استعمار لا يقتصر على الأوروبيّين بل يضرب جذره في “الشعوبيّات” الفارسيّة والتركيّة التي لم تظهر في التاريخ الإسلاميّ إلاّ لتسويد صفحة ذاك التاريخ والإساءة إلى صنّاعه العرب. وإنّما عبر البعث والعودة إلى الفطرة يستعيد العرب وحدةً لم تبارحهم، في ظنّ عفلق، إلاّ مؤخّراً جدّاً، كما يحرزون حرّيّتهم التي هي حريّة الأمّة العربيّة قبل أن تكون حرّيّة العرب الأفراد. أمّا الاشتراكيّة، التي لم يُسمَّ بها الحزب في البداية ولا تكنّى، فلا تمتّ بصلة إلى الماركسيّة وصراعها الطبقيّ، إذ هي، مثل القوميّة، “حبّ قبل كلّ شيء”، حبٌّ لا تنقطع الوشائج بينه وبين أصالة العرب ونبلهم. وهذا جميعاً ما سوف يسوقهم بيده إلى حيث “ظفر الحياة على الموت”.

وفي هذه المعاني الغامضة والجريحة، عُدّ البعث صيغة بسيطة أخرى من صيغ النزعة الخلاصيّة واقتراحاتها التي تأخذ بأيدي طالبيها من العتمة الشاملة إلى النور الساطع، ومن عوالم الخطأ والظلم والإجحاف والبعثرة إلى رحاب الصواب والعدالة والتمكّن في الأرض.

ولئن كان عفلق مدعوّاً لأن يدلي بدلوه في أمر الإسلام، لأنّه يحتلّ ما يحتلّه في الحياة العربيّة، ولأنّه هو نفسه مسيحيّ، فقد سمّى الإسلامَ معجزة العروبة وخير ما أنتجته العرب، كما اعتبر نبيّه بطلهم الأبرز الذي كان “كلّ العرب”، فما على العرب اليوم كي يظفروا إلاّ أن يكونوا “كلّهم” محمّداً. وقد حاول “الأستاذ”، جرياً على تقليد محافظ شائع آنذاك، أن يضع الدين العربيّ في مواجهة “الإلحاد” الشيوعيّ والمتغرّب، فضلاً عن تطويعه في الصراع ضدّ “الشعوبيّين” من أعداء القوميّة وكارهي العرب ووحدتهم.

بيد أنّ البيئة الإسلاميّة السنّيّة العريضة لم تعثر في عفلق على أستاذها، ولا في صورته عن الإسلام على صورتها. فمحمّد خاتم الأنبياء الذي أُرسل للعالمين، ومن ثمّ فإنّ سيامته بطل العرب والعروبة أقرب إلى كسر رتبة منها إلى إعلاء شأن. هكذا بدا “الأستاذ”، منذ البدايات، مهدّداً بالوقوع في فراغ: لا الأكثريّة السنّيّة تهضم آراءه التي تنقل التركيز من الإسلام إلى العروبة، ومن النبوّة إلى البطولة، ولا الأقليّات الدينيّة والمذهبيّة تستسيغ عروبيّته الحادّة الكارهة لـ”الشعوبيّين” و”التجزيئيّين”.

وعفلق، الذي كتب قصائد رومنطيقيّة في شبابه، استقرّت فيه تأثّرات ألمانيّة عدّة لم تتجانس، مطرّزةً بقليل التأثّرات الفرنسيّة المبعثرة، لكنّ إعجابه بوحدتي إيطاليا وألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر ظلّ يحفر عميقاً في نفسه، مثله في ذلك مثل كثيرين من أبناء جيله. وإلى تعريجه على نيتشه، ومن قبله فيخته، وربّما هيردر، اجتمعت له عموميّات ماركسيّة لا يبدو أنّها تركت عليه أثراً ملحوظاً، مع أنّه بُعيد عودته من باريس خالط أجواء الشيوعيّين السوريّين وساهم، بمقطوعات أدبيّة، في نشراتهم، لا سيّما منها “الطليعة”. لكنّ أكثر ما يدلّ على نقص الانسجام والتجانس في وعي عفلق أنّ العموميّات الليبراليّة وجدت، هي الأخرى، طريقاً إلى تفكيره. فقد نصّ، مثلاً، المبدأ الثاني من دستور الحزب على أن “حرّيّة الكلام والاجتماع والاعتقاد والفنّ مقدّسة لا يمكن لأيّ سلطة ان تنتقصها”.

يومذاك، في 1947، كانت سوريّا التي استقلّت لتوّها تبني دولة وتوسّع إدارة وجيشاً، وفيها تتبلور مصالح اجتماعيّة للطبقة الوسطى على اختلاف شرائحها، كما تبحث عن تعبير يكون خاصّاً بتلك الطبقة ويتولّى حمل مصالحها الصاعدة. وقد اقتطع البعثيّون لأنفسهم جزءاً صغيراً من هذا الطموح ومن لغته الجديدة، آملين أن يعمل المستقبل على توسيع رقعته. غير أنّ المستقبل سريعاً ما اصطفى الضبّاط الذين قفزوا، في 1949، إلى السلطة، بقيادة قائدهم الغريب الأطوار حسني الزعيم.

والانقلابات التي توالت بين 1949 وأواسط الخمسينات كانت، من ناحية أخرى، وثيقة الصلة بـ”الصراع على سوريّا” بين الهاشميّين في العراق ونموذجهم الملكيّ وبين مصر الملكيّة ثمّ، منذ يوليو 1952، الجمهوريّة. ويبدو أنّ عفلق وحزبه كانا محيّرين في هذا الصراع، مع أنّ إشارات كثيرة ترجّح انحيازهما الأصليّ إلى العراق الهاشميّ. وقد كانت إحدى الإشارات توزير “الأستاذ” نفسه، إذ سُلّم حقيبة المعارف بعد انقلاب سامي الحنّاوي على حسني الزعيم، والذي اعتُبر انقلاباً عراقيّ الهوى على النفوذ المصريّ وأتباعه. صحيح أنّ عفلق وحزبه كرها النموذج الملكيّ في بغداد، لكنّهما كرها أكثر الانقلاب العسكريّ المصريّ الذي قاده جمال عبد الناصر وخافا تعطيله الحياة الدستوريّة والحزبيّة، على غرار ما كان يفعله انقلابيّو دمشق. فوق هذا، لم يغب العنصر العاطفيّ عن الخيار ذاك. فبعثيّو سوريّا الذين ارتبط شبابهم الأوّل بالحماسة لرشيد عالي الكيلاني في انقلابه على الإنكليز عام 1941، مساهمين في لجان “نصرة العراق” لهذا الغرض، امتلكوا هوى عراقيّاً لم يكنّوا مثله حيال مصر. فهذه الأخيرة إنّما بدت بعيدة وغريبة وناقصة العروبة في نظر عروبيّي المشرق الآسيويّ على عمومهم. وهم، من ناحيتهم، أوكلوا إلى أنفسهم مهمّة استكمال تعريبها حين تحين الفرصة. وبعد كلّ حساب فإنّ العَلم الذي اختاره البعثيّون الأوائل لحزبهم لم يكن سوى علم “الثورة العربيّة الكبرى” في 1916، وهي “ثورة” الهاشميّين قبل أن تكون أيّ شيء آخر.

كذلك لعب القطب البعثيّ جلال السيّد دوراً مميّزاً في دفع حزبه إلى الاندماج في هذا الهوى العراقيّ. فهو، فضلاً عن تعاطفه مع الهاشميّين العائد إلى خرافات الدم والنسب والأرومة، يصدر عن مناطق سوريّا الشرقيّة الشديدة التداخل مع العراق، لا بسبب التلاصق الجغرافيّ والمصاهرات فحسب، بل أيضاً بفعل توزّع ملكيّات الأراضي العشائريّة على أراضي البلدين. هناك، في تلك التخوم الحدوديّة، كانت الدعوة العروبيّة تعني أوّلاً، وقبل أيّ شيء آخر، إعادة جمع العشائر والملكيّات التي قسّمتها حدود الدول الوطنيّة الناشئة. وهذا ما وسم البعث مبكراً بميسم رجعيّ لم يستطع محوه كلّ الضجيج التقدّميّ اللاحق.

[ سطور من كتاب لحازم صاغية بعنوان “البعث السوري: تاريخ موجز” يصدر قريباً عن “دار الساقي” في بيروت

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى