صفحات المستقبل

البيضا 2: تقسيم 2

محمد دحنون

 أرّخت الحادثة الأولى التي جرت في قرية البيضا (جنوب شرق بانياس) لولادة السوري كمواطن؛ تعرّضت مجموعة كبيرة من أبناء القريّة لتعذيب وإذلال شديدين في شهر نيسان من العام الأوّل للثوّرة السوريّة على يد ميليشيات النظام الطائفيّة، ليخرج بعدها بوق لنظام الأسد ويدّعي أنّ “الميليشاويين” هم من البشمركة، وأن مقطع الفيديو الذي وثّق الحادثة لم يقع على الأراضي السوري.

تكفّل بأمر الرد عليه شاب من شباب القرية ممن يظهرون، بوضوح، في مقطع الفيديو، وممن سينضمون لاحقاً إلى الكتائب الشعبيّة المسلحة: أشهر أحمد البياسي هويّته السوريّة في نفس المكان حيث تعرّض للإذلال. أعلن ولادة المواطن السوري الذي يسعى لانتزاع حريّته.. فيقتل.

 اليوم، وفي خضم أيام الرعب التي يعيشها ريف مدينة بانياس، وبالأخص قريّة البيضا، “تُشهر” سوريا، بحدودها التي نعرفها الآن، احتمال موتها!

 ربما، سيذكر التاريخ أنّ الثاني من أيار العام 2013 هو يوم انتقال مشروع إقامة الدولة العلويّة إلى مرحلته الثانية: التطهير الداخلي، بالتزامن مع إتمام مرحلته الأولى: التطهير المحيطي أو الحدودي.

 كانت المرحلة الأولى تقتضي تطهيراً مذهبياً تمّ عبر عشرات المجازر التي قامت بها ميليشيات النظام العسكريّة بالإضافة إلى شبيحته في ريف كل من محافظتي حمص وحماة. وهي تستمر، وربما تكتمل الآن، باقتراب قوّات النظام المدعومة بعناصر “حزب الله” من إحكام السيطرة على مدينة القصير. للمرء أن يذكر في شأن المرحلة الأولى “التطهير الحدودي” أسماء كثيرة لقرى وبلدات تعرّضت للقصف فالذبح والتهجير: الحولة، القبير، التريمسة، حلفايا… هذا عدا عن المجزرة اليوميّة التي تتعرض لها البلدات الثائرة في ريف هاتين المحافظتين: الرستن، تلبيسة، القصير وغيرها الكثير.

 ترافقت سياسة “التطهير المذهبي” التي اعتمدها النظام السوري حيال ريف حمص تحديداً، مع عملية التدمير الممنهج التي تعرضت لها الأحياء السنيّة الثائرة في مدينة حمص. القسم الأكبر من المدينة تمّ تدميره عبر القصف والطيران الحربي، وناب شبيحة النظام عن هذين السلاحين في تدمير وتهجير معظم ما تبقى، والهدف واحد: سحق كل أمل لدى “الحماصنة ـ أبناء المدينة” بالعودة إلى بيوتهم؛ تطهير المنطقة، حمص وريفها وأجزاء من ريف حماة، من السوريين المنتفضين.

 وعلى ضوء عجز النظام التام عن تحقيق إنجاز عسكري حاسم في أي منطقة من مناطق الاشتباك الداخليّة، حيث يتواجد الجيش الحر، قام بتنفيذ واحدة من أبشع مجازره ابتداء من صباح يوم الخميس الثاني من الشهر الجاري. يضرب في إحدى الخواصر الرخوة للثوّرة: قريّة صغيرة “رحل معظم رجالها إلى الحرب”، وتتموضع في عمق المنطقة الساحليّة ذات الأغلبيّة العلويّة المواليّة لنظام الأسد.

 يظن الأخير أنّ ثمّة أهدافا كثيرة يحققها من خلال هذه المجزرة: ليس أوّل الأهداف، بالطبع، هو إشباع عطش الموالين إلى “نصر ما” حتى ولو أتى على شكل مجزرة، لكن الأهم هو تغيير الوقائع على الأرض. كان رأس النظام قد قال في لقاء جمعه بحلفاء لبنانيين أنّ “كلا الرئيسين (أوباما وبوتين) يترقب الوقائع على الأرض في سوريا حتى يعرف ماذا سيفعل”.

 وفي الوقت الذي تعجز خلاله الآلة العسكريّة لنظام الأسد عن تحقيق انتصارات حاسمة في مناطق الاشتباكات حيث يتواجد الجيش الحر، تغدو عمليّة تغيير “الوقائع على الأرض”، التي بناءً عليها سيبني بوتين وأوباما موقفهما، ممكنة التحقيق فقط في المناطق التي لا يتمركز فيها الجيش الحر في الساحل السوري. تغيير الوقائع هذا قد يفرض سحب العديد من ميليشيات النظام الطائفيّة (قوّات الدفاع الوطني) لتحصين المناطق العلويّة (قرى ومدن الدويلة!)، الأمر الذي قد يدفع ببعض كتائب الجيش الحر للهجوم على تلك المناطق، مما سيسمح لنظام الأسد أن يظهر بمظهر المدافع عن أقليّة دينية في نظر الغرب وعن الطائفة في نظر أبنائها. وبين هذا وذاك، تستأنف عملية التطهير المذهبي داخل حدود الدويلة العلويّة المفترضة و”تُخلق وقائع” تجعل من احتمال قبول الغرب بدويلة تضم شريطاً من الساحل السوري وحمص، أمراً مرجّحاً.

أياً تكن المسألة، فإن جلّ ما سبق ذكره قد لا يعدو كونه محاولة ما لإضفاء معنى، مهما يكن من معنى، على عمل إرهابي بحجم مجزرة!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى