صفحات الثقافة

التشكيلي السوري خليل يونس في أعماله عن الثورة السورية : أجساد محطمة …أرواح تغني !


محمد حيان السمان

جزء رئيس من امتياز الثورة السورية، يكمن في مصائر أجساد السوريين بين صبوتهم للحرية، وصرختهم أمام الرعب… في ذلك الاستخدام الوحشيّ – من قِبل النظام وآلته القمعية-، للأجساد البشرية، بوصفها مجالات وظيفية لترويع الغير وتأديبهم، بمقدار ما هي موضوع للانتقام من صاحب الجسد نفسه. لقد تكررت يومياً، منذ بداية الثورة قبل أكثر من عام، وقائع العثور على جثث النشطاء مرمية في المجال العام، وقد استحالت إلى أجساد محطمة ومقطعة ومشوّهة، تعرضت للتعذيب والقتل والمُثلة.

وتشمل هذه الفظائع النحرَ واقتلاعَ الأعين والحناجر، وبترَ الأعضاء الذكورية، وتكسيرَ الأطراف والجماجم، وسلخ الجلود، ونثرَ الأدمغة والأحشاء، وسرقة الأعضاء، وإحراقَ الناشطين أحياء…الخ. إن علامات القبضة على الجسد ـ بتعبير ميشيل فوكو ـ تعكس ـ في السياق السوري – الشعورَ الحاد بقرب انحلال سلطة النظام، وتلاشي عوامل تمكينه المستبد المتأبد بالدم والجريمة.

إن شكل العلاقة بين أجساد الثائرين وجلادي النظام، وآثارَها المعروضة ـ قصداً – على الملأ، تستهدف إعادة إنتاج الإذعان والرعب لدى جمهور الثورة السورية. الرعب من أجل تثبيت السيطرة، كما تعبر ـ حنا أرندت -. لكن الوقائع الجارية أثبتت فشل هذه القصدِ السقيم الذي بدا وكأنه يطلع مباشرة من أكثر العصور همجية وظلاماً. فحراكُ السوريين مستمرّ ومتصاعد في تنويع تعبيراته المدنية، وتعميق وتوسيع بلاغته المتمردة على الخوف والإذعان. المغنون لم يرهبهم اقتلاع حنجرة ـ القاشوش-، وتابعوا الصدْح بأغانيه نفسها . والمصورون لم يمنعهم فقءُ عين المصور – فرزات الجربان – من إكمال توقيعاتهم على إيقاع النور والظل والحركة. والناشطون لم تردعهم تشوهات جسد -غياث مطر- عن متابعة تنظيم التظاهر والتأكيد على تعبيراته السلمية. حتى الأطفال لم يكفّوا عن المشاركة بالاحتجاجات على الرغم من ذاكرة البصر والقلب المثقلة بذكرى – حمزة الخطيب ـ .

* * *

بهذا الهم يذهب التشكيليّ السوري خليل يونس إلى لوحته، ليرصد حكايا الرعب الأخير مرتسماً على الجسد، حيث تتخثر الصرخة في الهواء، أو يتعتق اللبن في أثداء مدينة مطعونة تشتغل على الخصب منذ مائة ألف عام. إن تيمة الجسد المشوّه والمعذب والمقطّع إلى درجة الإرعاب، تستقطب وتختزل، في منظور ـ خليل يونس ـ وخطابه التشكيلي، حقيقة الحضور الجمالي والسياسي للجسد الإنساني في شرط الاستبداد ونظام العنف والطغيان .

وفي هذا السياق تبدو أعمال خليل يونس الأخيرة، بمثابة ردّ جمالي مباشر على ـ الهدف الترويعي – للجريمة . بحيث لا يقف الردّ ـ في مستوييه الدلالي والجمالي ـ عند إدانة الفعل من خلال تبئير الوحشية والفظاعة فحسب، وإنما يتعدى ذلك إلى تقديم مشهدية الرعب من خلال خطاب تشكيلي يعيد للجسد كرامته وصلابته، ولأعضائه المحطمة وظائفَها النبيلة في مقام التحدي والخصْب والتوق إلى الحرية.

ما أطلق عليه ـ فوكو ـ تعبير (البذخ العقابي)، في أقصى درجاته قسوة وهمجية، يقدمه خليل يونس في أعماله من خلال تكوين هادئ وراسخ، ولغة تصويرية تجمع بين تجسيد الفظاعة والتدمير في (جغرافيا الجسد)، وتأكيد التحدي والخصب والإنسان في (جغرافيا الروح).

في لوحته ـ عن شاب يُدعى القاشوش ـ يبدو الجرحُ الرغيبُ أعلى الرقبة صادماً في قسوته، حتى ليكاد الناظر يستشعر غوصَ السكين عميقاً في العضلات والشرايين والأوردة والألياف العصبية والفقرات العنقية. الجرحُ يسْحق كل شيء، ويفصل أعلى الرقبة مع الرأس عن الجزء السفلي منها وباقي الجسد. مع ذلك تبدو الرقبة في الصيرورة التعبيرية للتكوين، كتلة واحدة تقف متماسكة قوية وشامخة، ما تزال مقتدرة على حمل الرأس المنطلقة بحركة تحدٍ وعروج صوفي. الملامح الهادئة للوجه، والشفتان المزمومتان استعداداً لإرسال الأغنية التالية، كل ذلك يحيل إلى الرد على الهدف الترويعي للجريمة. إعادة اعتبار لحنجرة المغني الذبيح، وأهازيجه الرائعة داخل المجال العام للثورة السورية.

لقد قضمت شظية قذيفةٍ الجزءَ السفلي من وجه الطفل ـ حمزة بكور ـ وتركته، كما شاهده العالم في واحد من أقسى المشاهد المصورة، ذاهلاً في حدود ما فوق- الألم، بدون فكين…بدون الفم والشفتين والأسنان، يقف إلى جانب الناشط خالد أبو صلاح، مغمضَ العينين، منتظراً شيئاً ما، تتدلى من بقايا وجهه الطفليّ نوازلُ الجلد واللحم المتبقية من الكتلة المبتورة. يرصد ـ خليل يونس ـ هذه المشهدية المرعبة، عبر تكوين ينطلق من الصورة الفوتوغرافية للمشهد، ويتجاوزها على صعيد اللون والتعبير، عبر صياغة تبسيطية تقطيرية تتجاوز المعطى التسجيلي وتفاصيله النافلة، إلى تكثيف وتبئير لحظة نادرة من لحظات وجود الإنسان في التاريخ، لحظة تجمع بين جسد محطم وروح كاملة الحضور، في حالة استنارة داخلية شديدة الإيحاء.

بين مساحتين لونيتين واسعتين، الأسود والأحمر، تطفو كتلة الأبيض العاجيّ مجسّدة ما تبقى من الوجه، حيث يحيل خط متكسّر بتعبيرية حادة متوترة، إلى فداحة الضرر الذي لحق بوجه الطفل. وإذ لم يتبقّ من أعضاء الوجه التعبيرية سوى العينين، فإن تبئير المغزى والدلالة يقع هنا تحديداً: عينان مغمضتان بخشوع، كما لو في صلاةٍ أو ابتهال أو تلاوة تعازيم سحرية. حالة وجْد كاملة تحيل إلى نَضْح هادئ ومستمر من أعماق الروح…استغراق كامل في تأمل عميق للذات الإنسانية وهي تواجه رعبَ التاريخ. هكذا تغدو لحظة منتهى الألم، لحظة استنارة روحية وتوهج داخلي مؤثر أيضاً. لا يؤثث الفنان لوحته هذه بأية عناصر تعبيرية، كما اعتاد أن يفعل في معظم أعماله السابقة، وكأنه أراد تثبيت البصر والبصيرة على تأمل هذين الحدين الطافحين في بقايا الوجه: الجريمة والابتهال، الجلاد والطفل، تحطيم الجسد وقيامة الروح.

في لوحة ـ حماة 30 ـ (ذكرى مرور 30 عاماً على المجزرة المروعة بحماه 82) يستثمر الفنان البعد الترميزي للجسد في السياق نفسه: الرد على منطق تدمير الجسد/المدينة، بمنطق تمجيد الخصب والحياة، مستعيناً بالدلالات الرمزية للجسد الأنثوي. إن الفنان يستعيد المخزونَ الأسطوري والتشكيلي للتماثيل الطينية للإلهة الأم في الفن والميثولوجيا السوريين. حيث يتحول جسد المرأة إلى خارطة لمعاني الخصب والتجدد ومقاومة الموت. وفي إحالةٍ عبر جسد المرأة إلى المدينة المنكوبة، يقيم الفنان تكوين لوحته المدهشة على الرغم من بساطتها والاختزالية الواضحة في موضوعها ومعالجتها، حيث يفرش مساحة الجسد بالأحمر الناري، بزهد واضح في المعالجة التشريحية واللونية، بينما تطفو كتلتان لونيتان بالأبيض الصافي مكان النهدين، مثقلتين هكذا بمعنى الخصب والكرم وإرادة الحياة، بالرغم من آثار الطعنات اللئيمة البادية عليهما. التضاد اللوني والحدود التلوينية الصارمة، تمنح دلالة الإصرار على مواجهة الموت بالحياة، التدمير بالخصب والانبعاث، معناه النهائي.

* * *

تصعيد العنف العاري في الواقع، وما يرافقه من مشاهد الأشلاء وقطع اللحم الآدمي الموزعة في الأماكن العامة بقصد الترويع والتشفي، كل ذلك يجد صداه في أعمال خليل يونس من خلال الاشتغال على جزء محدد من الجسد، مستثمراً القيم التشكيلية والتعبيرية فيه، ودافعاً بصرخته ضد العنف وتدمير الأجساد، إلى منتهى الغضب والإدانة. ـ نصف قدم من حمص ـ لوحته التي أنجزها على وقع الأخبار والصور القادمة من حمص منذ أواخر العام الماضي، والتي تتحدث عن أشلاء الضحايا المبعثرة في شوارع المدينة. في هذه اللوحة يستثمر الفنان العناصرَ التشريحية في القدم (العضلات والشرايين) لتكوين خطابه التشكيلي. ومن جديد تطالعنا الكتلة البيضاء العاجية، بزخّات الأسود المسامية، التي تعطي السطحَ نبضَ اللحم الحي، تطفو على شبكة مساكب صغيرة رمادية، تتخللها خطوط الدم المتسرب من بقعة حمراء تصرخ يسار اللوحة وتتدفق عبر مسارب توحي بفضاء مدينة مثقلة بالموت والرعب.

* * *

وراء أعمال ـ خليل يونس ـ عن العنف وأجساد الضحايا، ثمة منظور فلسفي يحكم خطابه التشكيلي وهواجسه التصويرية، مما يمنح أعماله أهمية كبيرة تتجاوز الناحية التكوينية والقيمة التعبيرية. فالعنف ليس وسيلة لتدمير الآخر، بل هو أيضاً شكل من أشكال تدمير الأنا العنفية ـ مصدر العنف -. وكما أشارت ـ حنا أرندت ـ فإن الثمن الذي ينبغي دفعه، باستخدام العنف، سيكون باهظاً ليس من قبل المغلوب فحسب، وإنما من قبل الغالب أيضاً.

في عملين ـ حبر على ورق، بدون عنوان ـ يجسّد خليل يونس بتعبيرية حادة وتكوين درامي متوتر، فكرة العنف الذي يدمر مصدره لحظة تدمير ضحيته. العنف ضد الآخر هو في الوقت نفسه عنف ضد الذات. فالطلقة التي تخترق دماغ الضحية، تخترق في اللحظة نفسها دماغ القاتل. يتماثلان إلى حدود التطابق، ما خلا أن الضحية مقيدة اليدين، بينما القاتل يصوب مسدسه إلى رأس الضحية، ويضغط بهدوء ولا مبالاة على الزناد. لكن القاتل والقتيل كليهما، وفي اللحظة نفسها، يملكان دماغين متشظيين وعيوناً معصوبة.

في العمل الآخر يكثف الفنان فكرته عن العنف المدمّر للجميع، بما فيها الذات العنفية، من خلال الاكتفاء بصورة حامل السلاح واقفاً استعداداً للبدء بمهمته، ولكنه يحمل عوضاً عن الرأس، كتلة متشظية بفعل انفجار عنيف من داخلها نحو الخارج. ويقوم تكوين العمل نفسه على توتر المعالجة التشكيلية اللونية فيه، بين التشخيصية التي يعالج من خلالها الفنان قوامَ المسلح وسلاحَه المهيأ للقتل، وبين التجريدية التي تختزل رأس المسلح إلى مساحة لونية مجردة (بالأبيض المشوب بالرمادي والأحمر) فرشت بتوتر واضح في حركة تشظي عنيف نحو أعلى وجانبيّ اللوحة.

في دراسته (من السلطة إلى العنف: أفول السياسة) يشير روبير رديكر إلى العنف الذي يستحيل تأسيسه على العقل. ويقول: ‘في كل فعل من أفعال العنف منطقة لا مفكر فيها، وثقب أسود مذهل يبتلع داخله كل عقل’. إن هذين العملين لخليل يونس يقدمان معادلاً تصويرياً لكلام رديكر. ومن الملاحظ أن الفنان قد استخدم فيهما أقصى إمكانات التعبيرية في حدتها الدرامية العاكسة لعنف المضمون وقسوته.

لقد انتقل خليل يونس من الرسم التزييني على الخيش أو الورق، والذي يحتفي بالإيقاعات البصرية القائمة على أسلوب المنمنمات والتطريز بالعناصر المجهرية والمساكب المتجاورة المؤثثة بالألوان الزاهية والأشكال الهندسية والحروفية التجريدية …الخ، إلى أقصى ما تمنحه التعبيرية التشخيصية من إمكانات وآفاق للتعبير عن محنة الرعب وامتحان التاريخ الذي يعيشه السوريون منذ أكثر من عام. إن أعمال يونس الأخيرة، إذ تتمحور حول الجسد الإنساني وآلامه الرهيبة في شرط القمع والترويع، تطلق صرخة مدوية في وجه الجلادين…محطمي الأجساد ومشوهي التكوين الأجمل في الطبيعة، وتنحاز بكليتها إلى حق الجسد في التمرد والغناء من أجل الحرية والعدالة والمستقبل.

‘كاتب سوري ـ عضو رابطة الكتاب السوريين

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى