صفحات الرأي

التحسّر على صراع الطبقات/ دلال البزري

 ثمة ماركسيون تقليديون لا يتوقفون عن التحسّر على طبيعة الصراع الجاري الآن في المنطقة بعد الثورات، لانه “ليس صراعاً طبقياً”. وهذا “شذوذ تاريخي” عندهم، يتصورون أنه من أفعال “السَفَلة” الممسكين بآليات هذا الصراع؛ “السَفَلة” الذين حولوه الى صراع هوياتي، قائم على الإنتماء المذهبي. فيأسفون على هذا “المنزلق”، الذي وضع الفقراء بوجه الفقراء. وبهذا، يخلصون بأن الصراع الهوياتي، وهو أساساً “غير قابل للإستمرار”، سوف يدوم مع دوام غياب الأصل، أي الصراع الطبقي. هكذا، يبقى على معارضي التيارات الإسلامية أن يمْسكوا بالمقْود، ويوجهوا الصراع نحو أسسه الطبقية الصحيحة…

هذا الفعل الإرادوي الذي يدعونا إليه ماركسيو الحنين، ما هو مدى جديته؟

أولاً، إن الداعين إليه بحماسة مُرّة، لم يطرحوا على أنفسهم السؤال، الماركسي، الذي قد يعينهم على التدقيق بتصوراتهم: وقوامه، نمط الإنتاج ووسائل الإنتاج عشية الثورات. هل فُرزوا، وصُنفوا، وخلصَ دارسوهم إلى أن “شروط الصراع الطبقي” باتت متوفرة بسبب وجود عمال منظمين في مصانعهم وفلاحين متآزرين ضد الملاكين الكبار، وطبقة وسطى، في شرائحها الدنيا، يملكون مقومات خوض معركة طبقية ضد أصحاب مصانع وملاكين ورأسماليين الخ؟ طبعا لا. الإقتصاد قبل الثورات كان مزيجاً فوضوياً ومعقداً من فاسدين، من الأعلى إلى الأدنى، مهرّبين وخارجين عن القانون، مقاولين بالباطن أو بالعلن، قابضي الرشوات الضخمة والصغيرة، ومبيضي أموال وبسطات وكسَبة، وتجار شنْطات صغيرة  لبضائع، كلها تقريباً صينية… الوصف يطول، وهو بالتأكيد لن يؤدي إلى إكتشاف تلك الطبقات المطلوبة من قبل هؤلاء الماركسيين الأوفياء. أما الآن، فالأجدر بماركسيينا أن يدرسوا إقتصاد هذه الحرب المرْذولة؛ ماذا عن هذه الإستجابة العارمة لنداء العصبية المذهبية؟ ما هو الإقتصاد الذي تعتمده؟ هل يمكن لفكرة هذه العصبية أن تدوم من دون مال؟ أو تمويل؟ كيف يوزع هذا المال؟ بما يوظف؟ هل التوظيف سياسي محض؟ أم إن جوانب إقتصاد جديد قد تكون هي التي تنظّمه؟ وما هي؟

نقطة أخرى: من قال إن الصراع الطبقي أقل دموية من الصراع الهوياتي؟ الصراع الطبقي الذي عرفناه في أوروبا، ثم في روسيا قبل ثورتها وبعدها، لم يكن إلا دموياً جارفاً. الحربان العالميتان، الأولى والثانية، بملايين قتلاها، كانت بنظر ماركسيينا أنفسهم صراعاً طبقياً على مستوى القارة الأوروبية. أما الثورة الطبقية الأولى الظافرة في التاريخ، الروسية، فكان “أعداء البروليتاريا”، ضحاياها، أيضاً بالملايين. فيما أطلالها الآن تراكم عنفَين: داخلي، عماده الهويتان الدينية والقومية، وإقليمي، مع الجمهوريات القوقازية المطالبة باستقلالها، ومن منطلق هوياتي.

طبعاً، ليس مقصوداً هنا الإستراحة على الصراع الهوياتي؛ فهو فظيع، لأنه ينبني على قاعدتين، هما المطلق والثابت. عقيدة المتناحرين شمولية، وانتماؤهم “طبيعي”، “جيني”، لا تغيره التبدّلات والتحولات الفكرية أو الإقتصادية. ولكن، ماركسيينا ليسوا أقل شمولية وثباتاً. ودعوتهم للعودة إلى “الأصل”، هي واحدة من تجليات هاتين الصفتين. تجلٍّ رديف، تجده في البيئة الهوياتية: الكثيرون من بين أنفارها ذوي عمر معين، كانوا في الأصل شيوعيين، أو يدورون في فلك الشيوعية، وصاروا الآن أصوليين هوياتيين.  فالأحرى ان الصراع الهوياتي جاء بعد فشل الصراع الطبقي في خلق ديناميكيات، وإفلاسه، والفراغ  الناجم عن إنهيار المشاريع التي تمتّ اليه بصلة.

  الصراع الطبقي لا يُخاض بمجرد الرغبة أو التشبّث، وهما دليل المزيد من الثبات والشمول. الصراع الطبقي لا يصبح واقعاً إلا عندما يتمتع طرفاه، أولا بالوجود، ومن ثم  بالوسائل والأطر والتوجهات. الآن ليس صراعاً طبقياً لا في الواقع ولا في الإفتراض. انه صراع وقوده وضحيته فقراء. إنها حرب هوياتية ضحيتها هم الفقراء. ومتى لم يكونوا كذلك في جميع الصراعات، دينية كانت أم طبقية؟

أما السؤال، “الطبقي” الذي يفترض أن يشغل ماركسييينا، فيدور حول الهوة المتعاظمة بين الفقراء والأغنياء. وهو يحتاج إلى مقاربات وحساسيات جديدة، لا هي ماركسية أورثوذكسية، ولا هي ليبرالية إقتصادية متعصبة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى