صفحات سوريةمحمد زكريا السقال

البوعزيزي والأعذار الواهية !

 


محمد زكريا السقال

على صفحة الفيس بوك، تثار حوارات جيدة، حوارات تفتح عقول الناس أمام بعضها، لتطل منها على مساحات من الفكر والثقافة، تجعلهم يتقاربون ويتقاطعون ويختلفون، إلا إنها تؤسس لثقافة ومناخ جميل وهو تبادل الوعي والفكر وجدل للتعايش وحل لخلافات بشكل حضاري وإنساني. ثقافة الحوار والاختلاف مهمة أساسية جندتها الشعوب لنفسها كي تنتفض، على سيادة الثقافة الواحدة، والفكر الواحد، والقائد الواحد، والحزب الواحد، والإعلام الواحد.

هذا التفرد التسلط الذي أودى بالمجتمعات العربية، فركنها خارج السياق العام لتطور المجتمعات، وهمش إنسانها بمواجهة السحق والنهب والفساد المعمم. الكمون الأساسي الجوهري لهذه الثورات، هو قلب المعادلة، الرجوع لمبدأ المواطنة الممزقة والمركولة، بمعنى العودة الى أنا أنسان بوطن. انسان قادر على الفعل والعمل والإنتاج. لست رقما تافها ولا عبداً مملوكاً.

لا تأخذ الثورات سياقا واحدا، ولا تستنسخ. الثورات فعل جمعي للشعب. هذا سياق، لكن الطريق والنضال فعل وعي خاص مرتبط بكل الظروف والوقائع التي تحيط به على الأرض، وقدرة الوعي على إستيعاب كل هذه المصاعب والعقبات لتجاوزها بحلول. حلول دأبها الأول تقليل الخسائر والدماء قدر الإمكان، والثاني تحقيق أهدافها وتتويج نضالها بمكاسب ذات معنى، وذات معنى هنا هي جوهر أساسي، مكاسب تؤهلها على تأسيس حيزها وخندقها كقوة موجودة وفاعلة، تسلحها بامكانية احداث تغيير جوهري في المستقبل وهو الهدف الذي نتوخاه كبشر فاعلين. بشر يريدون مجتمعا حرا نظيفا موحدا قادراً على الحياة من خلال امتلاكه لشروطها، في سيادة دستور عادل وقانون يساوي بين المواطنين بالحقوق والواجبات، وبناء مؤسسات مدنية ديمقراطية تستوعب تفاعلات المواطنين وإبداعهم.

لم يكن لهذه المقدمة أن تكون لولا توفر مقدماتها، بمعنى آخر الثورة بسوريا، التي لم تكن ترفاً ولا عبثاً أو نزقاً، بقدر ماهي حاجة موضوعية لازمة لما عاناه الشعب السوري وعلى مر عقود طويلة من قمع وسحق، وتفرد وتسلط وفساد وعبث بكل مقدراته. بالإضافة للإستخفاف بإنسانه، وهو شعب عريق يمتلك كادرات ومقدرات تؤهله لأن يكون جديراً جداً بمصاف الحداثة والتطور وبناء مجتمع لائق به. هذا الوضع الذي تعيشه سوريا وما يحيط بها، يشكل اجماعاً للجميع، يشكل هما مجمعا عليه من النخب والقوى، ويقر به النظام أيضا. اما الطريق اليه فهو موضع جدل. وهذه أيضا حقيقة، يقر بها الجميع لما يعتريه من مخاوف وصعاب. نذكر منها التدخلات الخارجية ومشاريعها، ونؤكد هنا بل نشدد عليه، بأن مقاومة هذه المشاريع تستدعي تغييرا جوهريا بهذه الأنظمة العفنة الفاسدة صنيعة الخارج ووكيلتها. كما أن التخوف من حروب أهلية طائفية واثنية تفتح ابوابا لتفتيت المجتمع السوري وتدخله أتونا حارقا. أمر يجب التحسب منه ومقاومته ببرنامج وحدة وطنية والتشديد على سلمية التغيير ومقاومة كل الخطابات الموتورة وتحريم استعمال العنف واللجوء للسلاح ورجمه.

وكي نكون في الحدث وندرس سياقه، نجد أن الشعب السوري عبر بانتفاضته ومظاهراته الإحتجاجية عن هذا. وكان واعيا واظهر حسا متقدما، بشعارات توحدت على الحرية وأجمعت على انتزاعها سلمياً. ولو استعرضنا السياق لوجدنا الشعارين الأساسين، هما سلمية المظاهرات، والمطالبة بالحرية.

من الذي يريد جرنا لحرب داخلية؟

لا ينكر أحداً أن النظام المأزوم لا يريد هذا التغيير. هذا التغيير يدركه النظام بحاسة المستبد، يدرك انه مستهدف مستقبلا بسلطته وامتيازاتها. أجاء هذا الأمر برضوخه لمطالب الإصلاح الجوهري، وهو السماح للشعب من خلال ممثليه بالمشاركة بالحياة السياسية والإشراف على توجهاتها وقرارتها، بمعنى اية مبادرة ذات معنى ستؤسس لتبادل وتداول السلطة من خلال الإنتخابات، حيث ستتنافس البرامج والخطط، بدل التسلط والتفرد، يأتي هذا اليوم أو بعد دورة انتخابية، وهذا ما لا يريده النظام المستبد الحاكم القاهر المتفرد. يريد سلطة الى الأبد، ولا فكاك له اذا ما أراد اصلاحا إلا الرضوخ لهذه الشروط، أو الهروب الغير مجدي لمعارك داخلية، وتبريرات واهية، وخيار أمني فاشي، يثير أحقادا وغبنا، ويجعل استعصاء التغيير الآتي لا محالة، ولكنه وللأسف بكثرة الضحايا والدماء .

هذه اللوحة للوضع بسوريا وهي مجللة بالسواد والدماء، تضع النخبة السورية بكل شرائحها وتوجهاتها أمام مهام سريعة وملحة، وهي التوحد وابداع فكرها للوصول للهدف، والتقليل قدر المستطاع من الدماء وحشد الإجماع على المطالب لإجبار بنى النظام السياسية كي تنأي بنفسها عن دعم الدخول بدهاليز النظام الأمني، لسحب البساط عن اختياره للحل الأمني العسكري الغير مجدي والمكلف والبغيض بنفس الوقت.

للأسف تطالعنا بعض النخب والكوادر بمبادرات غير واعية، وغير مسؤولة، بل وتستهر بكل هذه الدماء وهذا الغضب الجماهيري. لهذا فهي لا تلقى آذانا صاغية، بل وتحشر أصحابها بخندق شبهة تمركزها الى جانب النظام وتبرير حلوله الأمنية الفاشية وتقدم تبريرات واهية وغير مقنعة ومستخفة بالناس ودمائها.

من هذه التبريرات، الترويج للخطر الخارجي وتداعياته على سورية في وقت تلتهب جناجر الشباب المتظاهرين بنداءات الحرية والمواطنة!! التدخل الخارجي، تهمة واهية ولا تصمد أمام المنطق، حيث ما الذي يضير وجود مناخ جاد لحوار وطني يتم فيه الغاء فعلي لحالة الطوارئ التي لا تحل دون فكفكة بنيتها الأمنية ومحاسبة المجرمين الذين استسهلوا اراقة دماء الشعب، والإفراج الفوري عن كل معتقلي الرأي، وانتخاب هيئة تؤسس لتشريع المؤسسات المدنية واعادة بنائها بشكل ديمقراطي. النخب تؤكد هذا المطلب ولكنها تقدم الإنتفاضة ثمنا دون ضمانات لسلطة غير موثوقة وفاسدة باعتراف الجميع. المثقفون والنخب يريدون تهدئه ولكن من الشعب ومحتجيه. لماذا! لماذا لا تكون التهدئة من النظام وجلوسه على طاولة حوار جاد مع كل فعاليات الحراك الجماهيري يناقش وبروح المسؤولية المطالب وآلية تنفيذها. المثقفون يخشون الإسلاميين ونحن نخشاهم ولكن ليس لدرجة عدم مناقشة خطابهم وجرهم لبناء مجتمع مدني وهذا يقره الإسلاميون ويتحدثون به، ونحن لا ندخل النوايا بقدر ما نصيغ مواثيق وعقود تؤكد التلاحم الوطني والتعايش بظل السيادة الوطنية. والشعب بهذا الإتجاه موحد حول تعايشه عبر عنها بكثير من المواقف والخطب. بل تصدى للكثير من المحاولات التي تدس لجره بعيدا عن مطالب الحرية والوحدة الوطنية. ومن ثم لماذا لا تبادر هذه النخب للتحرك وشد الناس ورصهم بشكل أكثر اتجاه وحدتهم واهدافهم المشروعة. من النغمات التي تتردد الآن ضرورة التهدئه والانتظار لأن النظام كشر عن دمويته وصلافته القمعية. والمطالبة بالتهدئة لأننا لسنا ناضجون لإسقاط النظام. هذا الطرح يحمل على الرثاء وينذر بالخطر. الرثاء هو أن الشارع لم يطرح اسقاط النظام بالبداية، واعتقد أنه أمام مبادرة جادة تحفظ له نضاله ودمائه سيقف من أجل أن ينخرط بإعادة بناء ذاته ووطنه، مستقبلا حريته بفرح، لأنه يدرك ان الغاية ليست اسقاط النظام بقدر ما هي الوصول الى مناخ ديمقراطي قادر على استيعاب همومه وأوجاعه وحل مشاكله. هذا هو الجوهر وكلنا شاهدنا كيف خطاب الحرية كان هو الأساس وبقية الشعارات تبقى رد فعل على القتل والسحق تخفت وتتعالى مع كل مواجهة. أما الخطر فهو الهروب من اللحظة التاريخية للثورة واستستهال دماء البشر بمبادرات تئد نضال الشعب. ولهذا البحث عن اشكال نضالية سلمية وهادئة هو الجهد، مثلا الإضراب العام، الجلوس أمام المنازل ورفع شعار الحرية، وليس بالدعوة للهدؤ انتظاراً لنزول الوحي على الحاكم.

كثيرة هي المبادرات التي تشعر النظام إننا نريد تغييرا ملموسا وذو معنى لتأسيس وطن ومجتمع مدني حر. أما ان نطالب بالتهدئة والرضوخ، فهذا ما لن تقبله الجماهير، ويؤسس لبؤس العقل وجبنه وتشاؤمه.

كثيرهذا يا أصدقاء ومؤسف حقا. تضعون أنفسكم مكان الشعب ودمائه وتستسهلون حلولا بائسة.

برلين 28 / 4 / 2011

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى