صفحات الرأي

التغيير: ما تُخفيه المفردة/ سنان أنطون

 

 

تحيل معاني المفردات التي نستخدمها، سواء شئنا أم أبينا، إلى الخطاب السياسي الذي تعكسه وتعيد إنتاجه، والذي نكرّسه نحن أيضاً، بوعي أو من دونه، حين نختار مفردات معيّنة دون سواها. مناسبة الكلام هي ذكرى غزو العراق واحتلاله وتدمير دولته. هناك مَن يختصر الحدث بمفردة «السقوط». وهناك مَن يسمّي الاحتلال «تحريراً» إلى اليوم! لكن البعض ما زال يفضّل مفردة «التغيير». فما الذي تعنيه هذه المفردة حقاً، بل ما الذي تخفيه؟

إذا كان المقصود، ببساطة، هو وصف ما حدث بعد الغزو، وأثناء الاحتلال، والإشارة إلى التغيير من الدكتاتوريّة إلى النظام السياسي الذي تمّ تركيبه في العراق بإشراف الاحتلال، والذي يسمّى الآن عموماً «العملية السياسية» (وهذه أنتجت سلسلة من الكوارث ما زال العراقيون يعيشونها)، فالسؤال هو: مَن الذي قام بالـ «تغيير» أصلاً؟ وما هي الأفعال التي قام بها الطرف المغيّر، الفاعل، قبل إنجاز «التغيير» وأثناءه؟ وهل يمكن فصل، أو عزل، الغزو والحرب والاحتلال، وكل الجرائم التي اقترفت بسبب هذا الثلاثي ومن أجله، والخراب المادي والبشري الذي أوقعته بملايين العراقيين؟ هل يمكن فصل كل هذا وذاك عمّا حدث بعده، وبسببه؟ يجابه كل نقد أو تساؤل من هذا النوع، في الغالب، بتهمة موالاة النظام السابق أو الحنين إلى زمنه.

ما تجب الإشارة إليه في خطاب «التغيير» هو أن الفاعل الحقيقي والرئيسي ينسحب ويتوارى عن المسرح السياسي والتاريخي، ويترك المجال للأطراف المتصارعة. وينهمك الجمهور بمتابعة مسرح العبث والقسوة الذي يسمّى «العملية السياسية». وتشبه آثار وتبعات خطاب «التغيير» في العراق الخطاب السائد في أميركا، الدولة التي شنت الحرب واحتلت العراق ودمّرت دولة أقامت على أنقاضها النظام السياسي المهلهل القائم الآن. فكأن انسحاب الجيش الأميركي من العراق قد أغلق الملف وأُسدِل الستار على المشهد بأكمله، في أميركا، كي ننتقل إلى مواضيع ومشاهد أخرى أكثر أهمية. فقلّما يجد المتتبع نقاشاً جادّاً عمّا جرى أو إقراراً بمسؤولية أميركا عن خراب العراق (نستثني هنا اليسار الراديكالي طبعاً. لكن أصواته قلّما تصل إلى وسائل الإعلام السائد). عاد الموضوع إلى البروز مؤخراً بشكل عابر في حملات الترشّح للرئاسة، واستخدمه ساندرز، الذي كان قد صوّت ضد الحرب، للإشارة إلى قُصر نظر كلنتون وعدم حكمتها. لكن، عموماً، يتم عزو الفشل والفساد السياسي والخراب المستشري في العراق منذ 2003 لأسباب «ثقافية» و «حضارية» وتتكفل الأساطير الاستشراقية المتجذرة في اللاوعي السياسي والثقافي بدعم مقولات كهذه. فقد حاولت أميركا، طبقاً لهذا السيناريو، أن تغيّر العراق، لكن «المشروع» فشل. ويتم بذلك محو التاريخ الفعلي للغزو والحرب وتبرئة الأطراف والأشخاص الذين خطّطوا للحرب وللغزو وأولئك الذين دعموه وساندوه. وينطبق هذا على المسرح السياسي العراقي أيضاً.

إن ما يتركه الاستعمار خلفه، بالإضافة إلى الجثث والخراب المادي، هو الخراب الفكري. فيتغلغل خطاب تم إنتاجه والترويج له قبيْل الغزو، وبعده، في اللاوعي السياسي. وتصبح، بموجبه، واحدة من أقذر وأقسى الحروب في العصر الحديث، محض «تغيير». ويصدّق البعض أن الـ «لا نظام» السياسي الحالي في العراق، الذي لا ينتج إلا الفساد والفقر والتمزّق الطائفي، هو نظام يمكن أن يتمّ إصلاحه دون تغيير جذري وبنيوي ودون إعادة النظر بأسسه الاحتلالية ولا شرعيته.

السفير

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى