صفحات سوريةغازي دحمان

التنسيق الأميركي ـ الروسي حرب إبادة/ غازي دحمان ()

 

 

لم يعد خافياً حجم الأضرار التي بات يرتبها التنسيق الأميركي- الروسي في سورية، والعراق بدرجة أقل، حيث تدوس ماكينات القوتين الحربية مكونات اجتماعية كبيرة كما تعمل على تدمير التوازنات القائمة بذريعة الحرب على الإرهاب وأدواته، والتي بات يندرج في إطارها طيف واسع من القوى والتشكيلات العسكرية والسياسية والبنى الاجتماعية والتي لا علاقة لها بالإرهاب وإنما وجدت في ظل الصراع السياسي المحتدم الذي نشأ تحت راية الربيع العربي ونهوض المجتمعات في سورية وجزء من العراق للمطالبة بدولة الحرية والعدالة.

تنحاز السياسة الأميركية، بشكل أعمى، للرواية الروسية عن الحرب على الإرهاب والحفاظ على مؤسسات (الدولة)، والتي يأتي في مقدمتها التشكيلات الأمنية والميليشياوية في سورية والعراق، والتي تم تصميمها وهندستها للقضاء على تطلعات الحرية وتحطيم فرص التحول إلى الحداثة والمدنية بما يتطابق مع شعارات الربيع العربي البكر قبل أن يجري تشويهها وحرفها عن أهدافها عبر استخدام أقصى درجات العنف وإتباع السياسات الطائفية لخلق حالة من الاستقطاب الطائفي يسهل معها استدعاء أشد ألوان التطرف والمواقف الراديكالية.

وإذا لم يعد مهماً معرفة الأسباب التي دفعت أميركا لتكون في الجانب الذي تقع فيه كل من روسيا وإيران، اللتين مثّلتا، في لحظة سابقة، الخصم السياسي والنقيض العملي للتوجهات الأميركية، التي تجلّت في كونها ادعاءات أكثر منها سياسات فعلية، فإنه يمكن ملاحظة مدى التناسق والتناغم بين تلك الأطراف عملانيا عبر اتباعهما لمنهجية واحدة في إدارة الصراع وكذا تعريفهما لمصادر الخطر والتهديد وترتيب الأولويات في المنطقة، ويتجلى ذلك بوضوح عبر حصر المهمة الأساسية لفعاليتهما العسكرية والسياسية في إطار الحرب على الإرهاب وتحديدهما للمكون العربي السني في سورية والعراق على انه الطرف المستهدف بوصفه الحاضنة والولّادة الوحيدة للإرهاب.

خطورة هذا التعريف أنه يشي عن كل أشكال الاستهداف، بما تتضمنه من نمط إبادة فعلية لمكون سكاني عريض تحت ظلال شعار (مقدس) محتواه «محاربة الإرهاب» الذي بات يشكّل خطراً على العالم بأسره وحالة من الانحراف يتوجّب تصحيحها عبر القضاء على جذورها، حيث يتحول مصير ملايين من السكان إلى عنصر استثنائي وهامشي خارج أي حسابات سياسية طالما أن اجتثاث الإرهاب عملية تتطلّب إسقاط بعض الاعتبارات من المعادلة الكلّية فلا بأس من التضحية بشرائح سكانية وبخاصة وان هؤلاء هم جزء من منظومة الإرهاب نفسها بوصفهم البيئة الحاضنة وقنوات التغذية لتلك البيئة.

والخطورة أيضاً في كون هذه المعادلة تفتح المجال واسعاً أمام التشكيلات الميليشياوية التي أسستها إيران للقضاء على من تعتبرهم أعداءها في سورية والعراق، وهم كامل المكون السني من دون استثناء، للعمل بحرية أكبر على تنفيذ أهدافهم الطائفية بكل حرية ومن دون أي معوقات أو اعتبارات طالما أنهم يشكلون الأدوات التنفيذية للحرب الأميركية – الروسية على الإرهاب، فما الذي يمنع ميليشيا (الدفاع الوطني) في سورية ذات الصبغة الطائفية من ارتكاب المذابح بشكل علني طالما هي متظلّلة بحماية دولية، ومن الذي سيقف في وجه ميليشيا (الحشد الشعبي) التي تبحث عن ثارات طائفية في العراق وقد جاءتها الفرصة على طبق من ذهب لممارسة كل أشكال الجريمة والانتقام، بل هل لنا أن نتصوّر أن وحدات (الحماية الكردية) التي تعتقد بأن وجود العرب في ما تعتبره أرض كردستان التاريخية هو احتلال وظلم تاريخي للشعب التركي ولن تقوم بعملية تطهير عرقي ضد ملايين العرب في مناطقها طالما أنها تملك رخصة لتحقيق هذا الهدف؟

ربما لم يحصل في تاريخ الصراعات الإقليمية والدولية، ولا النزاعات المحلية، حدوث مثل تلك التوافقات بين أطراف بهذا الحجم من القوة ضد مكوّن بعينه، كما هو حاصل في سورية والعراق في مواجهة المكوّن العربي والسني، وهو امر مستغرب أن تتورّط قوى كبرى بذلك من خلال انسياقها وراء حسابات قصيرة المدى من دون تقدير لحجم التداعيات التي من الممكن أن ترتبها مثل هذه السياسات، ذلك أن اقتصار قراءة الوقائع في سورية والعراق من زاوية الحرب على الإرهاب ليست سوى محاولة للالتفاف على الحقيقة وتمييعها والبحث عن إنجازات سريعة لن تدوم لأكثر من الفترة الزمنية التي يستلزمها انقضاء غبار المعركة.

بالأصل لم تقتنع شعوب المنطقة بأن داعش ليس أكثر من لعبة استخباراتية إقليمية ودولية، كل الشواهد اليومية كانت تثبت هذه الحقيقة، وتأتي اليوم الحرب على هذا التنظيم والإفرازات التي صنعها، بمثابة ترسيخ لتلك القناعة، وهو ما يشكل محركاً لإشعال مزيد من الصراعات في ظل عجز واضح عن صياغة تسويات سياسية مقبولة ومستدامة لحل أزمة المنطقة الممثلة بالاستبداد والفساد، أما أن تعمل بعض الأطراف الإقليمية والدولية على توظيف الأحداث على مقاسات مشاريعها الجيوسياسية فإنها لا شك تستثمر في الخطر، وحرب الإبادة التي تديرها تلك القوى سيكون لها تداعيات بحجم التهديدات التي تسببها، ومن يعش يرَ.

() كاتب من سوريا

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى