صفحات الناسمالك داغستاني

“التعفيش” سيناريو افتراضي/ مالك داغستاني

 

 

“إنه بيتنا” صرخت زوجتي ذات يوم، ونحن نتابع فيديو لتفريغ البيوت في حمص القديمة. ظهر في الشريط القصير الذي سنكرر مشاهدته عشرات المرات، عددٌ من الجنود بزيهم العسكري وآخرون بلباس مدني، كذلك كانت هناك شاحنات نقل مدنية وعسكرية. أردفت زوجتي بعد قليل “برّادنا”. كان هناك أربعة رجال يحاولون بصعوبة نقله إلى السيارة. كنت قد اشتريت برادنا بثمانية وعشرين ألفاً عام 2002 لأستبدل به براد بردى (13 قدم) الذي خدمنا منذ زواجنا مطلع الثمانينيات. يوم أحضرت البراد الجديد صرخت زوجتي محتجةً: ما هذا؟ قلت لك براد ولم أطلب منك قلعة. براد لعائلتنا الصغيرة وليس لخدمة سكان البناء! كانت محقة فالبراد لم يدخل من باب المطبخ وبقي في “الأنتريه” عدة شهور حتى قررنا توسيع باب المطبخ خصيصاً من أجل أن يحتل برادنا العظيم مكانه اللائق. خلال تلك الشهور كانت زوجتي قد نسيت كِبَر البراد وملأته عن آخره بكل ما يخطر وما لا يخطر ببال. ويوم فررنا من الحيّ كان مملوءاً بكميات مضاعفة من المؤن التي حرصت زوجتي على تكديسها خوفاً من القادم. يومها اضطررنا للتواصل مع صديق بقي في الحي، كي يذهب ويفرغ المواد المخزنة بداخله قبل أن تفسد.

وهذه غسالتنا؟ صرخت ابنتي. أجبتها: لا أعتقد أنها هي. كان عمر غسالتنا أكبر من عمر ابنتي. اشتريتها في مطلع الثمانينيات مهربة من لبنان بستة آلاف ليرة. غسالة إيطالية لم أحتج لتبديلها حتى بعد أن قارب عمرها الثلاثين عاماً. في بلادنا تعتبر الغسالة من السلع المعمّرة حيث لم يبلغ بنا الترف كسوريين أن نبدّل الغسالة كل عدة سنوات. أشارت ابنتي إلى بقعة صغيرة بدت أسفل الغسالة وأكدت: هذه صورة ميكي ماوس التي لصقناها أنا وأخي عليها عندما كنا أطفالاً.

كنا نتعامل مع ما يظهر على شاشة الكمبيوتر بتندرٍ وسخرية من رُخص هؤلاء المعفشين الذين يسرقون تعب الناس بصفاقة لا يمتلكها اللصوص العاديون. تابعنا سرقة بيتنا بتعليقات ساخرة حتى ظهر على الشاشة رجل يخرج من البناء حاملاً كرتونة بدت ثقيلة كما توحي مشيته. انعدام الدقة واهتزاز الكاميرا في يد المصور لم تسمح لنا بالتأكد من محتويات الكرتونة، ولا حتى إن كانت من بيتنا أم من أحد بيوت جيراننا في البناء. ثانية ابنتي هي من أصرّت بأن اللونين الخمري والأزرق المتجاورين في الكرتونة هما لونا اثنين من ألبومات الصور لدينا.

هل يعقل هذا؟ وماذا سيفعلون بالصور؟ لم تكن أسئلتنا تلك مجدية، ولم نبحث لها عن إجابات حتى. النقاش دار عن فقداننا لذاكرة عائلتنا الصغيرة. صور خطبتنا وزواجنا، وصور الأطفال في كافة مراحلهم العمرية، صور رحلاتنا، أبي وأمي وحتى صور جدتي بالأبيض والأسود. كل تلك المربعات الورقية التي تراكمت في بيتنا على مدى سنوات طويلة، كما في كل بيوت السوريين في ذاك الزمن، وقبل أن تتحول الصور إلى الذواكر الرقمية ما يمكننا من حملها معنا بيسر وسهولة.

“حاولوا أن تقرؤوا رقم السيارة” قالت زوجتي. لم يسأل أي منّا عن جدوى الحصول على رقم السيارة، ورحنا نعيد ونكرر الشريط ونحاول تثبيته على اللقطة المناسبة حين تبدو لوحة السيارة بأفضل زاوية. كنا نثبت الصورة ونجتهد في تقريبها فتظهر لنا المربعات بألوان متدرجة بين الرمادي والأسود. تأكدنا أن العدد الأخير كان صفراً، لكننا لم نفلح مع باقي الأعداد.

بعد أن أعيتنا المحاولة بدأنا بالتركيز على الرجل المعفش، يبدو ثلاثينياً أسمر البشرة بلحية وشاربين كثين، لكن ما الفائدة؟ فهما صفتان تنطبقان على عشرات الآلاف من الجنود والشبيحة.

وإن توصلنا للرجل. فماذا سنستفيد؟ سألتُ فريق المراقبة العائلي بجانبي. ومن اندفاعتهم في الجواب أدركت أنني الوحيد الذي لم يفكر بطريقة عملية. “نشتري الألبومات منه” أجابوا تقريباً بصوت واحد.

لم يكن يخطر ببالي يوماً أن شيئاً مثل هذا سيحدث معي، لكنه حدث. ليس معي فقط، بل مع عشرات آلاف السوريين الآخرين. مع مشاعرهم المحتدمة لم أخبر من حولي لحظتها بحياديتي اتجاه الأمر، بل وعدم حماستي مثلهم لإيجاد الرجل واستعادة صورنا منه. إننا أمام لوحة أكبر من أن يغدو تفصيلٌ صغيرٌ كفقداننا لصورنا العائلية أمراً ذا شأن. بلد بكامله يتم تعفيشه في السنوات الأخيرة، وقبلها وعلى مدار عقود كانوا في كل يوم يعفشون التاريخ والقيم والأخلاقيات والحقيقة.

سعى ابني لمعرفة لوحة سيارة التعفيش عبر صديقه الخبير في الصور الرقمية، كما قال، لكنه فشل. أما أنا فأعود كل فترة للتفكير بالأمر، وأفترض أن الرجل باع البراد والغسالة وغيرها من المسروقات، لكنه رمى صورنا العائلية التي لن تفيده في شيء. أتصوره أحياناً وهو يرميها في حاوية للزبالة في مكان ما. مع ذلك لم أشعر بالكثير من الحزن لمصير كرتونة ذكرياتنا التي انتهت في تلك الحاوية. نعم، لم يكن مصيرها محزناً لي، سوى لجهة أنه يشبه مصير سوريا، وما يفعله كل أنواع المعفشين بها.

تلفزيون سوريا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى