صفحات الناس

التمثيل بجثة مقاتلة كردية –مقالات مختارة-

 

 

بارين كوباني والوحوش التي في داخلنا/ بكر صدقي *
ثمة أخبار تستثير ردود فعل، وتكشف الغطاء عن نوازع أشد هولاً من الأحداث التي انبثقت منها. لذلك هناك دائماً جهات خبيرة في تسريب أخبار بعينها، أو اصطناع أحداث، أو فبركة أخبار كاذبة، تعرف مسبقاً ما يمكن أن تؤدي إليه من ردود فعل، لمعرفتها بنوازع كامنة موجودة لدى الجمهور المستهدف. يمكن أن نذكر، على سبيل المثال، ردود الفعل على صدور رواية سلمان رشدي الشهيرة “آيات شيطانية” أو الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة لرسول المسلمين التي نشرتها جريدة دانماركية. ففي الحالتين كان يمكن أن يمر الحدثان بلا ضجيج، لولا حرص جهات معينة على إيصال خبرهما إلى الجمهور المستهدف. فهو جمهور لا يقرأ روايات، وبخاصة إذا كانت منشورة بلغة أجنبية، ولا يتابع صحفاً، وبخاصة أنها صادرة في بلد بعيد عن “مركز العالم” إذا جاز التعبير.
ليس المقصود بهذه المقدمة التشكيك بحادثة التمثيل، أو التنكيل، بجثة المقاتلة الكردية بارين كوباني، ففي بيئة الحروب الدائرة على الأراضي السورية، ارتكبت كل أنواع الفظاعات التي يمكن تصورها، أو لا يمكن تصورها. كما أن الحروب السورية ليست فريدة من نوعها في باب الفظاعات، فقد حدث الكثير مما يماثلها أو يفوقها في التاريخ، سواء في الحروب النظامية بين جيوش دول، أو الحروب الأهلية، أو الثورات التي لم تكن، غالباً، سلمية أو “ملونة”.
بل المقصود هو أن نشر مقطع الفيديو الذي وثق لتعامل مقاتلين سوريين في قوات عملية “غصن الزيتون” التركية مع جثة مقاتلة كردية في قوات “وحدات الحماية” بطريقة مثيرة للاشمئزاز، قد أدى الغاية منه: استثارة غرائز بهيمية عند جمهور مهيأ وجاهز سلفاً للتعاطي مع هذا النوع من الأخبار، بما يرفع منسوب الكراهية للآخر، وقوداً مثالياً لاستدامة الحروب السورية المدمرة.
فما استطعت رصده من ردود الفعل، أظهر غرائز كراهية مخيفة لم تعد تأبه للتستر بأي غطاءات تجميلية. ثمة اصطفاف مسبق بين من وقفوا مع الغزو التركي لعفرين، ومن وقفوا ضده، مع وجود هامش ضيق لأولئك الذين تنازعتهم دوافع متناقضة أكثر تعقيداً بقليل. وكان للسجل المشين لحزب الاتحاد الديموقراطي، في سوابق حروبه وسلطته حيثما سيطر، دور كبير في مواقف الأفراد والجماعات السورية من الحرب التركية على عفرين، وإن لم يكن العامل الوحيد وحتى الرئيسي. لكن استعادة هذا السجل استثار استعادة مقابلة لسجل الحروب على المناطق الكردية منذ معركة رأس العين في العام 2012. وهكذا دخلنا دوامة منطق الثأر الذي لا يمكن الخروج منه بسلام، بل هو يراكم مزيداً من الأحقاد والكراهية المتقابلة بين عرب وكرد.
كان لافتاً لدى الطرف الكردي في حملة الكراهية الراهنة، الهجوم على “الثورة” و”الجيش الحر” أكثر من الهجوم على “العرب القومجيين” أو “العرب السنة الدواعش” كما في سوابق الحملات المشابهة، وذلك بنسب فظاعة التمثيل بجثة المقاتلة لقيم الثورة والجيش الحر. وهذا مما يشير إلى نوازع قطيعة مبكرة مع ثورة السوريين في 2011، لم تكن تمتلك الجرأة على الظهور العلني، وجاءتها الفرصة اليوم. كما يشير إلى الجهة المستفيدة من هذه الحفلة الهمجية.
وفي الطرف الآخر ركزت الحملة على سجل انتهاكات الحزب الكردي وقواته المسلحة، كما على اصطفافاته السياسية أو “إرهابيته” المزعومة، من غير أن تخفي عداءها الأصلي المكشوف لـ”للنزعة الانفصالية الكردية”، وذلك بسبب موقفها الدفاعي، هذه المرة، عن شناعة لا يمكن لإنسان سوي أن يبررها.
“أين كنتم حين استعرضت قوات وحدات الحماية الكردية جثث مقاتلي الجيش الحر في عفرين؟” هكذا يبرر المشاركون في حملة الكراهية، من أحد طرفيها، بهيمية ذلك المسلح الذي يضع قدمه فوق صدر جثة بارين المعراة. أو يقول آخر: “إنها مقاتلة انفصالية، وليست مدنية” وعقله الصغير غير قادر على رؤية تلك الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن وحدات الحماية تخوض اليوم، في عفرين، واحدة من معاركها القليلة المشرفة دفاعاً عن أرضها ضد جيش الغزاة والمرتزقة السوريين المرافقين لهم.
في حين أن قادة حملة الكراهية من الكرد، يستثمرون مقطع الفيديو، ليس لإدانة العمل الشنيع الذي تصوره، بل ليقولوا بلا لف أو دوران: “هذه هي أخلاقهم” وكأن “أخلاقنا” لم تتلوث بأعمال شنيعة في السنوات السابقة.
لفت نظري أيضاً وجود نساء لم يخجلن من تبرير التمثيل بالجثة، إما بصراحة أو مداورةً من خلال التشكيك بصحة الفيديو. في حين أن الحادثة تنطوي، أيضاً، على جانب يهم المرأة بوصفها كذلك، أي بمعزل عن كل السياق السياسي.
ولم يسلم المستوى السياسي من لوثة الجنون هذه، فبعدما أيد الائتلاف المعارض صراحةً الحرب التركية على عفرين، وتبناها بوصف المرتزقة السوريين الملتحقين بالجيش الغازي بأنهم “جيش وطني” يأتمر بأوامر الحكومة المؤقتة (!) أصدر بياناً مخزياً آخر بخصوص مقطع الفيديو موضوع حديثنا.
مهما امتدت المأساة السورية، لا بد لكل هذا أن ينتهي في يوم من الأيام، كما سبق لمآسي شعوب أخرى كالأرمن واليهود والفلسطينيين والكرد أن انتهت، أو ستنتهي. تقصدت ذكر أمثلة ما زالت آثارها المؤلمة إلى اليوم، على رغم مرور زمن طويل على وقوع أحداثها الأصلية، لأنها لم تعالج بطريقة صحيحة ولا عادلة، لأقول إنه حتى مآس كبيرة وممتدة في آثارها إلى اليوم، أصبحت، أو ستصبح، جزءاًس من الماضي. فالتوق إلى الحياة هو ما يدفع الإنسان دائماً إلى البحث عن صيغ الاستقرار والأمان وعادية الحياة، حتى قبل الحرية.
حين ينتهي كل هذا الألم والجنون، سنقف ونقول: ليتنا لم نتفوه بذلك الكلام.
*كاتب سوري
بوابة سوريا

 

 

 

التمثيل بجثة مقاتلة كردية: الحرب السورية بنسختها الثانية/ وليد بركسية

لا طائل من التباكي على المقاتلة الكردية بارين كوباني التي سقطت قتيلةً في عفرين قبل أيام، ولا جدوى من الحزن الإلكتروني بعد التمثيل بجثتها في مقطعي فيديو شنيعين، من قبل مقاتلين في القوات السورية المشاركة في حملة “غصن الزيتون” التركية المستمرة للأسبوع الثاني على التوالي. فالعواطف في حد ذاتها عاجزة أمام مشهد عنيف آخر ينجرف ضمن تيار الحرب السورية الذي يأخذ منعطفات متتالية من دون بوادر للتوقف.

وإذا كانت العواطف التي يتم التعبير عنها في مواقع التواصل الاجتماعي، محقة في غضبها بسبب همجية الحدث، إلا أنها في الواقع تمثل التعبير الأسرع عن أحقاد جديدة تتشكل بالدماء والعنف، تمهيداً للحرب السورية في مرحلتها الثانية، مع التسليم بانتهاء الثورة السورية منذ سنوات، بعوامل متعددة منها عسكرة الإسلاميين الذين يلعبون البطولة في مقطعي التمثيل المروعين، والذين شكلوا كتائب تماهى الكثير منها إلى حد كبير مع التنظيمات التكفيرية مثل “داعش” و”القاعدة”، وبعضها تمايز عنها في الوقت نفسه، ناهيك عن إحجام الولايات المتحدة عن دعم تلك الجماعات المعارضة للنظام، وتوجيهه نحو دعم الأكراد كشريك ضد “داعش”.

يتجلى هذا الإحساس العام باللاجدوى للكلمات والعواطف أمام بطش الأفعال، في ردود الأفعال الإلكترونية عبر السوشيال ميديا نفسها. بعضها أتى باهتاً وراضخاً بل وحالماً بالعودة إلى حقبة ما قبل الحرب في البلاد، حينما كان هذا المستوى من العنف “قصصاً” من أماكن بعيدة من العالم أو في معتقلات النظام السوري التي لا يجرؤ أحد على التفكير فيها أو الكلام عنها أصلاً. والبعض الآخر من التعليقات جاء مروعاً في تبريره للجريمة، عطفاً على عنصرية عرقية ضد الأكراد، كما أن هناك من أعطى الجريمة نفسها بُعداً “تاريخياً” كالقول بأن “الأكراد عندما أتوا إلى سوريا قبل مئات السنين قاموا بعمليات تعذيب عرقي ضد العرب”. أما في الجانب الكردي، فإن الدعوات للانتقام كانت بارزة بشكل واضح… وتدور الدائرة.

والحال أن الحديث عن الوحشية والذكورية والإسلاموية ونهاية الثورة، في التعاطي مع المشهد، قاصر بالضرورة. ليس في تجاهله للعنة السوريين المستمرة مع هذا النمط من العنف المتراكم لدرجة تحولها إلى قَدَر. بل لأنه يتجاهل معطيات أساسية في سير الحرب السورية مجدداً نحو منعطف زلق آخر، تحولت فيه القوى السورية المحلية التي تقتل بعضها بعضاً وتمثل في الجثث، كما في الفيديو، إلى قوى وكيلة لقوى خارجية متنافسة على النفوذ.

وإن كان الصراعان الأقدم والأطول في سوريا، يتجهان إلى النهاية، أي الحرب ضد “داعش” والثورة ضد النظام، إلا أن الحرب والصراع لا يغادران البلاد فعلياً بل ينتقلان إلى المستوى الثاني فقط، مع تغير أجندات الأطراف، ومحافظتها على الدرجة نفسها من العنف الظاهر في مقطعي الفيديو الأخيرين، واللذين يمكن تلمس نماذج مماثلة لهما  طوال سنوات الحرب السورية، مع اختلاف هوية القائم بالتعذيب أو التمثيل، كالنظام أو “داعش” أو المعارضة أو حتى القوات الكردية نفسها.

ويجب القول هنا، إن مقطع الفيديو والتعليقات عليه، إثبات آخر على أن فكرة نهاية الحرب الأهلية في سوريا، والتي تكررت بشكل مبتذل طوال الأشهر الأخيرة، لم تكن صحيحة تماماً في النهاية. فسوريا التي مزقتها الحرب، توقفت عن الوجود كدولة بالمعنى الطبيعي لصالح تحولها إلى ساحة معركة بالوكالة يتبادل فيها الأطراف الولاءات والتحالفات. وحتى لو كانت الديناميات التي تقود الصراعات المتداخلة في الحرب السورية، تتجه إلى نهايتها، فإنها لا تولّد مستقبلاً سلمياً ومنظماً للسوريين الذين يعانون معاناة طويلة. وبدلاً من ذلك، تنشأ صراعات جديدة فوق أنقاض الصراعات القديمة، مدفوعة بهذه الكمية من الدم السوري المسفوك الممتزج مع غضب وأحقاد عرقية وتاريخية، ما يخلق شكاً عميقاً في ما إذا كان المشاركون في الحرب السورية قريبين فعلاً من “استنزاف أنفسهم”.

كمية الفظائع المتوالية منذ العام 2011، من أي طرف كان، لا تدع مجالاً كبيراً للغفران والمصالحة. وحتى لو انتهت الحرب، بالاسم، ستبقى آثارها النفسية والاجتماعية ماثلة لأجيال، كأحقاد لا تموت. هذا، إن تخلت الأطراف المتنازعة عن فكرة القتل الجماعي والرغبة في إبادة الآخر وتصفيته كحل ينهي تلك “المشكلة البسيطة”، مع إدراك كل طرف بأن الطرف الآخر لا يمكن أن يغفر له مستقبلاً.

المدن

بارين كوباني ضحية أجندات ثأرية في حرب عفرين/ إبراهيم اليوسف

أثار الفيديو الذي نشرته مجموعة من مقاتلي- الدرع البشري السوري – للجيش التركي الذين ينسبون أنفسهم إلى الجيش الحر، وبموافقة من الائتلاف الوطني والحكومة السورية الموقتة، الكثير من ردود الأفعال على صفحات التواصل الاجتماعي، بين مدين ومؤيد لما أقدمت عليه تلك المجموعة التي راحت تمثل بجثة المقاتلة الكردية بارين كوباني، إذ تم تعريتها، وبتر بعض أعضاء جسدها، وبقر بطنها واستخراج أحشائها بوحشية تقشعرُّ لها الأبدان، وتكاد تكون غير مسبوقة.

والاسم الأول للمقاتلة بارين يعني بالكردية «العويل/ الصرخة، كما أن اسمها الثاني ينسبها إلى مدينة» كوباني»/ عين العرب، وهي إحدى المقاتلات اللواتي انخرطن ضمن قوات «ي ب ج» للدفاع عن عفرين التي تعرضت للعدوان التركي في العشرين من كانون الثاني( يناير) الماضي، ولما يزل أهلها يدافعون عنها، ما أدى إلى عرقلة تقدم قوات من يسمون «الجيش الحر» الذين يسبقون القوات التركية براً، كممشطين للمكان، وذلك بعد أن أحكمت هذه القوات زرع المنطقة بالألغام، وحفر الأنفاق، وتوزيع القناصة من المقاتلات والمقاتلين الذين يشهد لهم بأنهم من أمهر قناصي العالم، وفق اعتراف أحد الناطقين الرسميين لهذه القوات، على إحدى أبرز القنوات التلفزيونية العربية.

وقد ظهرت أصوات سوريين دانوا هذه الفعلة على صفحاتهم الفايسبوكية، أو عبر تغريداتهم على التويتر، باعتبار ما تمَّ جريمة شنعاء موصوفة، لاسيما إن الممثل بجثتها فتاة وإن أخلاقيات المجتمعات القبلية والعشائرية، على بدائيتها، كانت ترفض النيل من كرامة المرأة ولو العدوة، كما إن بعض المؤيدين لهذه الفعلة النكراء انطلقوا من أن الكرد كفرة، وإن مقتل هذه المقاتلة هو رسالة إلى الكرد، بل إن بعضهم راح يسوّغ لهذه الجريمة بأنها عبارة عن رد على عرض قوات «ي ب ك» جثث عدد من المقاتلين الذين دفعتهم تركيا إلى استهداف عفرين في نيسان(أبريل) العام 2016.

وبغضِّ النظر عن أن ما تم آنذاك من عمل مدان كان عبارة عن عرض من قبل مجموعة صغيرة من هذه القوات الكردية، وتمت محاسبتهم، كما أعلن عن ذلك مصدر رسمي في الاتحاد الديموقراطي، ولم يتم التمثيل بجثث هؤلاء، كما أنه لم يكن بين تلك الجثث أية امرأة، بعكس ما تم من قبل القوات التي تنسب نفسها إلى» الجيش الحر» بعد أن تمت تصفية فكرة الجيش الحر، لأسباب عديدة بعد اختراقه من قبل جهات عديدة.

وقد تلقت الأوساط الكردية هذا الفيديو الذي بزَّ ما كان يقوم به داعش، بالكثير من الألم، لأن هذه المجموعة التي ارتكبت هذا العمل الشنيع،، لم تراع مشاعر الملايين من الكرد الذين يعتبرون اليوم كل من يدافع عن عفرين، بغض النظر عن أي خلاف سابق، أو راهن، بين الاتحاد الديموقراطي الذي يتحكم بمصائر الكرد في كانتونات: عفرين- الجزيرة- كوباني، بل على رغم الأذى والأضرار التي لحقت بهم، نتيجة سياسات هذا الحزب الذي يتصرف وفق رؤيته، من دون سواه، ممن يختلفون معه.

وفي المقابل، فإن عدداً من المتحمسين من الناشطين الكرد واصلوا إلقاء اللائمة على المجلس الوطني الكردي الذي لايزال عضواً في الائتلاف الوطني، مطالبين إياه بالانسحاب منه، ليرد عليهم آخرون بأن أعضاء الكتلة الكردية في المجلس الوطني السوري- سابقاً- ومثلهم في الكتلة الكردية في الائتلاف-الآن- هم وحدهم من واصلوا نقد، ورفض الفصائل الإسلاموية المقاتلة، على رغم أن كثيرين حتى ممن يحسبون من غلاة العلمانيين في الائتلاف ظلوا ساكتين، إرضاء للإخوان المسلمين وتركيا. كما أن هناك من راح يقول: مع من سيتحالف المجلس الوطني الكردي إذا انسحب من الائتلاف، بعد أن سدّ الاتحاد الديموقراطي عليه كل منافذ العمل في داخل الكانتونات التي يديرها، ولما يزل بعض قادته وأعضائه في سجونه، ومن بينها: سجون عفرين؟!

من هنا، فإن في كل بيت كردي، سواء داخل حدود الوطن، أو في الشَّتات، ثمة مناحة، إذ بات اسم: بارين كوباني يتردد صداه، بألم، حيثما كان هناك كردي، وثمة أمور عديدة يمكن تناولها، هنا، أولها ثقافة الكراهية التي انتشرت بين السوريين، وسببها الأول، كما في حالة من تم إعدادهم للعب دور»الدرع البشري» للجيش التركي هو عامل التمويل، إذ إن كل فرد من هؤلاء المقاتلين يتلقى مبلغ ثلاثمئة دولار- فحسب- وهو عمل موسمي موقت، يتخلى خلاله هذا المقاتل عن الكثير من المقومات الإنسانية، ويتحول إلى وحش كاسر، ينقضُّ على من يتم توجيهه إليه، ليكرس بدوره الشقاق والقطيعة بين المكونات السورية، وبما لا مصلحة للسوريين فيه، إذ إنه يخدم أجندات ثأرية في دولة مجاورة، تستبق حربها، الافتراضية، من دون أية مواجهة أو اعتداء على حدودها، ومواطنها، وأمنها الوطني أو القومي؟!

* كاتب كردي سوري مقيم في ألمانيا.

الحياة

لغز جسد المقاتلة الكردية “بارين كوباني” المشوه

بي. بي. سي.

طوال الساعات الماضية اشتعل نقاش حاد بين سوريين على تويتر وفيسبوك بعد تداول مقطعي فيديو قصيرين – الأطول منهما لا يتجاوز 70 ثانية – تظهر في أحدهما جثة مدماة ومشوهة لمقاتلة كردية قرب مدينة عفرين شمال سوريا.

وتركز الجدل حول ما إذا كانت المقاتلة قد فجرت نفسها ما أدى إلى تشويه جسدها، أم أن رجالا من فصائل المعارضة المسلحة قاموا بقطع ثدييها والتمثيل بها.

لكن صباح حلاق، وهي من رابطة النساء السوريات، تقول لبي بي سي إن النقاش يجب أن يكون أبعد من طريقة تشويه جسد المقاتلة.

وتقول: “أعتقد أن وضع الصورة ذاتها أكبر غلط ارتكبوه.. عرض الصور يثير الأحقاد. حتى لو كانت مقاتلة، إن عرض الجسد بهذه الطريقة ووجود قدم على الثدي فيه مسأله فاقت الوحشية والهمجية التي وصل لها الناس. وللأسف هناك من يشجع هذا العمل”.

روايتان

يظهر الفيديو الأول امرأة ملقاة على الأرض تبدو مرتدية ثيابها وهي محاطة بمسلحين يصرخون ويصفونها بـ “خنزيرة PKK (حزب العمال الكردستاني)”، ويقولون إنهم ينتقمون لمن قتل سابقا من رفاقهم، في حين يظهر جسد مرأة – يعتقد أنها ذاتها التي ظهرت في الفيديو الأول – في الفيديو الثاني عاريا في النصف الأعلى ومضرجا بالدماء، ويدعس أحد الرجال عليها وتحديدا على منطقة الصدر.

كما يظهر غصن شجرة زيتون ملقى على جثة المرأة.

وكانت تركيا قد أطلقت قبل نحو أسبوعين عملية عسكرية سميت بـ “غصن الزيتون” بالتعاون مع عدة فصائل سورية معارضة ضد ما تقول إنها معاقل المسلحين الأكراد في عفرين.

عرّفت مصادر كردية محلية المرأة بـ “بارين كوباني”. وكان رد الفعل الكردي متوقعا؛ حيث نعاها كثير من الأكراد على وسائل التواصل الاجتماعي مطلقين عليها لقب “بطلة” و”شهيدة” و”قديسة”.

كما انتقدت بشدة نساء سوريات – غير كرديات بالضرورة – “التمثيل بجسد النساء”.

وفي اتصال مع بي بي سي، أكد أحمد بريمو، مؤسس موقع “تأكد” المتخصص بنفي المواد الإخبارية الخاطئة وتصحيحها، أن من تظهر في الفيديو هي مقاتلة كردية، وأن المقاتلين حولها هم من عناصر المعارضة السورية المشاركة في عملية “غصن الزيتون” التي تقودها تركيا.

لكنه قال إنه لا يستطيع تحديد يوم الواقعة التي “حدثت منذ أيام قليلة في محيط مدينة عفرين”.

وقال: “الفيديو مؤكد، لكن نقطة الخلاف هي سبب تشوه جثة المقاتلة؛ حيث يتهم كثر مسلحي المعارضة بالتمثيل بجثة المقاتلة وتشويه ثدييها. لقد تواصلت مع غرفة عمليات غضن الزيتون من الجانب السوري والتي نفت قيام عناصرها بالتمثيل بالجثة وتقطيع الأوصال، كما قالت المصادر لي إن المقاتلة هي من قامت بتفجير نفسها بواسطة قنبلة يدوية كانت معلقة على سترتها العسكرية”.

لكن نواف خليل، مدير المركز الكردي للدراسات بألمانيا والمتحدث السابق باسم حزب الاتحاد الديمقراطي، نفى لبي بي سي المزاعم بأن المقاتلة قامت بتفجير نفسها وقال إنها كانت قد وقعت بيد قوات المعارضة. وقال إن تلك المزاعم “محاولة لتغطية” ما حدث.

وأضاف: “ما يشاهده العالم أجمع (في المقطع) مقاتلة تقع أسيرة بيد هذه القوات ويتم التمثيل بجسدها بطريقة بشعة (..) لا توجد في العقيدة القتالية لقوات سوريا الديمقراطية عمليات انتحارية. الذين يقولون إنها قامت بتفجير نفسها يحاولون التغطية على الإجراء الذي قام به تلك العناصر المسلحة. التمثيل بالجثة واضح والكلام المبتذل الذي يمكن سماعه في المقطع يثبت ذلك”.

لكن وسائل إعلام كردية تنقل أحيانا أخبار ماتسميها “عمليات فدائية” آخرها كانت عملية قامت بها آفيستا خابورضد القوات التركية في عفرين.

رواية ثالثة

وقبيل النشر، نقل أحمد بريمو لبي بي سي عن “عقيد في القوات المشتركة لعملية غصن الزيتون” رواية “ثالثة” تقول إن “رجلين وفتاة تم حصارهم في قبو إحدى البيوت في القرية التي تم تحريرها قبل يوم أمس، وعندما رفضوا الاستسلام وقاوموا تم رمي قنابل يدوية وخلال الانفجار تشوهت الفتاة”.

وأضاف: “لم يمثل أحد بجثتها، ولم يمسها أحد بسوء، ونحن ضد حتى تصوير الجثة وضد هذا العنصر .. والقيام بالدعس على جثتها تصرف فردي وسيتم محاسبة العنصر”.

كما طلب من وسائل الإعلام أن تكون “عادلة” في نقل الانتهاكات التي يتعرض لها مقاتلو الطرفين.

في هذه الأثناء يبدو أن العمليات العسكرية في شمال سوريا ستزداد حدة بعد إعلان تركيا نيتها توسيع عملياتها العسكرية لتشمل مدينة منبج، التي انتزعتها القوات الكردية من قبضة تنظيم ما يعرف بالدولة الاسلامية (داعش) عام 2016 بدعم من الولايات المتحدة.

سوريون يدينون إهانة جثمان مقاتلة كردية ويطالبون بالمحاسبة

لم تمنع سبع سنوات متواصلة من الحرب الشرسة على السوريين، شهدوا خلالها أبشع وأعنف الجرائم، من أن تهزّ وجدانهم أمس، لقطاتٌ مصورةٌ لعناصر من الجيش الحر، وهم يهينون جثمان مقاتلة كردية من وحدات حماية الشعب، في عفرين.

ويظهر جثمانُ المقاتلة في أحد التسجيلات، ملقىً على الأرض بكامل عتادها العسكري، وسط حشدٍ من الجيش الحر، يكيلون لها كلامًا مهينًا ويتوعدون بالانتقام لعشرات الشهداء الذين سقطوا قبل نحو عامين، وجرى استعراضهم بطريقة مذلة أيضاً من قبل وحدات حماية الشعب، يوم سيطرت على عفرين.

ويرصد المقطع الثاني، تنكيلهم بجثة مقاتلة جُرِّدت من ثيابها، أحدهم يدوسها بحذائه العسكري، وعلامات التمثيل الوحشي واضحة على جسدها، ويسمع في المشهد صوتاً يأمر رفاقه “بألا يغطيها أحد”.

ولم يتمكن مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، من الجزم بأن كلا التسجيلين يعود للمقاتلة بارين كوباني، إلا أنهم سارعوا لإدانة الجريمة، ووصفوها بأنها بعيدة كل البعد عن القيم النبيلة للثورة السورية، مؤكدين تمسكهم بالكرامة الإنسانية بغض النظر عن صاحبها (عدو أو صديق)، وأن لا ذريعة تبرر التمثيل بالجثث أو إهانتها.

وكتب مازن درويش، مدير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، على صفحته الرسمية في “فيسبوك”، مؤكدًا أن التمثيل بجثة المقاتلة الكردية، ونشر الفيديو والصور، دليلٌ إضافيٌّ ليدرك السوريون كمَّ الانحطاط الذي أوصلتهم إليه الحرب في سورية، وأضاف: “واذا كنا لا نستطيع وقف هذه الجرائم أو محاسبة مرتكبيها فعلى الأقل علينا أن لا نكون شركاء بها من خلال القبول بمثل هذه التصرفات أو السكوت عنها أو المساهمة بها من خلال نشرها وتصدير خطاب كراهية وعنف عنصري يساعد على حدوثها”.

وأكد المحامي طارق حوكان، أن استعراض الجثث وإذلالها، من أحط الجرائم الإنسانية، مهما اختلف فاعلها، وأهدافها، وقال: “إن صحت واقعة التمثيل بجثة المقاتلة الكردية. فإن ما هو أبشع وأكثر سفالة من هذه الجريمة هو تبريرها بجريمة الـ pyd عندما طافوا بجثث مقاتلي الجيش الحر مدينة عفرين …طوبى للقابضين على إنسانيتهم ومن حولهم كل هذا التوحش”.

وعلّقت ندى ناصر ياغي: “تعرية المقاتلة الكردية والتنكيل بجثتها يشبه فعل اغتصاب المعتقلة السورية عند مافيا الأسد …ذات الهمجية… ذات الذكورية المريضة… ثيران وحثالات متوحشة تعبث في هذا الجحيم… سورية”.

وأوضحت ريم فاضل، أن هذه حصيلة سنوات غياب الكرامة الإنسانية خلال حكم آل الأسد، وكتبت: “لا فرق ببن جسد رحاب علاوي الشهيدة تحت التعذيب في سجون الأسد عن جسد المقاتلة الكردية العاري بعد التمثيل به..لا فرق بين مذيعة النظام كنانة علوش المشهورة بالسيلفي مع جثث عناصر الجيش الحر في حلب عن المجاهد الذي تباهى بقطع رأس أسير ذي ملامح طفولية بطريقة وحشية… وفق الادعاء والتبرير أنه من عناصر النظام ومريض بمرض التلاسيميا الذي يجعله يبدو وكأنه طفل ..لا فرق بين عناصر pyd الذين جابوا شوارع عفرين بشاحنة وضعوا فيها جثث مقاتلي الجيش الحر عن الأسرى الذين عرضهم جيش الإسلام في أقفاص بمدينة دوما ..”.

وطالب سوريون بضرورة محاسبة مرتكبي هذه الجريمة، فكتب عمار ديوب: “جريمة التمثيل بجسد المقاتلة الكردية يجب ألا تمر بسهولة. إنها ضد كل قوانين الحرب والإنسانية. من ارتكب ذلك الفعل أشخاص محددون ويجب محاسبتهم. والجريمة تجرم صاحبها فقط”.

وقال ضاحي المسلماني: “من مثل بجثة المقاتلة الكردية لم يكن أبداً ابن سورية ولن يكون ابن هالثورة العظيمة…فثورتنا ثورة حق وكرامة وأي صورة أو قول أو فعل يتنافى مع الأخلاق السامية لثورتنا هذه، فهو ليس منا ولا يمثلنا” وتابع “أطالب بالقبض على العناصر التي قامت بالفعل الشائن والتحقيق معهم وإنزال أقصى عقوبة تقتضيها أخلاق الثورة ولو وصل الأمر لإعدامهم لتجاوزهم كل المعايير وأخلاق الحرب ولابد من نشر نتائج التحقيق لنعرف من هؤلاء القتلة وما هي انتماءاتهم ودوافعهم لأن ما قاموا به عمل حيواني جبان لم نره إلا لدى جيش عصابة الأسد ومرتزقة حزب الله وشراشيح ايران”.

العربي الجديد

الشعوب السورية والجثمان/ إياد الجعفري

في لجّة الغرائز العِرقية المنفلتة في هذه الساعات، يصعب تقديم تعليق حيادي على حادثة التمثيل بجثة المقاتلة الكردية قرب عفرين. فالأصوات ترتفع، والعقول تصمت. فيما يبدو أن اللاوعي الشعبوي في سوريا، مستعد للمزيد من الانفلات الغرائزي، دون أي ضوابط. فوسائل التواصل الاجتماعي، وفرت له أفضل المنصات لذلك.

قبل أسابيع، وحينما اقترحت روسيا إطلاق تسمية مؤتمر “الشعوب السورية” على اللقاء الذي عُقد أخيراً في سوتشي، ضجت معظم الأطراف السورية، معارضة ونظاماً، رافضةً هذه التسمية. فتراجعت روسيا. لكن هل كان في التسمية تجنياً على السوريين، حقاً؟

قد يكون قَدَر سكان هذه البقعة من الأرض، أنهم شعوب متعددة، لكنهم عاجزون عن تشكيل دول مستقلة، بحكم التداخل الديمغرافي، وبحكم الحاجات المتبادلة في الموارد والمتطلبات اللوجستية لنقلها. وهو ليس قَدَراً خاصاً بهم، إذ أن عشرات الشعوب حول العالم، هي كذلك. لكن الكثير منها، خاصة في ما يُوصف بـ “العالم المتقدم”، توصل إلى وصفات تُعلي من القواسم المشتركة التي تربطهم، والتي تمحورت حول المصلحة.

في عالمنا الثالث، ومنه سوريا، ما يزال الوعي السياسي الجمعي، تقليدياً، تحكمه انتماءات ما قبل الدولة. ويتلخص في ثلاثية، العِرق، المُعتقد الديني، والانتماء المناطقي. لذلك، تجد أن التاريخ السوري المعاصر، حتى قبل تشكل سوريا التي نعرفها اليوم في عشرينات القرن الماضي، يختزن الكثير من حالات العنف المُجتمعي والأهلي المؤسس على الثلاثية المذكورة. والمشكلة الكبيرة، أن المُحكى الشعبي، العامي، الذي تناقل، جيلاً بعد جيل، قصصاً مُجتزأة ومُحرفة ومبالغاً بها، عن حالات العنف المجتمعي تلك، تحول اليوم إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ليخرج من أُطر المكون ذي اللون الواحد، ويصبح متاحاً للعموم، فتتحول السرديات الشعبية الخاصة بكل مكوّن، إلى استفزازٍ لأبناء المكونات الأخرى، ما يؤدي لتفعيل المزيد من الحقد المتبادل.

حادثة التمثيل بجثمان المقاتلة الكردية، قرب عفرين، تلك، مدانة بكل المعايير، وهي تستوجب التوقف الجدّي أمامها، وإحالة مرتكبيها للتحقيق والمحاكمة، إن ثبت صحة ما ورد في الفيديوهين المتداولين عنها. لكن، في الوقت نفسه، فإن انفلات الغرائز العِرقية على الفايسبوك، بين الكرد والعرب من السوريين، على خلفية تلك الحادثة، وإيراد أشخاص من كل طرف، لسرديات شعبية عن حالات عُنف مجتمعي وأهلي تعود لمراحل تاريخية قديمة وأخرى قريبة، تؤكد مرة أخرى، أن الروس لم يكونوا بعيدين جداً عن واقع السوريين، حينما استخدموا وصف “الشعوب”، حيالهم.

وخلال الثورة السورية، وأحداثها الجسيمة، والبشعة في بعض الحالات، كان “فايسبوك” كفيلاً في الكشف عن حجم المخزون الشعبوي المخزن في لاوعي كل مكون سوري حيال الآخر. بدءاً بثنائية السُنة والأقليات، مروراً بثنائية الريف والمدينة، وليس انتهاءاً، اليوم، بثنائية، العرب والأكراد.

وكما كان في تاريخ السوريين المعاصر، مروراً بأحداث الثورة منذ العام 2011، ما تزال القوى والزعامات ذات الأجندات الاستبدادية، تراهن على الغرائز العِرقية والمذهبية والمناطقية، في تأليب حواضنها، ضد حواضن منافسيها. أو بالعكس. بغاية تعبئة جمهورها، بصورة تسمح لها بالاستمرار في قيادة دفة هذا الجمهور، وضمان انقياده خلفها. على حساب المصالح الحقيقية لهذا الجمهور. مصالح، أقرب لشركائه في سوريا، أكثر منها، إلى قيادته المستبدة.

هكذا حال النظام وحواضنه، خاصة من الأقليات. الذين انجر الكثيرون منهم خلف البروباغندا التي أطلقها بخصوص الخطر الذي ينتظرهم مع الثورة. فاستجلبوه بالفعل، بجرائم ارتكبها بعضهم، حيال جمهور الأكثرية. وكذلك هو حال الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي ورّط الكرد السوريين في حرب عبثية مع شركائهم من العرب، ومع جيرانهم مع الأتراك.

وما بين الاثنين، نماذج عديدة من تلاعب قوى وجماعات، على وتر العرِقية والمذهبية والمناطقية، ليس بعيداً منها، تلاعب النظام المتكرر بوتر المناطقية، بين أهالي مدينتي دمشق وحلب، وبين أريافهما، عبر التأكيد على تأييد سكان هاتين المدينتين له، في مواجهة الأرياف الثائرة. وترٌ نجح النظام في شدّه، بحيث يمكن لكل مراقب أن يجد دلالات لا تحصى على حالةٍ من السلبية العالية، القائمة بين سكان دمشق وحلب، وبين أهالي الأرياف القريبة منهما، أو حتى البعيدة عنهما.

وبطبيعة الحال، لكل مكوّن سوري، سرديته الشعبية التي تؤكد مظلوميته. وفي الوقت نفسه، ترد على متهميه من أبناء المكونات الأخرى، بالمسؤولية عما وصلت إليه العلاقة بين المكونات السورية. فأهل المدن يحمّلون أهل الأرياف مسؤولية تجبُّر نظام الأسد الأب على مجمل سوريا، حينما وقف أهل الأرياف، في معظمهم، موقف الحياد، أو الدعم للنظام، في أحداث الثمانينات، على حساب أهل المدن. وتكون تلك السردية تبريراً لحياد جزء كبير من أهل المدن، بعد ثورة عام 2011.

وكذلك، يحمّل الكرد السوريون مجمل أقرانهم، مسؤولية استفراد النظام بهم، إبان أحداث العام 2004 في القامشلي. ويكون ذلك تبريراً لرغبتهم في اشتقاق سبيل خاص بهم، مع تطور أحداث الحراك الثوري في سوريا عام 2011.

فيما يرجع العلويون إلى تاريخ أبعد، فيتحدثون عن اضطهاد كبير عانوا منه في حقبة الدولة العثمانية، وقبلها المملوكية. ويكون ذلك تبريراً لرغبتهم في إحكام السيطرة على كامل سوريا، حتى ولو بالعنف المفرط، خشية أن يكون البديل، عودتهم إلى حالة الاضطهاد من جديد.

ولو بحثنا في دفاتر المحكي الشعبي في سوريا، لوجدنا الكثير، مثلاً، في ما يخص أحداث فتنة دمشق عام 1860، بين المسلمين والمسيحين. ولن نعجز عن إيجاد نماذج أخرى من القصص المحكية عن اضطهاد الكرد على يد العرب في الستينات والسبعينات، في منطقة الجزيرة السورية.

لا يعني ما سبق أن مجمل ذلك المحكي الشعبي، هو ملفق. لكن تداوله اليوم في “فايسبوك”، في سياق اتهام كل مكوّن سوري، للآخر، يقدم على أنه حقائق، برغم ما يغشاه من المبالغات والمغالطات، التي يمكن أن تجد في دفات المصادر التاريخية الموُثقة، ما يدحضها بسهولة.

ويبقى السؤال في نهاية المطاف: هل يستطيع السوريون تقسيم سوريا، كي يصبحوا شعوباً متعددة في دول عديدة؟.. نجيب على كل من يحذّر من تقسيم سوريا، أن القوى الإقليمية والدولية، اتفقت في معظمها، على استحالة هذا السيناريو، لأسباب اقتصادية – لوجستية – ديمغرافية، تجعل من هذا الكيان السوري المترهل، اليوم، قَدَراً على شعوبه، والحل الأمثل لتجاوز محنه، أن يتعلم هؤلاء سريعاً، البحث عن القواسم المشتركة بينهم، والتي لن يكون الأساس، العِرقي أو المذهبي أو المناطقي، أحدها، بل فقط، المصلحة، تلك التي جمعت شعوباً أخرى، لم يجمعها يوماً تاريخ مشترك، ولا كيان واحد.

المدن

الجثّة حين تنتصر… بصمت/ شورش درويش

تناقل العديد من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً مصوّراً يظهر جثّة مقاتلة كردية تدعى بارين كوباني تنتمي إلى وحدات حماية المرأة في عفرين وقد تمّ تجريدها من ملابسها وقُطع ثدياها بينما يتحلّق حولها رهط من مقاتلي الجيش الحر مبتسمين يشتمونها ويركلونها بالأرجل.

صور التمثيل بالجثث ملأت المشهد السوري منذ بداية الاحتجاجات، فمن صور أفراد النظام وهم ينكّلون بجثث مقاتلي المعارضة، مروراً بقيام أحد مقاتلي المعارضة، ويدعى أبو صقار، بمضغ قلب مقاتل في جيش النظام ينتمي إلى الطائفة العلويّة، وصولاً إلى بقيّة المشاهد المماثلة التي يعزّ ذكرها والتي ربّما نال بعضها نصيباً وافراً من التبرير، إن لم نقل من المديح والافتتان.

ركنت الحكومة التركيّة في مسعاها إلى احتلال عفرين عبر عملية “غصن الزيتون” إلى تجميع عناصر الجيش الحر لتكون ذراعها البريّة التي ستنفّذ الهجوم، وهذا هو الجيش الحر بشحمه ولحمه، من دون أن نخفي حقيقته أو تكوينه، ليصبح الأمر بادياً للعيان، وهو أنّه بات أسير القرار التركي و “أمنه القومّي”.

أما في ما خصّ بثّ الحماسة في صفوف فصائل هذا الجيش فهو أمر هيّن على الحكومة التركيّة. فقد أزكت المشاعر الدينيّة في نفوس مقاتلي الجيش الحر عبر تصوير مقاتلي وحدات حماية الشعب في سورية وفي عفرين على وجه الخصوص على أنهم كفّار ومارقون وأن الحرب عليهم واجب شرعيّ.

صوت المقاتلين المتحلّقين حول الجثّة في مقطع الفيديو كان صدى لأصوات أطراف الصراع السوري، لكنه كان صوتاً جهورياً هذه المرة. فالضحية – الجثّة أنثى، وبذلك تصبح الدلالات الذكوريّة واحتقار المرأة المقاتلة جزءاً من خطاب التعالي لجمع الذكور المؤمنين العقلاء هؤلاء، وذلك على الضد من مقاتلة ميّتة هي ناقصة عقل ودين!

في المقابل، لن تجد أعمال التمثيل بالجثث رفضاً حكومياً تركيّا، بل ربّما تعمد الآلة الإعلامية المهللة للحرب إلى تجريم الضحيّة والتبرير للمشنّعين بالجثة، ومن نافل القول تذكّر مناظر سحل المقاتلات والمقاتلين الأكراد خلال تمرّدهم الأخير عام 2017 في نصيبين وسور وجزير في قلب تركيا، هذا عدا مشاهد أقدم نسبيّاً لعناصر من الجيش التركي يقومون فيها بالتمثيل بجثث المقاتلين في صفوف العمال الكردستاني عبر تقطيع الرؤوس والأوصال وجدع الأنوف وإبراز المناطق الحساسّة من أجساد الموتى. وبالتالي سيصبح انتظار ردود أفعال شاجبة من قبل الحكومة التركية على ما ترتكبه آلتها الرديفة في الجيش الحر ضرباً من ضروب الخيال مهما علت الأصوات الشاجبة في تركيا داخل أوساط المجتمع المدنيّ وجماعات حقوق الإنسان وحزب الشعوب الديموقراطي المعارض.

أسرفت تركيا في الحديث عن “الحرب العادلة” في عفرين بالضدّ من “الإرهابيين” كما وصفتهم، بينما صور الضحايا من المدنيين، ومشاهد التمثيل بالجثث وتوجيه الإهانات إلى المدنيين المشتبه بموالاتهم لحزب الاتحاد الديموقراطي، تؤكّد أن لا عدالة في هذه الحرب، لا في منطقها ولا في معناها العام ولا في شكل إدارتها، وأن الترهيب، الذي يجتمع لغةً مع الإرهاب، هو ما يمارس في عفرين الآن.

صفوة القول: قد يكون الحديث عن التمثيل بجثّة بارين سهلاً عند ربطه بانعدام الأخلاق، إلّا أن الموضوع أعقد من الصور التي بثّها المتفاخرون حول جسدها المسجّى والذي تتقاذفه الأرجل من حولها، إذ إنّنا نقف أمام سبع سنوات من العنف والعنف المضاد، من الكراهية والكراهية المقابلة، أمام كل شر وشر مماثل مقابل، وعليه قد لانعثر على كلمات تسعف المفجوعين بمنظر التمثيل هذا إلّا إذا اقتبسنا أقوالاً تبدو عاطفيّة في شكلها، كالقول إن جثّة بارين انتصرت على الأحياء الذين كانوا حولها، وبالمقياس ذاته فإن كلّ الجثث التي مُثّل بها انتصرت، وإن بصمت.

الحياة

ما بين الهيئة السياسية والفصائل: بيانات متضاربة داخل الائتلاف السوري إثر سحل جثة مقاتلة كردية/ بهية مارديني

سبّب المقطع الذي تم تداوله لمقاتلة كردية من PYD، والذي يوضح عملية قتلها والتمثيل بجثتها في عفرين، خلافًا داخل الفصائل المُكونة للائتلاف الوطني السوري المعارض.

أصدرت الهيئة السياسية في الائتلاف بيانًا، تلقت “إيلاف” نسخة منه، أدانت فيه “عمليات التمثيل بالجثث أو أي فعل إجرامي بحق الآخرين، مقاتلين كانوا أو أسرى أو مدنيين”.

حملة تضليلية

لكن الفصائل العسكرية المنضوية داخل الائتلاف ردت على البيان السابق ببيان آخر، تلقت “إيلاف” نسخة منه أيضًا، استنكر ما جاء في بيان الهيئة، وأكدت الفصائل العسكرية على أنه “كان من الأجدر من الائتلاف بصفته ممثلًا للشعب السوري وصاحب الولاية على الجيش الوطني المشكل تحت إشراف الحكومة الموقتة أن ينتظر نتائج لجنة التحقيق المشكلة من قبل وزارة الدفاع للتحقيق بالحادثة ومضمون المقطع المرئي”.

وقال فاتح حسون القيادي في الجيش السوري الحر، في تصريح خَص بِه “إيلاف” إنه بات من الواضح للجميع “أن هناك حملة إعلامية كاذبة تشن بشكل ممنهج من قبل إعلام الميليشيات الإنفصالية في سوريا، المتمثّلة في إعلام حزب الاتحاد الديمقراطي الـ(بي يي دي) وإعلام حزب العمال الكردستاني (بي كي كي)، المدعومين من إعلام دولي، بهدف الإساءة إلى الجيش الحر والجيش التركي في عملية “غصن الزيتون” في عفرين، وهذا يظهر من كثرة تداول فيديو المقاتلة الانفصالية المقتولة المحيط بها عدد من المقاتلين تم الإدعاء أنهم من قوى الجيش الحر، واعتبار ما بدى على جثة المقاتلة هو تمثيل قام به مقاتلو الجيش الحر” على حد تعبيره.

أضاف “أنه بطبيعة الحال فنحن لا يمكن أن نوافق على أي انتهاك أو جريمة حرب ترتكب في المعارك وغيرها، ونعتبر أن ارتكاب ذلك يستوجب المساءلة القانونية وإنزال العقوبة الزاجرة. لكن ما تفاجأنا به أن الإئتلاف أصدر بيانًا له بصيغة الاتهام إلى الجيش الحر المشارك في معركة عفرين من دون أن يتحقق من ذلك، ومن دون أن يتواصل مع أي من القادة المشاركين في هذه المعركة، ومنهم من هو عضو في الإئتلاف، وقد وجدنا أن بيان الإئتلاف متسرع وخاطئ، وطالبنا بسحبه والتراجع عنه، علمًا أنه تم تشكيل لجنة تحقيق بما ورد في مقطع الفيديو، وعند الانتهاء إلى النتائج سنقوم بالإعلان عنها أصولًا”.

بيانات متضاربة

وكان من الواضح الاختلاف والخلاف بين البيانين وخشية الائتلاف من خسارة الكتلة الكردية الممثلة في الائتلاف والمتمثلة في المجلس الوطني الكردي، حيث إن هذه الكتلة تطلب باستمرار دعم المواقف التي تمس الشارع الكردي.

وفِي تفاصيل بيان الهيئة السياسية بالائتلاف الوطني السوري فقد قالت فيه إن “الشعب السوري خلال سنوات الحرب قد عانى بكل مكوناته من أشكال فظيعة من عمليات قتل وحرق وتقطيع وتمثيل بالجثث على يد النظام والتنظيمات الإرهابية، وهي أعمال مدانة بلا شك. ولا يمكن أن يقبلها بشر، ناهيك عن مخالفتها لأبسط القيم والأعراف الإنسانية والمواثيق والقوانين الدولية في ما يخص الحروب والأسرى والشرائع السماوية كافة”.

وأكد البيان أنه “في الأيام الأخيرة انتشرت صور لقتل بعض المقاتلات والمدنيين الكرد في عفرين وممارسة عمليات الحرق والتمثيل بجثث المقاتلين ونهب لقرى وممتلكات الكرد الإيزيديين وتوجيه الإهانات إلى السكان المدنيين، والتي نسبت إلى بعض الفصائل العسكرية، ويستوجب تحقيقًا فوريًا لمعرفة مرتكبي تلك الجرائم البشعة”.

توجيه بالتحقيق والمحاسبة

أضاف البيان “الائتلاف الوطني يعلن إدانته كل من ساهم بهذه الأعمال الإجرامية ورفضه القاطع لأية ممارسات ثأرية من أية جهة كانت، ويدين بقوة علميات التمثيل بالجثث أو أي فعل إجرامي بحق الآخرين، مقاتلين كانوا أو أسرى أو مدنيين.. ويوجّه بفتح تحقيق فوري في ما نشر واتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة لمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم”.

وطالب الائتلاف “جميع الأطراف الالتزام بحماية المدنيين واحترام الخصوصيات القومية أو الدينية والوصول إلى الحلول السياسية والمبادرات بالحوار البناء حقنًا للدماء ولقطع الطريق أمام أية محاولة إلى صراع عربي كردي وعرقي”.

لكن الفصائل شرحت في بيانها أنه “مع العام الأول للثورة السورية المباركة، ومن أجل الدفاع عن الشعب السوري في تظاهراته السلمية، انشقت مجموعة من الضباط الأحرار عن ميليشيات الأسد المجرم، وهبت مع مجموعة من الشبان ذوي الشيمة والحمية للدفاع عن المتظاهرين السلميين من أجل حمايتهم من استهداف وبطش الميليشيات المجرمة والشبيحة لهم ولأهلهم. وحمل الجيش الحر أخلاقيات الثورة ومبادئها، وضحّى بخيرة شبابه، وذكى بدمائهم تراب الوطن السوري منذ ذلك الحين وحتى تاريخه”.

اتهام متسرع

وأوضح بيان الفصتئل المنضوية داخل الائتلاف أنه في “عملية غصن الزيتون” شاركت فصائل من الجيش الحر لإنقاذ الأهالي المدنيين من جرائم ميليشيات الـ(بي يي دي) الإرهابية، وللحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ولتأمين عودة مئات الآلاف من الذين هجّرتهم هذه الميليشيات من مناطقهم، ومن أهم التعليمات التي أعطيت إلى هذه الفصائل الالتزام بالأخلاق الثورية العالية وبتعاليم ديننا السمح والقانون الدولي والمعاهدات ذات الصلة.

واتهم البيان إعلام الـ(بي يي دي) بالكذب و”تشويه الحقائق مستغلًا مشاعر المكون الكردي الأصيل والعزيز على قلوبنا بنشر الإفتراءات على قوى الجيش الحر حتى تفاجأنا ببيان الإئتلاف تاريخ 2-2-2018م الصادر بخصوص تسريب مقطع مرئي لجثة مقاتلة اتهمت بعض الجهات مقاتلين من الجيش الحر بالتمثيل بها. وفيما كان من الأجدر من الإئتلاف بصفته ممثلًا للشعب السوري وصاحب الولاية على الجيش الوطني المشكل تحت إشراف الحكومة الموقتة أن ينتظر نتائج لجنة التحقيق المشكلة من قبل وزارة الدفاع للتحقيق بالحادثة مضمون المقطع المرئي”.

واستنكرت الفصائل ككتلة ضمن الإئتلاف تصرف الإئتلاف في عدم تقصيه للحقائق ومشاورتنا بالبيان قبل صدوره، حيث كان من الأجدر أن يطلب منا، نحن المتواجدين على أرض المعارك، أن نتقصى صحة الحادثة وملابساتها ونضعه بالصورة.

كما استنكرت الفصائل كل جرائم الحرب، مهما كان انتماء مرتكبها، وطالبت الإئتلاف بإعادة النظر بالبيان المتسرع، وانتظار نتائج لجنة التحقيق، وضرورة أخذ رأي الفصائل بكل القضايا، وعلى رأسها القضايا ذات الطابع العسكري، قبل إصدار أي بيان لاحقًا.

ايلاف

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى