أكرم البنيصفحات سورية

البيدر السوري وحسابات الحقل التركية


أكرم البني *

لا تزال المواقف التركـــــية إلى اليوم تنوس بين تقديم النصــــح ومـــــنح المهل والتغطية الجزئية على ما يجري مشفوعة بالإلحاح على إجراء إصلاحات سريعة وجدية، وبين إعلانات تأخذ مرة على السلطة السورية تمــنعها أو تباطؤها في الإصلاح وتدين مرة العنف المفرط ضد المدنيين وتطالب بإعادة الجيش السوري إلى ثكناته، وتشـير مرة ثالثة إلى نفاد صبرها وأن الكيل طفح مهددة باللجوء إلى خيارات أخرى لمواجهة ما يجري، منها التلويح بإمكانية إقـــامة منطـــــقة عازلة على الحدود المشتركة لحماية المدنيين من البطش والتنكيل، ومنها إثارة أوضاع اللاجئين السوريين كقضية إنسانية لا تحتمل الحياد، وسمعنا أخيراً إعلان وزير خارجيتها بأن بلاده ستقف إلى جانب الشعب السوري عند المفاضلة بينه وبــــــين النظام، تلاه تصريح الرئيس غول بأنه قد فقد الثقة بأهل الحكم في سورية، من دون أن تصل هذه المواقف إلى حد المطالبة بتنحية النظام كما أعلنت غالبية الدول الغربية.

الأمر مفسّر ومفهوم، فسياسة أنقرة من الأزمة السورية تبدو كمن يسير على حبل مشدود، وحساباتها ترتهن لمرتكزات بالغة التعقيد ومتعارضة أحياناً، فهي لا تستطيع التنكر لشعارات الحرية والديموقراطية أمام ما تراه العيون من عنف مفرط وانتهاكات مفضوحة لحقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه لا تريد القطع مع النظام السوري وخسارة ما تم بناؤه طيلة عشر سنين! وهي مع إقرارها بأن النظام يعمل على شراء الوقت لتصفية الاحتجاجات الشعبية بقوة السلاح، لا تزال تراهن عليه لإصلاح نفسه وتعول على الضغوط لإجبـــــاره على تبني خطة طريق للتحول الديموقراطي كفيلة بمعالجة أسباب الأزمة، طالما لا يرضيها حصول تغيير في دمشق يأتي بسلطـــة جـــــديدة قد تتحفظ عما تم بناؤه من علاقات تعاون وقواعد إيجابية بين البلدين.

ثمة مخاوف حقيقية لدى الحكومة التركية من تأثير الأحداث السورية فيها ليس راهناً فقط، وإنما مستقبلاً أيضاً، وهي تدرك جيداً أن بلادها ستكون المتضرر الأول والأكبر مما يمكن اعتباره تطورات غير محمودة في سورية، أهمها انتقال الصراعات الأهلية بعد انفلاتها إلى الداخل التركي، عبر مكونات عرقية وثقافية متداخلة بين البلدين الجارين على حدود طويلة تزيد عن 800 كيلومتر، وأخطرها احتمال استغلال حزب العمال الكردستاني المعارض وتنشيط دوره ما قد يربكها ويشغلها ويزعزع الاستقرار هناك. وهو الحزب الذي ينتظر فرصة تأزم العلاقات بين الطرفين كي يصعّد عملياته ضد أنقرة، الأمر الذي يفسر الضربات الجوية الأخيرة ضد مواقع الحزب في العراق والتي تبدو كما لو أنها إجراء استباقي لتحجيمه وشل فاعليته في حال أكرهت الحكومة التركية على إعلان موقف صريح مناهض للحكم السوري.

الجميع يتفهم جديد السياسة التركية في حنينها إلى الماضي الإمبراطوري العثماني وتوقها الشديد إلى تحسين نفوذها الإقليمي، كشرط لتعزيز سلطتها وحضورها، وأيضاً أوراق قوتها في مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكن يبدو أن مطامع النفوذ تتعارض، في القراءة الاستراتيجية، مع تكلفة الدخول في صراع مكشوف ضد النظام السوري ومفتوح على احتمالات مضرة وخطيرة، أوضحها الانجرار إلى اشتباك مع إيران وحلفائها في العراق ولبنان وما يستتبع ذلك من تداعيات قد تضع القطار التركي على سكة لا يريدها، وربما تستنزف قواه وتهدد طموحاته وتعطي منافسه الإسرائيلي اللدود فرصة ثمينة لاستعادة نفوذه في المنطقة وقد جاهدت الحكومة التركية لسنوات من أجل إضعافه.

ثمة من ينظر إلى المشهد من زاوية مختلفة بأن تركيا لا تريد أن تخسر ما راكمته من حضور وسمعة طيبة في أوساط الرأي العام العربي كمثل ونموذج لبناء العمارة الديموقراطية الإسلامية، وكطرف عرف كيف يدعم ويستثمر القضية الفلسطينية ويحصد تعاطفاً شعبوياً في الشارع عبر تصعيداته المتنوعة ضد الكيان الصهيوني ومحاولة كسر حصار غزة! في إشارة إلى أن أي اصطفاف حاد أو انخراط في صراع عنيف ومسلح داخل إحدى الساحات العربية قد يحرق هذه الصورة أو على الأقل يشوهها، والتي تعرضت بالفعل للاهتزاز مع وضوح استغلال حزب العدالة التنمية الحـــــدثَ السوري في معركته الانتخابية حين صعّد لهجته قبلها ليضمن الربح، ثم خبت مواقفه بطريقة غير مفسرة ما إن انتهت الانتخابات.

إن إعجاب البعض ببراغماتية السياسة التركية لا يعفي من القول إنها تواجه مأزقاً صعباً مع استمرار تفاقم الأزمة السورية، لكن ما قد يخفف من وطأة مأزقها، هو حرصها على توفير أوسع غطاء عربي وعالمي قبل أن تتخذ قراراً قاطعاً ونهائياً من الحكم السوري، بدليل أن تصعيد المواقف التركية يرتبط في كل مرة بتصعيد يستجد في المواقف وردود الأفعال العربية والعالمية، وكلنا يتذكر توقيت تصريح أردوغان الغاضب والذي جاء فور التصعيد السعودي، وقرار الملك عبدالله استدعاء السفير السعودي من دمشق للتشاور، كأنها محاولة للتذكير بالدور التركي في تقرير تطور الأحداث السورية يفترض ألّا يكون أقل من الدور العربي، وكأن حكومة أنقرة وهي تنأى بنفسها عن التورط منفردة في الأزمة السورية تحرص أيضاً على ألّا تخسر حصتها من المستقبل السوري أو تسمح لآخرين بقطف ثمار هي الأولى بها.

هامش المناورة محدود والمهلة قصيرة، وعلى رغم ما يحيط بالأزمة السورية من تعقيدات فإن ما قد تستجره من تداعيات وأدوار إقليمية وعالمية، لن يسمح للسياسة التركية أن تبقى في الآمان وتستمر في لعبة الرقص على الحبال، ما يرجح أن تحمل الفترة المقبلة جديداً في مواقف أنقرة تكون أكثر وضوحاً وحسماً ربطاً بالحضور الجديد والفاعل لدور الجامعة العربية في الأزمة السورية واحتمال نجاح المحاولات المتكررة لإصدار قرار أممي يدين العنف المفرط ضد المدنيين.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى