صفحات الرأيناصر الرباط

التراث الفكري المشترك في عصر القوميات الأصولية/ ناصر الرباط

 

 

يتتبع كتاب جديد عن العلاقة بين ستيف بانّون ودونالد ترامب، «صفقة الشيطان»، لجوشوا غرين، التأثيرات الفكرية على تطور مواقف ووجهات نظر بانّون، المنظّر الاستراتيجي الأول في إدارة الرئيس الأميركي وأحد أكثر أعوانه محافظة وتديناً وعنصرية في الآن نفسه. بانّون، الذي نشأ في عائلة كاثوليكية محافظة، بقي محافظاً على إيمانه الأول كل حياته، على رغم أنه جرب عقائد أخرى خلال شبابه. وهو قارئ نهم على ما يبدو وقراءاته متنوعة وفلسفية أو سياسية على الغالب. فهو قد تأثر بمفكرين كثيرين لفت نظري واحد منهم، هو رينيه غينون ‪(١٨٨٦-١٩٥١) الذي عرف بعد إسلامه بعبدالواحد يحيى، والذي انتمى الى حركة روحانية تصوفية الطابع مهتمة بالماورائيات كرد فعل على مادية الغرب التي كان هو والكثير غيره من مفكري القرنين التاسع عشر والعشرين يحاولون الانعتاق منها بالتفتيش عن بدائل في الفلسفات الشرقية، ومنها الإسلام، وفي شكل خاص الجانب المتصوف منه. هذه الحركة ضمت إمام المالكية في مصر وشيخاً صوفياً قادرياً جزائرياً وفيلسوفاً إيرانياً ومنظراً سياسياً إيطالياً وعدداً من المؤرخين والفلاسفة ومؤرخي الفن الأوروبيين الذين اعتنق بعضهم الإسلام، وعرفوا في ما بعد بالخالدين أو السرمديين، الذين دعوا إلى حركة إستعادة روحانية تستلهم كتابات التصوف الإسلامي والفلسفة وعلوم ما وراء الطبيعة من كل الثقافات. فكيف لبانّون أن يهتم بكتابات غينون؟

الجواب يكمن في فكرة الاستعادة، أو بعبارة أكثر تديناً وتسيساً، العودة إلى الأصول. فبانّون، بما هو مفكر أصولي يرى في الابتعاد عن الدين والعرق والوطن وكل الكيانات الهوياتية المهيمنة انحلالاً وتشتتاً لا يختلف كثيراً من هذا المنظور عن مفكرين أصوليين آخرين، انتشروا شرقاً وغرباً في القرن الماضي كرد على التفتت المجتمعي والديني والهوياتي الذي تسببت به الحداثة، بانفتاحها ولا مبالاتها ورفضها لكل القواعد والمعايير والتقاليد. والمفكرون الخالدون، وإن كانوا بغالبيتهم لا يدعون إلى التسربل بقومية أو إثنية محددة، إلا أنهم كانوا يرون في استعادة الماضي الأسس المعرفية والروحانية والوجودية للحاضر والمستقبل. أصوليات مشابهة عادت وبقوة للظهور ثانية في نهاية القرن العشرين كرد فعل للتحديات الجديدة التي تطرحها العولمة، التي هي بنهاية الأمر النتيجة المنطقية للحداثة، باستهانتها بالهوية الوطنية أو القومية وبعبورها لكل الحدود (وإن كان الهدف الأساسي منها مادياً وتجارياً ربحياً) وتحديها لكل القواعد والتقاليد والأعراف في سبيل خلق سوق عولمية تضم الجميع (ويستفيد منها البعض القليل من أصحاب رؤوس الأموال). وهي قد ظهرت بألوان مختلفة وإحالات متنوعة على تقاليد متعددة، بعضها متعارض مثل الأصولية المسيحية الأوروبية والأصولية السلفية الإسلامية، ولكنها بالنهاية متشاركة في استلهامها الماضي لحل مشكلات الحاضر وتهيب للمستقبل.

أصوليتا نهاية القرن التاسع عشر ونهاية القرن العشرين، هاتان مشتركتان أيضاً بما هما استجابتان رد-فعليتان على ظروف قاهرة ذات أساس اقتصادي وثقافي ومعرفي على نحو يرى في الانفتاح سبيلاً للسيادة السياسية والسيطرة المادية والفكرية والربح من وراء ذلك. وهما على رغم طيبة نياتهما الأصلية من تمسك بالجذور والأصول ودفاع عن التقاليد والأعراف وتشديد على المنظومات الأخلاقية السائدة، لم تلبثا أن وقعتا في مستنقع التشدد والتطرف والتمييز بسبب من رؤيتيهما الحصريتين والاستثنائيتين اللتين توافقتا في النهاية مع العقائد القومية والوطنية والعنصرية التي تفتش دائماً عن مبررات ثقافية وفكرية وجدت منها ما يفيدها في الأصولية. هذا ما حصل تماماً لبعض أفكار الخالدين من أمثال غينون وصديقه الإيطالي جوليوس إيفولا التي اقتبسها بعض الفاشيين والنازيين في منتصف القرن الماضي لدعم نظرياتهم العنصرية، والتي ربما يقتبسها بانّون وأمثاله اليوم لدعم قوميتهم الأصولية الشعبوية الناهضة في الغرب.

وهذا ما حصل مؤخراً في العالم الإسلامي من تسييس وتجييش للفكر الأصولي السلفي الذي ظهر في القرنين التاسع عشر والعشرين كرد فعل للحداثة الكاسحة والمفروضة من قبل الامبراطوريات الإسلامية التي أرادت اللحاق بالغرب وفشلت أولاً والقوى الاستعمارية التي حلت محلها لاحقاً.

حركات الإسلام الأصولي التي ظهرت حينذاك اقتبست في البداية من مختلف تيارات الفكر الإسلامي الفقهية والتصوفية والكلامية معاً وزاوجتها مع الأفكار القومية المعاصرة. ثم لم تلبث أن تراجعت وتحجرت وتقوقعت على أكثر هذه التيارات تعصباً وانغلاقاً عندما وجدت نفسها في مجابهة الوطنية والقومية والاشتراكية والحداثة، ثم أخيراً النيورأسمالية والعولمة. بعض هذا أفرز لنا اليوم النسخة الجديدة من السلفية الجهادية التي لا تختلف كثيراً على المستوى الهيكلي عن فاشية أوروبا في القرن العشرين وإن لم تتشارك وإياها في أي من الجذور المعرفية والاجتماعية. الطابع الرد-فعلي طاغٍ في الاثنتين والتطرف في المجابهة نابع أساساً من العجز عن المقارعة الفكرية أو الاقتصادية مع طغيان الحداثة الغربية وما بعدها وصولاً إلى النيورأسمالية المعولمة والمتفوقة تكنولوجياً.

لا داعي حقاً للتفتيش عن نظرية مؤامرة في هذا التوافق، وأحياناً التطابق، في فكر من يظهرون على السطح كأعداء متنازعين: سلفيو الإسلام الجهاديون وقوميو الغرب الأصوليون. فالأفكار ليست في حاجة الى مؤامرة لكي تنتقل من محيط الى آخر ولكي تظهر بعد ذلك بحلل أخرى وتخدم توجهات مختلفة. الأفكار سيالة، تنتقل بوسائط متعددة بفضل الحداثة والتطور التكنولوجي. والأفراد يتأثرون بما يشاهدون ويقرأون ويسمعون ويعون، ثم يسكبونه ويقولبونه وفق أفكارهم الموروثة وتقاليدهم المقدسة. عودة الكثير من الأفراد والمنظمات هذه الأيام إلى الدفاع السلفي الأصولي دليل طبعاً على شدة طغيان الأفكار المخالفة، أي العولمية المنفتحة، وسيطرتها على الكثير من مناحي الاقتصاد والثقافة العالميين ونجاحها في فرض رؤاها وتوجهاتها ومبادئها على العديد من مناحي الحياة في كل بقاع الأرض. والعولمة توافق توجهات النيورأسمالية الدولية وتواكب توسعها وسيطرتها على أسواق البضائع والأذواق والأفكار في خدمة توسع رأس المال. بل لعل في الترابط بين العولمة الفكرية والعولمة الرأسمالية أكثر من توافق في الاتجاه، فهو تكامل عضوي وترابط عملياتي. من هنا نفهم صعود الفكر الأصولي في العالم كله كرد فعل غاضب على هذه العولمة الاقتصادية أساساً والثقافية أو السياسية تأثيراً، بخاصة إذا وعينا أن رد الفعل دفاعي، وغاضب، وعاجز عن المنافسة في سوق الأفكار المفتوحة. إذ إنه بأساسه يتطلب انغلاقاً وانعزالاً وريبة بالآخر المغاير وتمسكاً بتقاليد توائم فلسفته الدفاعية التي ترى خطراً على نقائها وترفعها واستثنائيتها في كل انفتاح وتبادل للأفكار. هذه هي التربة التي نشأ ونما فيها كلا الاتجاهين في مواجهة بعضهما بعضاً، والتي على السيطرة عليها يتصارعان.

* كاتب سوري وأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى