صفحات الثقافة

ملف السفير عن محمد ملص

سينما شخصية تلاعب الموت/ لؤي ماجد سلمان

حين يدخل ليث السينما السورية من باب مقهى الروضة، لا يمكن إلا أن يثير انتباه الحاضرين، يمشي برصانة وثقة وحذر، تعتقد للوهلة الأولى أنه ينظر إلى كل الجهات بوجل كأن هناك من يتربص به، لكن ما إن يجلس على كرسيه وتأتي عينك في عينيه تدرك أن هناك عدسة لا تراها، هي من كانت تنظر وتبحث بين الناس والأرصفة، عدسة سحرية تحول كل مكان في دمشق إلى كادر يتم تحليله بشكل سريع وأنيق، تسأل نفسك كيف وصل إلى هنا؟ هل كانت تقله بوسطة «القنيطرة – دمشق» أو أنها إحدى طائرات الاتحاد السوفياتي حطت بلطف، لحيته التي خضبتها السينما تعيدك إلى زمان الأبيض والأسود، إلى عشرينيات القرن الماضي، إلى يوميات تبحث عن فيلم يغطي عريها، وعدسة تعبر عنها، تروي قصة سرب الحمام المقيد الذي يريد الخروج من البيت العربي القديم، فترتطم أجنحته بالزجاج الشفاف بعد كل محاولة، تزداد المحاولات الفاشلة وتزيد الضربات والجلبة، ولا يأس مع الضوء الذي يشاهده الحمام من خلف قفصه الزجاجي. وحده العنف يخرج إلى الشارع، مروراً ببيت الجد، والتظاهرات والمسيرات والآراء السياسية المتداخلة والمختلفة التي لا تقبل الآخر، لتستوطن السينما جنباً إلى جنب مع الأحلام الصغيرة المؤجلة. ليست بداية المشهد في «أحلام المدينة» لكنها كل الشريط، حاضرة مع كل لقطة بحجارتها ويومياتها المنهكة، بين الحلم الذي يشتهيه ملص، والواقع الذي خلفه المستعمر على حجارة مدينة القنيطرة وروحها، لم يكن طول الطريق بين القنيطرة ودمشق هو المشكلة، هناك أزمة إلى أين؟ لا زالت عالقة في الذاكرة مع كل فجر جديد، وكل ليل نازح من العمر، النهار من نصيب الحافلة والليل يعينه الزمان على الذكريات قرى «سعسع» تبشر بالوصول لأن الحافلة تتوقف وتوقظ الركاب من حسرتهم العالقة في المدينة، لكن صاحب «مذاق البلح» ليس أحد ركاب تنورين ولا الشاب اللطيف بائع الكعك المجلل بالدبس هو من يقود الحافلة، فلا مكان في هذه الحافلة للبشاعة ولا لأنثى أرنب تقضم الخس.

يستبشر الركاب خيراً في الوصول إلى أي دمشق، أي أمل يحط بهم، لكن طعم النزوح ما زال عالقاً يختلط بطعم الدبس «الدبس المر» فيلم لا زال يبحث عنه محمد ملص ليزين به لوحاته، في فيلم «الدبس المر» لن يكون أحد من الركاب سعيداً، الكل حزين ومنكسر، كل رأس خائف منشغل بذاكرته التي نسيها وحيدة في القنيطرة، هل تقصفها طائرة معادية وتنثر أشلاءها على ما تبقى من حجارة، أو يمر عليها الضابط الهائج فيصفعها ليداري هزيمته ويختبئ خلف قوة زنده، ودماثة بائع الكعك اللطيف، الذاكرة ليست بائع الكعك الذي انتقم الضابط من الهزيمة في خده، لكنها شاهدة على الصور والعدسة التي تتجشأ رائحة البارود، ودروس التاريخ والجغرافيا، حيث يتوه المعلم ويشرد ملص الطفل بوالده الفارس في عيني أمه على الأقل، الفارس الذي جال أرجاء الوطن على حصانه، فأصابه هواء القنيطرة ولم يستطع التخلص من عشقه حتى آخر لحظة بلع فيها ريقه بصمت، وتركه وحيداً ينسج التمائم على روح المدينة كل ما اخترقها جدار الصوت، لكنه لم يفلح يوماً في قتل الخوف رغم كل الآيات والقصائد التي حفظها، وبقي قبر ذاك الفارس الذي جال كل البلاد رهن اعتقال العدو واحتلاله.

يسرج الطفل صهوة عدسته وينطلق باحثاً عن بلاده، كأنك تشاهد «الطفل ديب» في فيلم «أحلام المدينة» يدخل ومعه أمه السينما إلى وسط زحام المدينة، تشذره الحجارة وحمام دمشق الذي لم ينل قسطاً من الراحة بعد تلك الأحلام غير المدبلجة، يصرخ ذلك الطفل من داخله «يا الله ما أحلى الشام، يا أمي تعي اتطلعي، يا أمي شوفي الشام». دمشق مزينة بحبال اللمبات وأوراق الزينة، الوحدة مختلفة هنا عن الوحدة التي جلست بحذاء ذاكرته في الرحلة، مختلفة عن الصورة التي التقطها بجانب نهر بردى، في مقهى الوحدة، لتدل على وحدة الصديقين، على جمال عبد الناصر يقف على الأهرامات ليشاهد تدحرج الشعارات حول ساحة «فكتوريا» في قلب دمشق؛ بين البضائع المهربة، وأوراق اليانصيب وعدسات الساحات العامة، جمال عبد الناصر وسوريته، لغته، انتماؤه، أشياؤه التي أضاعها عند قبر والده، وجدها اليوم محمد ملص فعلقها في ذاكرته بوصلة يهتدي بها، تتوه أحيانا فيتوه، تأخذه بعيداً عنه فيحس بقسوة التعبير، لا يجد إلا السينما ليسكنها، بعيداً عن الحروب والألم والويلات، لكن من كانت السينما قدره لن ينجو من لعنة الحروب، ومع كل فيلم جديد تصادفه حرب جديدة، مع فيلم الدبلوم وقعت حرب تشرين 1973، وعند تصوير «أحلام المدينة» 1982 اجتاح العدو الإسرائيلي بيروت، وأثناء فيلم «الليل» احتل العراق الكويت وحرب الخليج الثانية، ومع «باب المقام» احتل الأميركيون العراق2003. واليوم يعود لتشكيل الصورة التي لا صورة لها في «سلم إلى دمشق» حيث الدم يهطل بغزارة ومن كل الجهات على بلاد المخرج السينمائي، على أمل أن تتمخض الكاميرا الحدث من جديد؛ أحاول أن أستعيد العدسة، وجه المصور، فأتذكر علبة التصوير التي كان يحملها، وأتذكر ستارته السوداء، وهو يبحث في الحارة عن دكان مات صاحبها اليوم، ليعلق ستارته على باب دكانه المغلقة، ويضع علبته السحرية أمامها، والعلبة كانت تولد الصور.

تتابع الصور في الذاكرة شريط سينمائي، كأنك تحضر فيلماً وثائقياً يلتقط هواجسه السينمائيه عبر قراءة الواقع، والطالع، والتاريخ مع كل ما تختزنه الذاكرة في جيوبها العتيقة لتروي قصة أنثى تنوس بين الهروب والهروب، بين الهروب من ذاتها، وذاتها لا تكف أبداً عن الانتظار، حتى يصير الهروب من الذات هو الحياة، تهرب من الزمان والمكان، امرأة، زوجة، أم، من المطبخ، من السرير، من المعمل، من الليل، من النهار، من الذكريات، إلى الخنوع والمسايرة، إلى الاستسلام، ويبقى عالمها الداخلي مرهوناً بالانتظار، تجلس على شرفة الذاكرة ترقب «الذات» المنتظرة «الذات» الهاربة، ترصدها، تتأملها، وهي تتحرك، تعمل، تطبخ، في الحمام، في المرحاض، تحت الزوج، فوقه، وفي آخر الليل لا تجد هذه المنتظرة، إلا تلك «الهاربة» فتضمها إليك، وتنصت لها وتحادثها، تسخر منها، تعطف عليها، تمسح دموعها، تبكي عليها، ثم تعانقها، وتنامان ريثما يهلّ قهرٌ جديد.

الرأي حاضر بقوة والتاريخ، والموقف الذي رافقه من مقاعد الدراسة في الذاكرة المدمرة، إلى موسكو، مع الأيام الباردة وصنع الله ابراهيم، وفيرا، الوقوف مطولاً وهو يتأمل مقبض الباب الخشبي لمسرح «الفن مخات» باحثاً كمحقق عن بصمات تركها له تشيخوف عليها، أو مطأطأ الرأس ينقب في الباركيت الخشبي الأصفر، الذي يرصف أرض قاعة المسرح ليجد أثراً لأقدام ستانيسلافسكي العظيم، محطات حميمة، ومكاشفات جريئة، عاد فيها إلى دمشق لم تغيرها المعسكرات ولم تثن عزيمتها الليالي الباردة، والأحلام التي أجهضتها المفارق المختلفة للتاريخ، رفض أن تكون مجموعة أشياء كان عليه معرفتها ورصدها وتسجيلها بشكل ببغائي أو بغباء الصمت وسماجته «ديب، القنيطرة، مصبغة الرداء الأبيض، إعلانات، أحلام المدينة الصغيرة، موسكو، برلين، دمشق، بردى، رائحة الحزن المقدد، الأصابع التي تتهم برج شركات الخلوي أبعدوه عن نافذتي يريد اغتيالي، البساط الأحمر، البزة السوداء، البابيون، المهرجانات، قرطاج، كان، الجوائز، مذاق البلح، كأس الشاي، شوارع دمشق، المقاهي، حرب تقع تبشرك بولادة فيلم جديد، ما أصعب أن يمر مشهد بشكل عابر، لا يكون في داخله محمد ملص، في الوقت ذاته الذي تعي فيه تماماً أنه خارج الكادر يراقب الحدث، ويبحث في الأرض عن الياسمين الدمشقي الذي استغل غيابه ليسقط على الأرض فيأخذه بحنان ويعيده إلى جادة البيضاء وصور الفيلم، تطمئن لوهلة وتحتار أين تذهب، تحزن لأنه تركك وحيداً ككرة تتقاذفك الصورة والحدث، أنت ديب الصغير، وهو ديب، جمهور الصالة يعتقد أنه مثلنا ديب.

(كاتب سوري)

————

تفاصيل صغيرة/ عبده تقلا

لفت نظري عنوان على غلاف مجلة سورية فنية، يتحدث عن فيلم جديد لمحمد ملص اسمه» الليل»، وصل متأخراً إلى مهرجان قرطاج السينمائي، ولكنه أدهش الجميع، ونجح في انتزاع التانيت الذهبي.

أشعلت الفكرة مخيلة ابن الثامنة عشرة، بدت موحية جداً، أشبه ما تكون بدرس عن الوصول المتأخر، ولكن المليء ثقة بحصد الجوائز والقلوب، ومن جديد أصبحت مشاهدة الفيلم رغبة ملحة في داخلي.

هذه المرة لم أنتظر أكثر من ثلاث سنوات حتى تمكنت من متابعة الفيلم في سينما السفراء بدمشق. كان ذلك يومذاك برفقة أصدقاء يعملون اليوم في مجال الصحافة والإخراج وتقديم البرامج التلفزيونية.

خرج الجميع مهللين، محتفين بتحفة فنية جديدة أبدعها محمد ملص، بينما كانت مشاعري مختلفة، ففضلت الصمت والابتسام، وذهني مشغول بشيء آخر.

لجأت إلى أحد الأصدقاء المغرمين بالسينما، وتابعنا سوية فيلم « أحلام المدينة»، الذي كنت قد قرأت قبل وقت قصير في مجلة عربية، تصنيفه بين أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية.

استنفرت حواسي جميعها وأنا أتابع الفيلم، فوجدتني غير قادر على الانبهار به، كما يتحدث ويكتب كثيرون. ربما أعجبتني بعض مفاصله، كادر مشغول بعناية، أو إضاءة مميزة، أو زاوية تصوير مفاجئة، لكن كل تلك العناصر لا تكفي لتوقعني في أسر فيلم ما.

كنت أحلم بمدينة تحلم بطريقة مختلفة، تنبش أسرارها الصغيرة بعيداً عن العناوين الكبيرة والمباشرة التي لا أستسيغها في السينما والفن عموماً.

لكن كلا الفيلمين على كل حال، أثبتا لي أن محمد ملص مخرج يتعامل بشكل مختلف مع ممثليه، إلى درجة أن كثيراً من الممثلين الذين لم أستسغهم في تجارب مع مخرجين آخرين، بدوا لي مقنعين، بل وحتى مختلفين تماماً تحت إدارة صاحب « المهد».

لم أكن أعلم أنه بعد أشهر من متابعة فيلم «الليل» ستتاح لي فرصة اللقاء بمحمد ملص لأول مرة، وأتمنى ألا تكون الأخيرة، في غرفة المخرجين في مبنى المؤسسة العامة للسينما. يومها كنتُ بحاجة لمخرج يوجه لي النصيحة بشأن المكان الذي يمكنني دراسة الإخراج السينمائي فيه، فنصحني أحد معارفي في المؤسسة باستشارة محمد ملص.

كان الرجل مشغولاً بقراءة الجريدة، عندما اقتربت منه معرفاً بنفسي، وذاكراً اسم من أرسلني إليه.

بدماثة كبيرة رحب بي، وبكثير من الهدوء راح يشرح لي الخيارات المتاحة أمامي: موسكو خيار جيد، وكذلك معهد السينما في براغ، والبولونيون أيضاً لديهم معهد ممتاز.

وعندما سألته عن رأيه بمعهد السينما في مصر، طلب مني أن أتركه كخيار أخير، فهو معهد متوسط في مستواه.

كنت أحاول في تلك الدقائق القصيرة أن أقرأ الرجل بسرعة. لمحت صور الحنين في عينيه، أطياف طفولة لم تكبر، وظلال مدينة تتراقص، ذكرى رحيل الأب في وقت مبكر، ومن بعده المدينة، كل ذلك بدا لي واضحاً، مقروءاً في تلك الدقائق العشر التي استغرقها الحديث.

أحلام جديدة

أصبحت ذكرى ذلك اللقاء أكثر من مهمة بالنسبة لي، وعندما التقيت ابنته أمية بعد أشهر، كنت كمن يزف لها خبراً عظيماً أنني تعرفت إلى والدها.

بعد سنتين من ذلك اللقاء، وفي برنامجه «خليك بالبيت» تحدث الإعلامي زاهي وهبي لضيفه المخرج السوري هيثم حقي، عن إعجاب محمد ملص بمسلسل حقي الأخير «خان الحرير». لم أفاجأ بذلك الإعجاب من قبل ملص، برغم قراءتي للكثير من تصريحاته المتعلقة بالتلفزيون، والتي تعده ميديا وليس ثقافة.

وسبب عدم استغرابي يعود إلى إحساسي أن الرجل المسكون بالمدن، اشتم على ما أعتقد – رائحة مدينة حقيقية في ذلك الخان، فأعادت له ذكرى مدن تسكنه؛ لكن الموضوع بالنسبة لي، أنا المسكون بالسينما، فتح أسئلة كثيرة، لعل أهمها وأولها حال سينمانا السورية التي من الممكن لكثير من المسلسلات التلفزيونية أن تكون في بعض حلقاتها، أو مشاهدها أكثر سينمائية من تلك السينما التي أغرم صناعها بنقل سيرهم الذاتية إلى شاشتها البيضاء، وطرحوا موضوعات حكائية تقليدية يمكن لمسلسل أقل من عادي أن يتناولها، مؤكدين أنهم لم يستوعبوا بعد، ولم يحاولوا اكتشاف المساحات الواسعة التي يملكها ذلك الفن الاستثنائي. وكي تكتمل الحكاية استقدموا نجوم التلفزيون الذين سأمهم الجمهور، وحفظ أصغر ردات الفعل عندهم، ومنحوهم بطولة تلك الأفلام، اللهم إلا في حالات نادرة.

يخطر محمد ملص كثيراً على بالي في هذه الأيام، خاصة عندما أستمع إلى معلمي في صفوف الإخراج، ذلك الرجل الشبيه بمحمد ملص عمراً ولحية بيضاء، وحنيناً لمدينة قديمة كان اسمها لينينغراد.

أنصت إليه جيداً، وهو يتحدث بإصرار كبير عن طفولة الفنان التي إن فارقته يوماً، فهذا يعني انتهاءه إلى غير رجعة، فأسترجع وجه محمد ملص في تلك الدقائق العشر، طفلاً، حيّاً، مسكوناً بالمدن، ومترعاً بالحنين.

لم تتح لي الفرصة بعد لأدخل إلى باب مقام محمد ملص، ولا ارتقاء سلمه إلى دمشق، ولكني متأكد أن هذا سيكون قريباً، متمنياً أن يبقى الرجل بيننا ليصنع كل ما في مخيلته من صور، مردداً معه: لا أتمنى أن أرحل وفي نفسي عشرات الأفلام، قد يكون في نفسي فيلمان أو ثلاثة.

ننتظر أفلاماً، أحلاماً جديدة لمدن وبشر، في زمن دفنا فيه كثيرين، ونرفض أن ندفن ما بقي من أحلامنا وآمالنا.

(روسيا)

——————

في دماغه «بكرة فيلم» لا تتوقف عن الدوران/ خليل صويلح

كان على محمد ملص أثناء تصوير فيلمه « سلّم إلى دمشق» أن يكتب بالعدسة اللقطة المتخيّلة، فيما كانت اللحظة المعيشة خارج الكادر تفرض نفسها قسراً، على مجريات الشريط، كأن تقع قذيفة بالقرب من موقع التصوير، ما يستدعي إعادة تصوير اللقطة المتخيّلة، لتظهيرها من صوت القذيفة. زيادة الاختناق، والخوف، ورائحة البارود التي التصقت بثياب الممثلين، وجدران الغرف، وملاءات الأسرّة، فرضت عليه استعمال عدسة أخرى لتوثيق هذه اللحظات لشريط آخر مؤجل. وسوف يكتب في يومياته « ما آلت إليه أحوالنا أسوأ بكثير من فرصة التوقع أو الرهان. فقد مادت الأرض من تحتنا وتحولنا من شعب إلى كومة حطب ليس لها من دور سوى أن تموت قتلاً، أو صلباً أو كمداً، أو أن تفر، أو تهاجر. نحن نطارد يومياً من قبل الموت والخطف والسلب أو من الصدفة العمياء. وبين النفس والآخر؛ وبين الحائط والباب، نتابع مشاهد حياتنا ومصائرنا في كادرات سينمائية ومشاهد متقنة ومصنوعة بأحدث الطرق من دون أن ندري، هل نحن خارج الشاشة أم داخلها؟». ولكن هل غادر محمد ملص يوماً، إلى خارج الشاشة؟ لطالما كانت عيناه عدسة مكبّرة لتخزين مشاهد مؤجلة لمشاريع مقبلة قد لا تتحقق أبداً، فهو من ابتكر فكرة «السينما الموءودة»، في إشارة إلى مشاريعه المتراكمة في الأدراج. في «سينما الدنيا» السيناريو الذي كتبه عن فترة غيبوبته، إثر حادثة سيارة أثناء تصوير فيلمه «الليل» حاول أن يصفّي حسابه مع السينما، باستعادة مخزونه من أفلام الآخرين، فوجّه تحية حارة إلى فيلم «المخدوعون» للراحل توفيق صالح، أحد أبهى الأفلام العربية، وإلى كيروساوا الياباني، وبازوليني الإيطالي، وآيزنشتاين الروسي، وآخرين. كان يريد أن يذكّرنا بصرخة غسان كنفاني «لماذا لم تدقوا جدران الخزّان» بإحالاتها المتجدّدة، فخزّان السوريين بحاجة لمن يدق على جدرانه أيضاً، لا الفلسطينيين فقط، إذ كانت حرب «عاصفة الصحراء» التي دكت بغداد، على مرمى قذيفة من دمشق. في السيناريو نفسه، السيناريو المؤجل، بمنع تصويره رقابياً، بلغ محمد ملص سينماه المشتهاة حقاً لجهة المكاشفة والشجاعة ومواجهة الذات وأسئلة الموت والعشق والسينما، وكأنه مكتوب على السينمائي السوري ألا يتجاوز عتبات التسلية المرحة، وإلا فسيقع في الحفرة حيّاً. في مطلع شبابه درس محمد ملص الفلسفة، ثمّ غادرها في بعثة سينمائية إلى موسكو، وجذبه خلال البعثة مغناطيس الرواية، بتأثير من زميله حينذاك صنع الله إبراهيم، فكتب «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب»، وأخيراً جمع كل هذه الرغبات في كيمياء واحدة هي السينما، سينما الحلم، والزمن المفقود، والسيرة، إذ يصعب أن نزيح الحلم أو الذات من نسيج أفلامه. هكذا مزج الحلم بالذاكرة، ولفرط قسوة الذاكرة عليه، اخترع ما أسماه «الذاكرة المشتهاة»، أن تبني عالماً تخيّلياً من رماد طفولة بائسة، ورماد أب غاب باكراً، ورماد مدينة، لم تعد قائمة، أقصد القنيطرة التي أحياها من الرماد في أكثر من شريط. في الشريط التسجيلي الذي حقّقه الفرنسي لوران بيار عن سينما محمد ملص (2008)، ينتقل السينمائي السوري إلى مقبرة مدينة القنيطرة، برفقة ولديه عمر ونوّار، يتوقف أمام قبر بسيط من دون شاهدة، بجوار شجرة بطم: إنّها العلامة الوحيدة على صاحب القبر… والد محمد ملص. المشهد استثناه من فيلم «الليل»، وترك السؤال معلّقاً، في الحوار بين الابن والأم، حين يسألها «أليس لأبي قبر؟»، فتجيبه: «اذهب وابحث عنه»، وينتهي المشهد في فيلم لوران بيار، بلقطة يظهر فيها محمد وهو يقرأ الفاتحة على روح والده، في مسحة صوفيّة أخّاذة، تُذكّر بروحانية أفلام تاركوفسكي. سينما تعتمل بالفقدان والخسارة واللحظات الوجدانية المؤثرة لترميم المشهد بصورة مغايرة ومشتهاة، انتقاماً من همجيّة محو الذاكرة. بعد نحو أربعين عاماً من السينما، لا نعلم تماماً، هل تحوّل دماغ محمد ملص إلى «بكرة فيلم» لا تتوقف عن الدوران؟ فهو في كل أحاديثه وسجالاته وتأملاته غارق في ضجيج تلك البكرة الضخمة، يولف مما يدور في محيطه، أفلاماً قيد الكتابة، أو مشاهد تحتاج إلى تركيب، وقد ينسفها خلال التصوير بارتجالات تفرضها اللحظة المعيوشة، فالنص الذي كان مقدّساً قبل التصوير، لم يعد كذلك بالنسبة لعين المخرج، وما كان مقدّساً خلال التصوير، سوف يفقد قداسته أمام جهاز المونيتور، لعلها مأساة «سينما المؤلف» تلك التي أسس لها ملص سورياً، منذ فيلمه الروائي الأول «أحلام المدينة» (1983) الذي بات اليوم، واحداً من أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية، وفقاً لاستطلاعات أكاديمية رصينة.

ينبغي أيضاً ألا ننسى الجانب الآخر من شخصيته الفكرية، ذلك الذي نجده في كتابة مفكرات أفلامه، وقدرته العالية على صوغ التفاصيل، في يوميات تحتشد بوقائع لافتة، قد يهملها آخرون ببساطة، لكنها ستبقى بالنسبة إليه «سينما الظل» تلك التي لم تبصر النور، أو إثم الذاكرة بتدوينها، مرّة إثر مرّة، خشية فقدانها، فهذا الرجل لديه وطن واحد مقدّس هو السينما.

إذا توقّف محمد ملص عن صناعة الأفلام، أو الكتابة، لسببٍ ما، فلديه صنعة نادرة، هي التأمل، والغرق في زمن الهوينى، ذلك الذي كتب عنه ميلان كونديرا في روايته «البطء»، ولن نهمل مفردة أخرى لا تقل شأناً، هي الإصغاء إلى الآخرين بعمقٍ نادر، وكأنه يمتصّ كل ما يدور في فلكه بشغف ورحابة وحب، ربما لإعادة تقليب تربته، وحراثته على نحوٍ آخر، في مراياه الشخصية المتعدّدة.

(روائي سوري)

—————-

سينما للآخرين/ تمام علي بركات

تبدو مسافة العشر سنوات التي يتكئ على مفاصلها المخرج السينمائي السوري محمد ملص، كما يتكئ محارب مهزوم على ذكريات بعيدة، وكأنها فترة استعادة لأحلام اليقظة التي تعتريه وهو يراقب الحياة كيف تمرّ من تحت شرفته الدمشقية بعد أن أقعى طويلاً في مخيلة خصبة تنهلّ من مدينة لم يعد فيها ما يعنيه إلا قليلاً من أحجار مبعثرة يرقد تحت ثقلها البركاني جثمان والده، المقاتل الذي انخرط يوماً في ثورة القسام لتحرير فلسطين، عائداً بندوب غائرة في الروح والجسد من أثر هزيمة، لم تكن تلحّ قبابها في خواطر أولئك الرجال الذين لم يروا في الصهاينة إلا عصبة من شذاذ الآفاق، وليس بالأمر الصعب طردهم عن مشارف القلب والهوى، إلا أن الخيبة القصية تركت لملص الطفل حكايا كثيرة، سوف يعود ليتذكرها وهو يجلس إلى جانب تلك الحجارة بعد أكثر من أربعين عاماً.. هنا يرقد أبي ويده تدل على بقايا خرابة كانت يوماً المدرسة التي تنقل بين ممراتها وصفوفها كمدرّس يلم صيحات الطلاب وضحكاتهم ليضعها في بقجة هجرة قريبة، هجرة توشك على بدايتها من مدينة لا تغيب عنها الشمس؛ إلى عالم آخر يحتفل بأول شعاع دافئ ترسله غزالة المدى المحتجبة، هنا سيتعرّف ملص على الضوء مرة أخرى، سوف يدرك بعد حين أن الشحوب هو ما يعطي للصورة شعريتها التي يريد، في حين كانت الشمس تحجب عنه تلك المعرفة، إذ أن علاقة شاعر بالضوء والظلال أخذت تتبدّى ملامحها في أعمال الرجل العائد من موسكو بعد دراسته للسينما في أحد معاهدها، وإخراجه أثناء فترة دراسته بعضاً من الأفلام التي بقيت عالقة في خاطره كشيء متدلٍّ بين الوعي والغيبوبة الشاخصة، إن صح التعبير.

شبح تاركوفسكي

يعرف ما يريد ولكنه لا يدركه، وتلك الحيرة الميقنة بشك، ستظهر واضحة في فيلمه «حلم مدينة صغيرة» العام 1970 الشريط الذي يظهر في ظلاله شبح «أندريه تاركوفسكي» كمعلم تعتبر مدرسته السينمائية إحدى أعرق المدارس في التاريخ السينمائي؛ وهذا ما لا يخفيه صاحب «القنيطرة 74»، عندما أكد في إحدى مقابلاته الصحافية أمنيته بأن تكون السينما السورية بعمومها متأثرة بالسينما الروسية: «من سوء الحظ أنه لم يحدث أن تأثر السينمائيون لدينا بالسينما الروسية، فهي لا تنتمي بتأثرها سلباً أو إيجاباً، فالمخرجون لدينا خريجو معاهد مختلفة غربية وشرقية، فلدينا مخرجون مثل نبيل المالح جعلوا في تحقيقهم للسينما العودة للبيئة وأزمنة الطفولة.. فاذا لمسنا بعض التأثر بين أفلامنا وأفلام المخرجين الكبار امثال تاركوفسكي فأنا اتمنى ان أُشبّه بعملاقٍ مثله فهذا شيء لا يعيبني أبداً».

فيلمه الروائي الأول «أحلام المدينة» الذي أخرجه في ثمانينيات القرن الماضي وكتب «ملص» السيناريو خاصته مع زميله سمير ذكرى نال شهرة واسعة وجوائز عدة؛ كانت أبرزها في مهرجان قرطاج السينمائي، لنرى عبر هذا الشريط دمشق، الخمسينيات، من خلال عيني طفل، ترصدان التحولات السياسية التي تطرأ على عاصمة بلاده، أو بالأحرى على عائلته التي جاءت من القنيطرة إلى بيت الجد القاسي الذي آواهما في بيته. ليجد الطفل نفسه عرضة لمتغيرات عديدة: من دخوله المدرسة، إلى صدام أسرته الصغيرة مع الجد، مروراً بزواج أمه الفاشل، والحارة التي تردد أصداء الحركة السياسية الفوارة في البلد بأسرها. ينحو الفيلم إلى شاعرية جميلة في تذكر ووصف دمشق والحيــاة اليومية في حارة دمشقية؛ حياة الحب والعنف والمشاعر المضطربة والأحلام التي تتهاوى، لتتوقف الذاكرة عند احتفالات دمشق بأعياد الوحـدة بين سورية ومصر في أواخر الخمسينيات؛ لتتلو الصورة مونولوجاتها تسردها شخصيات «أحلام المدينة» كنوع من ترجمة شعرية أيضاً لمفردات الواقع، بإلإضافة لمتلازمة الصبي والجد، وأماكن التصوير التي تهب عليها دائماً نفحات ثلجية الصورة، فتشعرك بأن الشتاء مستمر خلال المرحلة الطويلة التي أعادتها بكرة الفيلم، فحتى عندما تتغير الفصول أو عندما يكون التصوير في حارات شعبية معروفة لدى مشاهدها، تزهو اللقطة بدفء خاص بها تنتجه العلاقات الدلالية بين عناصر الصورة، وهذا ما تقصده «ملص» في ذلك الشتاء الطويل بصرياً، تلك التداعيات الجوانية لشخصيات تكتسح أرواحها الهزيمة الداخلية شديدة الوطأة.

مرة أخرى ستطغى المدينة الباردة على ما أنضجته حرارة القنيطرة في مخيلته خلال سني عمره التي عاش فيها، وهو ما سوف يكتشفه من جديد عندما سيعود إلى دمشق الجارة الهشة لقنيطرته، الجارة الجائرة لأولاد قنيطرته، فدمشق تبدأ أحلامها بالغزل والدوران، لتفتتح المدينة المشطوفة باكراً بسرد حكاياها الطويلة، فتبدو الشام بما تؤسس له من وعي مخلٍّ بذهنية الفتى الريفي البسيطة أنها هي القاسم المشترك بين مختلف نتاجات «محمد ملص» السينمائية كما في فيلمه «حلب مقامات المسرة» الذي صوّره عن أحد أهم مشايخ الطرب في سورية صبري مدلل، إلا أن الحلم المشتهى بقي عالقاً في مدينة القنيطرة، مدينة مسارب الملذات الخفيفة للولد السابح في ذاكرة من فقد موجع، لتكون أحد أهم متكئات صاحب «محارم» الوجدانية في تعامله مع ملء الفراغ القابع بين عتبة السيناريو وعتبة الكاميرا، فقد أفاده في تلك المواءمة الظرفية القاسية، حسه الأدبي ونزوعه الفني الأول نحو الرواية، الفن الأكمل في التاريخ حتى اللحظة، إذ كان لملص تجربة روائية مبكرة وسابقة على سينماه، عبر كتابه «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب» أوائل السبعينيات؛ والتي نشرها في بيروت العام 1979 وفيها يروي حكاية مسقط رأسه «القنيطرة» الواقعة في مرتفعات الجولان والتي تهجّر أهلها العام 1967 مع دخول الجيش الاسرائيلي إليها.

إلى تلك الرواية سيرجع محمد ملص في فيلمه الروائي الثاني «الليل» (1992) ليحكي عبر الصورة حكاية شاب يستعيد ذاكرة أبيه الميت في القنيطرة، والذي حارب في فلسطين العام 1949. «الليل» الذي نال ذهبية قرطاج أيضاً والذي شكّل أول تجربة إنتاج سوري – فرنسي في السينما السورية؛ أعاد ملص فيه سنوات عمره أبعد إلى الوراء، كأنه بتوغّله أكثر في الزمن سيعثر على ما هو مدفون على أعماق لا يعرفها. إنها رحلة بحث عن الأب المفقود من خلال ذاكرة الأم، إعادة بناء الأحداث التي عاشتها العائلة في القنيطرة قبل مغادرتها. عبر ترميم الشوارع والبيوت والذكريات وصولاً إلى قبر الأب.

فيلم إشكالي

في العام 2005 أخرج «ملص» فيلمه الإشكالي «باب المقام» الشريط الذي قدم فيه تحوّلاً مغايراً لما قدمه سابقاً؛ متشاركاً مع الروائي خالد خليفة في كتابة السيناريو له؛ فليس على مستوى الحكاية فقط حقق ملص منعطفه السينمائي؛ وإنما على مستوى التقنية؛ حيث خاض تجربة الديجيتال ليروي وقائع قصة حقيقية عن امرأة حلبية يقتلها الأب والأخ لأنها تغني لأم كلثوم. فيلم وصفه بعض النقاد بأنه أوقع نفسه وأوقع السينما السورية، بخسارات لا مبرر لها. ربما تكون مشكلتي الشخصية مع محمد ملص كمخرج سوري حقق حضوراً هاماً على مستوى الجوائز العالمية، أنني كنت أشعر شخصياً بغربة لا أفهمها لدى مشاهدتي أفلامه، ذواكر مكتظة بأحداث بعيدة تروي سير ذواكر مكتظة أيضاً بأحداث بعيدة، أفلام لم تحتف بها السينما الشعبية بمعناها الجماهيري، أفلام وكأنها صُنعت لتنال الجوائز وتسافر إلى المهرجانات، كأنها فُصّلت لذلك، الأمر الذي لم يحصل مع مخرجين سوريين عديدين، الذين نالت أفلامهم جوائز دولية وحققت حضوراً لافتاً محلياً وعربياً وعالمياً، كما حصل مع نبيل المالح في فيلمه «كومبارس» أو مع عبد اللطيف «ليالي أبن آوى»، لا أقول ذلك من أجل المقارنة، ولكن هو سؤال برسم محمد ملص: لماذا بقيت أفلامك بعيدة عن عاطفتنا وفازت بعواطف الآخرين؟

(شاعر سوري)

قبل أن تصيب الرصاصة الكاميرا/ سامر محمد إسماعيل

لا شك بأن الحلم يشكل مادة بصرية صرفة عند صاحب «أحلام المدينة»، لكن ذلك لا يمنع من الحلول في جسد الواقع وتشريحه، هنا تفتح عدسة المخيلة على ذاكرة ملص المشتهاة، فمن سيرة الشاعر الأرمني «سيات نوفا» في «لون الرمان» لمخرجه برادجانوف، إلى روزا لوكسمبورغ، وآراء رولان بارت في الفوتوغرافيا يتبع صاحب «المنام» حيواته الأخرى، يسير على طريق فيليني مستيقظاً من نومه ليدوّن أحلامه، لكن السينمائي السوري يبرع في إنجاز اللقطات العامة، اللقطات المسرنمة لعالمه المتخيل، ففي حجرة تحميض الأحلام هذه يسترخي لمذاق مناماته، إلى تشظي اللقطة من جديد على هذا النحو؛ جاعلاً من «العين عدسة ومن الفوتوغراف مناماً». لمَ لا و«الأحلام هي الحقيقة الوحيدة» حيث تتشابك رؤيا ملص مع «جاروميل» بطل رواية «الحياة هي في مكان آخر» لميلان كونديرا، الحلم داخل الحلم، السينما داخل السينما، الصورة داخل الصورة، وهكذا إلى ما لا نهاية، ليصير من الصعب التوقف عند الصورة الأصلية، ربما هو عالم العجائب، غابة المرايا التي يسرح الكاتب بين دهاليز متاهاتها البصرية، ليتحول الواقعي إلى ما يشبه الأسطورة؛ فتبدو رغبة ملص قوية لمنتجة المصائر والشخصيات التي مرت في حياته، فمن مفكرة فيلم إلى أخرى تتكشف لحظات سحرية في حياة هذا الرجل، لا سيما عندما تشاركه فنجان قهوة صباحي في بيته أو في أحد مقاهي العاصمة السورية، سيسرد لك المخرج السوري كواليس لجان تحكيم المهرجانات السينمائية التي شارك فيها وترأس أغلبها، فمن خلال انفتاح ذاكرة ملص على أزمنة متعددة سيسرد صاحب «المنام» عن مهرجان برلين السينمائي؛ تفاصيل عن حياة عابقة بإطلالات سينما الطريق، سينما تطل منها عيونه من وراء نافذة قطار يحاذي الوجه الشرقي لسور برلين، إلى مهرجان لايبزيغ للأفلام الوثائقية عام 1986، لتعاود كاميرا الذاكرة الشخصية استعادة طريقها بين ألمانيا شرقية وغربية؛ ومنها إلى مهرجان مونبيليه السينمائي، قبل أن يدلف بكَ إلى مسامرات سينمائية عن ذاكرته الأولى عن الشام، المدينة التي ظل مصر على البقاء فيها رغم كل ما حدث ويحدث. يمضي قطار العمر السينمائي بالرجل الستيني نحو أسئلة ما زالت تشغل باله عن بلادٍ غرقت في الدم، عن الحب والمرأة، قصص الحب والجسد، المصادر الشخصية والذاتية للإحساس بالشهوة، المرجعيات المرئية والحكائية لظهور الشهوة والإحساس بها، أسئلة عن نساءٍ يُثرن الشهوة ويؤججنها عبر سنوات العمر وقطاراته المتتابعة، هي الذاكرة البعيدة لسينمائي ما زال يصوّر مناماته على إيقاع اهتزازات قطار ليلي، فكأن السينما هي بيته الذي يمضي فيمضي معه؛ حيث لا يترك صاحب «باب المقام» حياةً خارج مناماته، حتى تلك التي تطبعها الذاكرة على هيئة سخرية لاذعة تبدو في أفلامه أكثر قرباً وفق الركون إلى ساعة الحلم، تقديمها من حيث كانت قد انتهت، محاولة لتفادي معنى «الحياة كنوع من الأدب الرديء» كما يقول ماركيز، لكن المنامات تتواصل مستغرقة في زمن الحكاية السينمائية، في «الرشز» العام للعيش السينمائي كما في فيلمه عن فاتح المدرس، أو فيلمه «حلب مقامات المسرة» عن شيخ الطرب صبري المدلل. إنه تحويل الأشياء إلى رشز كما يروي المخرج السوري في كتاب مذكراته «مذاق البلح – دار رفوف 2011» بل هي مناجاة داخلية بينه وبين صديقه المخرج قيس الزبيدي، أو كما يطيب لبريخت أن يقول: «التفكير هو التغيير».

سلم إلى دمشق

التفكير بالصور أيضاً عبر مرايا متشابكة، مرايا العدسة المشعورة على أرصفة الدم المتناوب، هنا تتقلب مزاجية السينمائي الشاعر، فيرى نوافير المدينة تدفق دماً إلى الساحات العامة، لكن لماذا لم تنكسر الكاميرا؟ وهل الصورة ضد الرصاص؟ طبعاً السينما ضد الرصاص، السينما قادرة على أن تكون وثيقة عن عصر، إن لم تكن هي الوثيقة بكل معنى الكلمة. هنا أيضاً يمكن ترجيع الزمن على بكرات «سلم إلى دمشق» حيث يؤكد ملص مرةً أخرى على حاجة السينمائي إلى لقطات ولوحات وومضات متنوعة بشخصياتها وأحداثها وأمكنتها ورواياتها، إنها الرغبة بتحدي الموت الجماعي؛ الهاجس الدائم برفاق الدرب؛ عمر أميرالاي الذي يطل قبره في مشهد من مشاهد الفيلم، قبر الصديق الذي يظهر هنا غير قبر الأب المغيب في فيلم «الليل» هي الرغبة لدى محمد ملص في التوازن من جديد بين الممكن والمراد كما يقول دائماً، حتى لا يصل القلب إلى «الأربعمئة ضربة» مثلما حدث في فيلم فرانسوا تروفو، الحد الأقصى لاحتمال هذه العضلة اللاإرادية لمنبّه الموت، أو لنقل إنها السينما حبيبته التي راقصته يوماً فابتسمت له الدنيا قبل أن يفقد ابن مدينة القنيطرة مدينته التي هجاها عبر الرواية والصورة في آنٍ معاً، ويفقد معها سينما «الدنيا» التي شارك يوماً أباه في بنائها لتكون المخيال الأول لولده، المخيال الذي جعل من محمد ملص اسماً مهماً في الوعي السوري المعاصر، وذاكرةً لزمن لن يتكرر في عصرٍ يصر فيه القاتل على إطلاق الرصاص على الكاميرا.

(كاتب سوري)

————–

وصايا السينما/ بشار ابراهيم

ليس من المبالغة في شيء، القول إن فيلم «أحلام المدينة» أحدث انقلاباً في سياق السينما السورية، وانتقل بها من حيّزها السوري المحلي، الذي دارت في فلكه على مدى عقد ونصف، منذ أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات من القرن العشرين، ووضعها على خارطة الاهتمام العربي، جديرةً بالاحتفاء والتقدير. بل إن الفيلم صنع عتبة فنية عالية، بات من العسير تجاوزها.

لا يُفلت ملص واقعية الحكاية، المُستلهمة من ذاكرته الطفلية، التي شهدت خمسينيات القرن العشرين بعيني الطفل الذي كانه، في الوقت ذاته الذي ينحو به نحو صياغات سينمائية جمالية حافلة بالشعر والدلالات والتعبيرات، التي تمنح الفيلم حياة وحيوية، تأخذ بوجدان المشاهد إلى مناطق يتعلّق بها، حتى لو لم يعايشها بنفسه، ويتلظّى بأوارها، في مزج مُحكم ما بين التوق العظيم إلى الأحلام الكبرى، وقسوة الخيبات المؤسفة في الواقع السياسي والاجتماعي والنفسي، تلك التي تنكشف عن القمع والقهر وقلّة الحيلة، في مشاهد رائعة باتت أيقونات سينمائية، سنجد ملص نفسه يلجأ إلى محاكاتها، في أحدث أفلامه «سلّم إلى دمشق» 2013.

المنام

وفي منتصف المسافة ما بين فيلمه الروائي الطويل الأول «أحلام المدينة»، وفيلمه الروائي الطويل الثاني «الليل»، اشتغل ملص على فيلم وثائقي متوسط الطول (45 دقيقة)، جاء بعنوان «المنام»، عام 1988، بإنتاج مشترك بين «دائرة الثقافة والإعلام» في منظمة التحرير الفلسطينية، وشركته الإنتاجية «مرام للسينما والتلفزيون». فيلم «المنام» وثائقي، هام بفكرته وتنفيذه، على المستويين المضموني والفني، إذ يبحث المخرج محمد ملص بفنية صافية عن تلك الأحلام التي تغزو الفلسطينيين في نومهم؛ فمن خلال أحلام الليل عندهم، نكتشف أو نستقرئ أحلام النهار، في فيلم متماسك مؤثّر، يُحسن توظيف الكلمة، والصورة، والموسيقى، والأغنية، والقصيدة، والنصوص القرآنية.

من خارج النسقية الروائية المكتوبة، أو المحكية الشفوية الفلسطينية، الطافحة بتحليلات أو يقينات أو تأكيدات، يجيء فيلم «المنام» لا ليضيف شيئاً إلى السردية الفلسطينية، المُتبناة، ولا ليحاكمها، أو يمتحن علاقتها بالتاريخ الذي يصنعه الكثيرون، سواء من الفلسطينيين بدمهم، أم غيرهم برصاصهم أو بأموالهم، بل إنه ينتهج روايته في سياق مفارق ومواز؛ حُلُميّ، وربما مُستجدى برغبات ومطامح وتوق، يتكوّن في عقلية حاضرة، ولا يتجاوز الراهن، بل يتأمّل فيه، ليقفز إلى المأمول، وليداخل في تلك الرواية الُممكن الواقعي الحياتي، بالمرصود المأمول المُشتهى. ثمة ما يشي بتجاوز تفاصيل الواقع الثقيل، إن لم يكن بتغييره، فبحلم تغييره، على الأقل.

الليل

بمرور عشر سنوات على «أحلام المدينة»، بدا واضحاً أن ملص يزمع إنجاز ملحمته السينمائية التالية. فيلم «الليل»، عام 1993، وبتعاون فني لملص مع المخرجين أسامة محمد وعمر أميرالاي وقيس الزبيدي، حمل طموحاً سينمائياً كبيراً، إلى درجة أرهقت الفيلم نفسه. استلهام من مرجعية سينمائية عالمية، وغوص في ثنائية الواقعي والحُلُمي، الحاضر والمُشتهى، الحكائي والرؤيوي، وكسر نادر للسياقات السردية المُعتادة، مع حشد بصري باذخ، أفضى إلى فيلم خاص، يحتاج مشاهداً من طراز أكثر خصوصية.

يقدم فيلم «الليل» مدينة القنيطرة بحبّ كبير، وذاكرة فياضة. القنيطرة في ثلاثينيات القرن العشرين، الملأى بالناس الطيبين، كما بالملوثين بالطمع والجشع، بالأمكنة الودودة. القنيطرة التي باتت محطّ قوافل المتطوعين الذاهبين إلى فلسطين، ستكون الإطار الذهبي لذاكرة الإنسان، وذاكرة المكان، وذاكرة الحدث. هذا الذي يأتي استمراراً لنظرة ملص في فيلم «أحلام المدينة»، عندما توغّل في أحياء دمشق القديمة وحاراتها الشعبية، وليشهد على براعة العين السينمائية، التي تأخذ تشكيلاتها طعماً حلواً حيناً، مرّ المذاق حيناً آخر، اتكاء على فرحنا وحزننا، انتصارنا أو هزيمتنا.

يظهر الطفل، مرة أخرى، في «الليل»، إنه المحتقن بالذاكرة الطازجة، كما بالذاكرة المُشتهاة. هذا الحضور الرؤيوي الذي يمثله الطفل، ويعيد من خلاله سرد حكاية الأب والأم والأسرة، المكان، الوطن، الأحداث، والتفاصيل الصغيرة والكبيرة، ذاك ما بات أسلوباً لدى ملص. الطفل هنا شاهد على هذه الوقائع ومفرداتها، وحامل لها إلى أفق آخر، وزمن آخر هو زمن هذا الطفل، عندما يأتي في فيلم لم يحققه ملص بعد.

ومع اختلاف تواريخ السرد، التي بدت مُمهِّدة لما ورد في «أحلام المدينة»، في ثنائية سردية تتكامل في ما بينها، ومع اختلاف البيئة والرؤى البصرية والجمالية، لا يغيّب ملص صورة القهر، منتقلاً ما بين الأم والأب، الذي مضى مقهوراً مهزوماً. يذهب «على الله» (فارس الحلو)، في إطار أفواج المتطوعين لمقاتلة الصهاينة الطامعين بفلسطين، ويتوارى طيّ أحداث لن نرى منها إلا عودته خائباً مهزوماً، وستمتدّ هزيمته بدءاً من سقوط فلسطين، إلى سقوط القنيطرة ذاتها، وموته الملتبس.

لا شك في أن فيلم «الليل»، فيلم كبير، وإن لم يتحقّق له النجاح الذي أصابه «أحلام المدينة»، للعديد من الاعتبارات الفيلمية، وغير الفيلمية، بل يمكننا القول إن في «الليل» دروساً سينمائية تستحقّ التوقّف عندها، وتملّيها.

الاقتراب من المحظور

ومع «فوق الرمل تحت الشمس»، عام 1998، يعود محمد ملص مرة ثالثة إلى صناعة الفيلم الوثائقي. فيلم بقي محدود المشاهدة، خاصة في سوريا، يتمّ تداوله على هيئة منشور سرّي، وهو يتناول واقع معتقلي الرأي السوريين، ومعاناتهم وأهليهم بسبب التغييب القسري، خلف قضبان الاعتقال السياسي. حكايات مريرة يتناوب بعض من خاضوا هذه التجربة على قولها، في صياغات سينمائية تنفر من الواقعية، وتقترب من الشاعرية، على رغم المأساة الطافحة التي ينثرها الفيلم في وجوه مشاهديه.

«فوق الرمل تحت الشمس»، محاولة سينمائية نادرة للاقتراب من المحظور والمسكوت عنه في سوريا الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين. فيلم كان يمكن له أن يضع المخرج محمد ملص على قائمة «الملعونين» رسمياً، لولا أن الفيلم قُوبل بالتجاهل والنكران، وكأنه لم يكن، إلى درجة أن خلت فيلموغرافيا المخرج منه، في كثير من المصادر، الرسمية السورية، وغير الرسمية، في غير موقع، تماماً في الوقت الذي يمكن اعتباره وثيقة سينمائية على قدر كبير من الأهمية، والحضور، إلى درجة أنه سيكون أحد مفاتيح فيلم ملص الأحدث «سلّم إلى دمشق».

ومع «باب المقام»، 2005، و«المهد» 2006، يمكن القول إن محمد ملص ذاق طعماً لا يروق له، ولا راق لنا. تجربتان جاءتا ملفّعتين بالمشاكل التي أمكن لها إلقاء ظلالها على وهج حضور المخرج وتميزه وتألقه.

سلم إلى دمشق

في «سلّم إلى دمشق»، عام 2013، التجربة السينمائية الأحدث للمخرج محمد ملص، التي تعاون فيها مع السيناريست سامر محمد إسماعيل، تتكثّف الخلاصة السينمائية التي أرادها ملص. عودة إلى تناول الراهن، منظوراً إليه من خلال رؤية ملص للأحداث، وموقفه منها، وعبوراً لأفلامه جميعها، في استعانات مشهدية وبصرية واضحة، تعيدنا إلى غير فيلم حققه محمد ملص، من قبل.

على إيقاع ما يدور في سوريا الآن، يلتقط ملص شخصياته الواقعية، من شباب وصبايا، ويضعهم في بيت واحد، واضح الدلالة، عليه أن يقبلهم ويضمّهم جميعاً، على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وأهوائهم وهواياتهم، كما على اختلاف مرجعياتهم ومصائرهم وأقدارهم. تدور الحرب على حافة البيت، الذي نعيش جلّ الفيلم فيه، متنقلين ما بين غرفه، والمقيمين فيه. تتصادى الحرب في الأسماع، دون أن نراها. حرب نعيشها، وتتهدد مصائرنا جميعاً، والكارثة بالانتظار.

ومن خلال عاشق لها، يحوّل ملص السينما مسباراً كاشفاً لما كان، وما سيكون. مزج بصري بين الواقعي والسينمائي، ولجوء إلى ألعاب بصرية، ستبدو نافرة عن مدرسة ملص السينمائية، ولا مبرر لها سوى التحايل على ضيق المكان، وضيق الروح، يعزّز ذلك الاستنتاج أيضاً استعانته بلقطات وثائقية، من واقع الحرب السورية، تروم تصعيد الحالة السينمائية الهادئة، المعروفة عادة عن ملص، إلى مستوى الصراخ البصري، الذي تتلوه صرخة صوتية عالية، أقرب إلى الزفرة الأخيرة.

وصية سينمائية؟.. ربما نعم. وصية سياسية؟.. ربما نعم. وفي الحالات جميعها، بدا واضحاً أن المخرج محمد ملص يعود مع «سلّم إلى دمشق»، إلى نفسه، وذاته، وإلى ظاهرته السينمائية. يعود إلى دمشق، ويعود إلى الدراما الاجتماعية، للناس العاديين، ويعود إلى السياسة، ويعود إلى الحرب، ومع هذا كله يعود إلى منابعه السينمائية، التي نهل منها، واتكأ عليها، وبنى بها سيرة سينمائية متميزة، لمخرج سوري وعربي كبير.

(ناقد سينمائي فلسطيني)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى