بكر صدقيصفحات سورية

التصعيد يسبق التسوية الكبرى في جنيف 2

بكر صدقي

بموازاة حربه مع شريكه حزب الله على القصير، يواصل النظام السوري ضرب بعض “المواقع المعادية” بالسلاح الكيماوي. وفي الأمس كان الدور على منطقة حرستا المحاذية للعاصمة دمشق.

كيف يمكن تفسير هذا الأمر على ضوء تحذير الرئيس الأميركي أوباما من أن استخدام الكيماوي “خط أحمر” وغير مسموح به؟ ترى هل هو استهتار وتحدٍ ناجمين عن رخاوة الرئيس الأميركي، أم استجرار مقصود لردة فعل أميركية، أم لأن النظام لا يملك خيارات أخرى لتغيير موازين القوة ميدانياً لصالحه؟

ربما من الصعب التكهن بكيفية اتخاذ القرار في الدائرة القيادية الضيقة للنظام، وما هو حجم الدور الروسي في القرار السوري. لكن ما هو مؤكد أن النظام ما زال يكافح من أجل البقاء، ويعمل ما في وسعه لإطالة عمره. هذا يتطلب “سياسة” ما، مهما كانت بعيدة عن مفهوم السياسة المألوف، بعيداً عن العنف المحض الهائج الذي يخبط خبط عشواء، وقد يصيب من يطلقه بأكثر مما يصيب الخصوم.

النظام الذي امتنع عن استقبال موظفي الأمم المتحدة المكلفين بالتأكد من مزاعم استخدام الكيماوي، يعيد الكرة فيضرب بالكيماوي مرات، في الوقت الذي ما زال الفريق الأممي ينتظر في قبرص السماح له بدخول الأراضي السورية لإنجاز مهمته، وفي الوقت الذي تتحدث فيه تقارير صحافية عن انتقال أطباء سوريين عاينوا إصابات بالكيماوي إلى تركيا لتقديم ما بحوزتهم من أدلة إلى الاستخبارات الأميركية.

لا شيء يمكن أن يفسر كل هذا الاستهتار من النظام، إلا مؤتمر جنيف 2 الذي اتفق على عقده الروس والأميركان بهدف إيجاد حل سياسي للأزمة السورية التي أصبحت شراراتها تحرق دول الجوار من لبنان إلى تركيا والعراق وصولاً إلى الأردن وإسرائيل. فجنيف 2 المزمع عقده في غضون الأسبوعين القادمين، يعني بالنسبة للنظام نهاية ورقة العنف التي واظب على استخدامها طيلة سنتين وشهرين منذ بداية الثورة. فما رجاه النظام من استخدام كل هذا الكم من العنف على مرأى من العالم، فشل فشلاً تاماً، ولم يبق أمامه سوى دفع الثمن لحليفه الروسي الذي أمن له التغطية السياسية بكلفة أخلاقية وسياسية باهظة جداً.

ما هو هذا الثمن؟

إذا نظرنا إلى التأكيدات المتواترة من الإدارة الأميركية وحلفائها الأوروبيين والأتراك، منذ إعلان الاتفاق الأميركي – الروسي على الحل السياسي عبر مؤتمر جنيف 2، يمكننا الاستنتاج بأن الثمن هو ترحيل رأس النظام وعائلته وبعض الحاشية الأمنية والعسكرية مقابل الحفاظ على ما يسمى بـ”مؤسسات الدولة” والمقصود بها بصورة خاصة بنية الجيش والأجهزة الأمنية، ربما بعد إخضاعهما إلى درجة ما من درجات إعادة الهيكلة.

تم التمهيد ليتقبل السوريون هذه النتيجة طوال الأشهر الماضية، من خلال تركيز المعارضة بمختلف أطرها على موضوع تنحية رأس النظام كشرط مسبق للدخول في أي مفاوضات. كذلك تم التمهيد للنتيجة نفسها من خلال تمسك الروس ببقاء الأسد، ورفضهم لما أسموه بالشروط المسبقة من قبل المعارضة. أما الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا والدول العربية المنخرطة بشكل أو بآخر في الوضع السوري، فقد ركزت أيضاً على فكرة أن “الأسد لن يكون جزءاً من الحل” أو من المرحلة الانتقالية التي تلي وقف الحرب. فإذا أضفنا إلى كل ذلك ما يفعله النظام نفسه من تصعيد للعنف بحق المدنيين الذين يواصلون الفرار إلى الدول المجاورة، أمكننا القول إن جميع الأطراف عملت ما في وسعها للوصول إلى تسوية سياسية هي تعريفاً لا يمكن أن تحقق تطلعات الشعب الذي ثار ضد نظام عامله، طوال نصف قرن، ككتلة من العبيد.

في الشروط الميدانية القائمة اليوم من توقف الجيش الحر عن التقدم على جبهات القتال، وتحوله إلى عبء على السكان في المناطق المحررة، وما يوحي به التراخي الأميركي من أن حرب النظام على سوريا يمكن أن تمتد سنوات، وخاصةً بعد دخول حزب الله وقوى شيعية عراقية وإيران بصورة مباشرة وعلنية في الحرب الدائرة، إلى هبوط القيمة الشرائية لليرة السورية باضطراد ينذر بمجاعة حقيقية للسكان.. وغيرها من عناصر الوضع القائم، ستبدو تنحية الأسد والدائرة الضيقة المحيطة به بمثابة “إنجاز كبير” للأميركيين وحلفائهم، كما للروس الذين سيبدون كما لو أنهم قدموا “تنازلاً مؤلماً” لحقن الدم في سوريا، الأمر الذي سيطالبون السوريين بدفع ثمنه في الحفاظ على مصالح روسيا الحيوية في مرحلة ما بعد الأسد.

لكن نقطة القوة الكبرى في هذا السيناريو إنما تتعلق بالداخل السوري. فهناك قاعدة اجتماعية متماسكة دعمت النظام طوال السنتين ونيف، وزودت حربه على الشعب السوري بالمقاتلين الأشداء من مرتكبي المجازر الطائفية المروعة. هذه القاعدة الاجتماعية قطعت كل جسورها مع بقية أطياف الشعب السوري، ولم تترك لنفسها أي خيارات للتعايش معها بعد سقوط النظام. أعتقد أن مفاوضات المعارضة في مؤتمر جنيف المرتقب، إذا ما تم انعقاده، ستكون بالأحرى مع هذه القاعدة الاجتماعية، أكثر مما مع قمة النظام. والحال أنه لا مفر من ذلك، إذا كانت المعارضة لا تريد الوصول إلى تقسيم سوريا. ففشل الاتفاق مع القاعدة الاجتماعية على صيغة ما للتعايش المستقبلي، سيعني الذهاب إلى الطلاق، أي الانفصال عن جسم الدولة.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى