صفحات الرأي

التاريخ الذي «لا ينتهي»: ١٩٨٩ – ٢٠١٦/ سامر فرنجيّة

 

 

 

مع انتهاء الحرب الباردة، أعلن المفكّر الأميركي فرانسيس فوكوياما في نصّه الشهير «نهاية التاريخ»، أي نهاية الصراعات الأيديولوجية التي سيطرت على القرن العشرين، وانتصار الليبرالية على التاريخ، وإن على صعيد الأفكار. وشكّلت هذه المقولة الشهيرة، التي تدرّب كل طالب جامعي على نقدها على مدار التسعينات، مع نص «صدام الحضارات» لصامويل هنتنغتون، قطبي النقاش الذي دار حول طبيعة العالم الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونمط علاقاته الدولية وطبيعة منظومته الفكرية.

وعلى رغم الاختلاف العميق بينهما، تقاطع النصّان حول مشترك أساسي وهو انتهاء الخلاف الأيديولوجي وسيطرة نموذج حكم صالح وحيد. بهذا المعنى، التقت في هذا السجال روحية مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث سيطر «تفاؤل ممل» على السياسة، حوّلها مسألةً إدارية في المركز من جهة، وعملية إنقاذ في الأطراف من جهة أخرى، هدفها نقل الشعوب التي ما زالت قابعة في التاريخ إلى نهايته المملة.

بيد أنّ مرحلة ربع القرن بعد إعلان «نهاية التاريخ»، هي التي تبدو على وشك الانتهاء، أو بكلام أدّق، باشرت هذه المرحلة تحوّلها إلى مرحلة تاريخية، لها بداية ونهاية، مع تزايد التشكيك في عناصرها المختلفة. فبدايةً، مع الانتخابات الأميركية، هناك التشكيك المتزايد في حكم الحزبين ممن سُمّوا «الشعبويين»، وضرب الإجماع المؤسساتي والاقتصادي الذي شكّل أرض التنافس خلال السنوات الماضية. وهذا التشكيك المتزايد في إجماع ما بعد الحرب الباردة يعيد إلى الذاكرة، ليس بداية النازية كما كتب البعض، بل آخر انتخابات أميركية حصل فيها تشكيك فاعل في هذا الحكم، وهي انتخابات ١٩٩٢، حين ترشّح روس بيرو من خارج الحزبين. وكما كتب فرانك غوان في مجلة «n+1» (٢٤/٠٣/٢٠١٦)، شكّلت تلك الانتخابات آخر محاولة، وإن من مرشح يميني، لمعارضة الإجماع الاقتصادي، قبل أن ينتهي التاريخ، وينحصر الخلاف حول تفاصيل إدارة هذا الاقتصاد وتوزيع بعض من خيراته.

وقد لا ينجح «الشعبويون» في منع هيلاري كلينتون من الفوز في المعركة الرئاسية، لكنّهم أشاروا إلى احتمال انتهاء هذه المرحلة التي بدأت بخسارة بيرو أمام بيل كلينتون، والتي باتت اليوم تواجه احتمال عودة «التاريخ» إلى نظام افترضت نهايته.

لقد ارتبط اسم بيل كلينتون بمكوّن آخر لهذه المرحلة، وهو طبيعة الاقتصاد العالمي، الذي أعيدت هيكلته منذ الثمانينات حول مبادئ نيو – ليبرالية، والذي شكّل الأرضية لتطور الجمعيات الخيرية العالمية، التي ارتبطت بمؤسسات كلينتون وغيره من «المحسنين الأثرياء». غير أنّ هذا النظام بات مولّداً لأزمات تفوق قدرات المحسنين على معالجة مفاعيلها، بخاصة بعدما أصبحت هذه الأزمات «عالمية» مع وصولها إلى المركز في السنوات الأخيرة. وقد لا يكون هناك بديل متكامل عن هذا النظام الاقتصادي يمكن أن ينافسه، كما اعتاد البعض على شكل الصراعات الأيديولوجية في الاقتصاد. لكن الأزمات أظهرت طبيعة هذا النظام «الأيديولوجي»، وهو الذي قام تبريره على «طبيعيته» و «حتميته»، على غرار النموذج الاشتراكي أو الكينزي. وقد لا يصلح هذا الاكتشاف طبيعة الاقتصاد الدولي، لكنّه يؤكد طبيعته التاريخية، التي لا بد من تحوّلها في لحظة ما.

فالأزمة الاقتصادية شكلت أحد الأسباب وراء أزمة نظام العلاقات الدولية التي أسست لعالم ما بعد الحرب الباردة. فأزمة الاتحاد الأوروبي، وهو الذي اعتبره فوكوياما في نصّه نموذجاً لنظام ما بعد التاريخ، تشير إلى عودة التاريخ إلى مختبر السياسة ما بعد الأيديولوجية الذي شكّله الاتحاد الأوروبي. فصعود اليمين المتطرف من جهة، وعودة روسيا إلى أوروبا من جهة أخرى، وهي الدولة التي بني هذا النظام على استبعادها، يشكّكان في إمكان استمرار الاتحاد الأوروبي كنموذج إداري للسياسة. أما أزمتا الإرهاب والمهجرين، فضربتا صورة أوروبا عن نفسها، كنموذج إنساني للسياسة في مقابل «شعوب التاريخ» من جهة، وغطرسة الولايات المتحدة من جهة أخرى. وتشير عودة الحديث عن حالات الطوارئ وتحويل دول الجوار إلى مخافر شرطة حدود الى تحوّل وجهة الفاعلية، من أوروبا حضارية تضيء البحر المتوسط وتنقذه من تاريخه، إلى أوروبا أمنية تختبئ وراء حدود غيرها، لحماية ما تبقى من نهاية هذا التاريخ.

قد يكون العالم العربي، وهو الذي شكّل المختبر الأساسي لمحاولة إنهاء التاريخ، المؤشر الأساسي لنهاية هذه المرحلة. فتدهور الأوضاع العراقية، ومن ثمّ إخفاق الثورات العربية ومن بعده تحوّل سورية إلى أكبر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، أنهت مشاريع الإصلاح السياسي وتوسيع الديموقراطية والإصلاح الإسلامي، ليقتنع رئيس الولايات المتّحدة بأنّ هذه المنطقة ما زالت في التاريخ، ولم تنفع محاولة رفعها إلى جنة ما بعد التاريخ. فإذا شكّل مشروع الإصلاح العام للمنطقة المكوّن الأول العربي لعالم ما بعد الحرب الباردة، شكّلت مفاوضات السلام الجزء الثاني لإعادة الهيكلة هذه. وهنا أيضاً، بات الاقتناع العام بأن لا فائدة من بذل أي جهد لمحاولة إحياء مسار بات جثة ميتة.

قد يشكو البعض من أن هذا التحليل يعاني من تاريخانية مبتذلة. وهو كذلك. لكنّه يحاول التقاط تحوّل حاضرنا إلى ماضٍ، وعودة مقولة «نهاية التاريخ» إلى التاريخ الذي حاولت قتله على مدار ربع قرن. هذا لا يعني بالضرورة أن هناك بديلاً حاضراً ومغرياً لتلفيقة ما بعد الحرب الباردة. لكنّه يشير إلى تحوّل مكونات هذه المرحلة إلى «أيديولوجية» بعدما قدّمت نفسها كخاتمة للأيديولوجيات، لا تاريخ قبلها ولا بعدها. وهذا لا يعني بالضرورة نهاية الليبرالية كمنظومة سياسية لهذا النظام، بل انتهاء فترة السماح التي سمحت لها بأن تنسى شروطها وتاريخها، وبداية عملية إعادة التفكير بشروطها، وهي عملية قامت بها أيديولوجيات أخرى، كالماركسية، خسرت معركتها لإنهاء التاريخ.

العودة إلى التاريخ تبدأ من اعتبار حاضرنا تاريخاً، أي من خلال نزع البديهية عنه وتحويله إلى مرحلة تاريخية، تحتاج إلى تنقيب في أرشيفها لفهم بعض جوانبها. أو بكلام آخر، تحوّل الحاضر إلى تاريخ هو لحظة الاعتراف بأن الحاضر ليس حتمياً، وقد أتى على جثث خيارات أخرى، خياراتٍ لم تعد مقولة حتمية نهاية التاريخ كافية لتبرير قتلها.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى