صفحات الثقافةهيفاء بيطار

التـخـويـن

 


هيفاء بيطار

لو أردت أن أصف ببساطة حالة الناس في بلدي الحبيب سوريا، لقلت إننا نعيش تنويعات للألم. ومن خلال احتكاكي بشريحة واسعة ومتنوعة من الناس بحكم عملي طبيبة عيون لاحظتُ أن كل مواطن يتألم لما يجري في بلده.

بطريقة مختلفة، نسبة كبيرة من الناس لا تريد إظهار ألمها، تغلـّفه بشيء من البرود وتفتعل صلابة وقوة زائفة… بعض الناس يحبسون أنفسهم في الصمت، فلا يتكلمون ولا يعلـّقون عن كل ما يدور حولهم من أحاديث وتحليلات لما يجري من أحداث فاجعة ومؤلمة.

البعض تنتابه حالة من الإسهال الكلامي، إذ يعبّر عن ألمه وخوفه وقلقه بالإفراط في الكلام، أي كلام… وليس بالضرورة عما نشهده من أحداث… إحدى زميلاتي مثلاً، تحكي لي كل يوم الفيلم الذي حضرته مساءً في التلفزيون! أتأملها بحزن ومحبة وشفقة، أسمع الحديث الحقيقي الدائر خلف ثرثرتها عن الفيلم، أسمع خوفها وألمها وإحساسها بالعجز واللا أمان…

أعيش وسط تنويعات الحزن وأشحذ حواسي دوماً لأبقى محتفظة بالقدرة على الأمل، أنـقـّب عن الأمل في نفوس من حولي، كما لو أنني أنـقـّب عن ذرات من الألماس في بحر من الرمال… نحتاج إلى قوة خارقة وإلى روح معنوية عالية وإلى شبه معجزة كي نتمكن من رسم مجرد ابتسامة على وجوهنا… لم أكن أعرف مقدار القوة الكامنة في ابتسامة!…

ليس ما يدهشني تنويعات الألم حولي، بل تلك الحالة المُكهربة والعصبية بين الناس، كل واحد مؤمن أنه يملك الحقيقة، ويتحول النقاش لمعركة حقيقية، تصبح الكلمات كالشفرات، تجرح وتدمي، وتشع القسوة من العيون، التخوين هو الكلمة الأكثر تداولاً، أحسها أشبه بكرة المضرب، يتقاذفها المتحاورون من فم إلى فم… يخطر لي وأنا أسمع تلك النقاشات اللانهائية المُتصلبة أن أصفق وأصرخ بهم مستعيرة عبارة فيصل قاسم: يا جماعة يا جماعة، طولوا بالكم…

لكني لا أفعل شيئاً سوى أن أتفرج على مسرح اللا معقول حولي، وأسكن الذهول…

أحاول إيجاد أعذار للناس، الكل متوتر ومتألم، وقلق ومتعب، الكل حزين لما يحصل في وطنه الحبيب، لكن لا يمكنني أن أجد أي عذر أو تبرير لهؤلاء الذين يخوّنون بعضهم بعضاً، ويطيحون صداقة سنوات من أجل اختلاف في الرأي!!

أي عارٍ أن تنتهي صداقة متينة بين اثنين من المثقفين لأنهما اختلفا على أحد ألمع المحللين السياسيين، أحدهما متفق مع آرائه والآخر مختلف معها؟! خوّن كل واحد صديقه وانتهت الصداقة بعداوة، بل صار كل منهما يتباهى بعداوته للآخر…

أي عار ٍ أن تحل القطيعة بين أخوة، تنكروا لرابطة الدم، وللرحم الدافئ بالحب الذي احتضنهم، ولأن الأخ يختلف عن أخيه في قراءة الواقع، يصبحون «الإخوة الأعداء»… أعرف إخوة ما عادوا يطيقون بعضهم بعضاً، وحلـّت القطيعة بينهم، خلاف في الرأي جعلهم يطيحون أخوة ومحبة يفترض أنها ترسخت عبر سنوات…

الكره، هذا هو التهديد الحقيقي الذي أحسه، رفض الآخر وتخوينه واحتقاره ومقاطعته، الكره الذي يضم في طياته بذور الفتنة… أحياناً أرغب في أن أصرخ حتى تتمزق حبال حنجرتي: «يا ناس، نحن أخوة في الإنسانية»، أكرر هذه العبارة في نفسي منتشية من المعاني الرائعة فيها… نحن أخوة في الإنسانية، لنا الطبيعة ذاتها، والقمصان الجلدية ذاتها، والمادة الدماغية ذاتها، وتعداد الكريات الحمراء والبيضاء ذاتها، وشبكية العيون ذاتها، والحلم بعيش كريم ذاته… لماذا لا نجد ما نتفق حوله؟ لماذا لا نعمل على خلق تقاطعات ايجابية بيننا كمواطنين… ولماذا نسمح لمجرد اختلافنا على لقطة بثتها فضائية ما، أو رأي قاله محلل سياسي ما، أو تعليق على صفحات الفيسبوك قاله مثقف ما… لماذا نسمح لهذه التفاصيل الخارجة عنا أن توقعنا في فخ الكره والقطيعة، والرفض الوقح للآخر، كما لو أننا ندوس حقلاً من شقائق النعمان بأقدامنا ونهرس زهور المحبة الأشبه بقلب منتفخ بالحب…

أفهم أن ظروف وطني الحبيب قاسية، وأننا نمر بمحنة صعبة وتحد ٍ كبير، أفهم حالات القلق والألم، وأن يشكو البعض – وأنا منهم – من عدم القدرة على النوم، وأفهم أن يهرب البعض للنوم لأنه يحمل رحمة مجانية وكبيرة، أفهم أن تبكي أم بلوعة لأن ابنها مضطرب ويجد صعوبة في التركيز على دراسته بسبب الأحداث المؤلمة… أفهم شكوى الناس من تدني الدَخل، ومن الضجر، وحالات الخوف والقلق… إلى ما هنالك…

لكن ما لا يمكنني أبداً أن أقبله أو أجد له عذراً هو ذلك الكره والقطيعة التي تحل بين إخوة في الوطن والإنسانية، وذلك التصلب المتعند القاسي والديـّان للآخر المختلف عنه برأيه وقراءته للواقع…

لوائح التخوين والشرف أحد أشكال الكره والرفض والاحتقار لفكر الآخر وكيانه، بأي حق يدين الإنسان أخاه الإنسان، بأي حق يدعي البعض أنه يحق لهم وضع معايير للخيانة ومعايير للشرف… ويدرجون المثقفين فيها على هواهم.

بأي حق يجهر مثقف بأنه يخوّن كل ما حوله من مثقفين ويرمي بهـم فـي وَحـل العـار!! وَحل العار!! يا للعبارة البليغة، لو يخطر ببال هذا المثقف أن يقيم نفسه؟ ماذا قدم لوطنه الجريح بعبارته الأثيرة وَحل العار!! أما كان أجدر به لو يكتب كتابة ترشح بالمحبة والتآخي، وتدعو الناس للتأمل في جوهر وجودهم الإنساني كبشر من مصلحتهم أن يتحابوا، فالمحبة بناء، والكره هدم… المحبة ربح، والكره خسارة…

وفي العلاقات الإنسانية لا يوجد منتصر ومهزوم، خسارة صديق خسارة كبيرة، خسارة أخ لأخيه خسارة كبيرة، لو يخطر ببال هؤلاء أن يتساءلوا ماذا ربحوا من عداوتهم لبعضهم البعض، ماذا ربحوا من خسارتهم لصداقة وأخوة واستبدلوا طاقة الحب في قلوبهم بطاقة كره، إلى طاقة سلبية تـُسمم كل ما حولها…

أي عار أن يتحول القلب الإنساني إلى مضخة كراهية…

وبكل مرارة أقول إنني كنتُ في قائمتي العار والشرف!!

والأمر سيان عندي لأن الجهابذة الذين يضعون أسس تصنيف الناس وخاصة المثقفين، كما لو أنهم يصنفون بضائع، غير مبالين بمصلحة الوطن، ولا بالشرخ الذي يتعمق بين المواطنين، بل إنهم بهذه التصنيفات يعمقون الشرخ بين أطياف المجتمع، ويغذون الأحقاد…

وبعد، ليسمح لي ماريو يوسا أن أستعير عبارة رائعة قرأتها في إحدى رواياته: بأنه ثمة قاع بهيمي في الجميع مثقفين وغير مثقفين.

هيفاء بيطار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى