أنور بدرصفحات الثقافة

الثقافة السورية في عام الانتفاضة والدم.. 2010: فنانون ومثقفون موالون وآخرون معارضون والنظام يخسر المعركة الاعلامية


أنور بدر

دمشق ـ ‘القدس العربي’ ـ من أنور بدر: لم يكن عام 2011 كباقي الأعوام في الرزنامة السورية، أو حتى الرزنامة العربية عموما، ليس في حقل الثقافة فقط، بل وعلى كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية أيضا، التي شهدت تبدلات متسارعة وعميقة وصلت حدود الثورة، لكن ما يميز الساحة السورية عن نظيراتها في تونس ومصر وحتى ليبيا، هو العنف المتزايد في مواجهة حركات التظاهر منذ بدايتها، واستمرارية الأحداث قرابة عشرة أشهر، ومحاولة عزل سورية عن العالم الخارجي إعلاميا، لتبقى الرواية الرسمية تتسيد إعلام الحكومة وأشباهه من الإعلام الخاص، وليزيد ذلك من عزلة سورية إقليميا ودوليا وفي كافة المجالات، وبشكل خاص بعيد تطبيق العقوبات الدولية والعربية إثر تعاطي النظام الأعرج مع مبادرة الجامعة العربية.

الإعلام معركة خاسرة:

يعترف الكثير من المراقبين بأن الانتفاضات الشعبية التي ظهرت في أكثر من دولة عربية، وحتى الثورات التي عرفتها دول عربية أخرى، ما كان لها أن تأخذ مداها الذي وصلته لولا ثورة وسائل الاتصال الحديثة، والدور الفاعل لمواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك ويوتيوب وتويتر وصولاً إلى السكايب، لكن النظام السوري وقبل اندلاع شرارة الثورات العربية كان يُصر على التعامل مع الثورة الرقمية على طريقة ‘حذاء النساء في الصين’ المطلوب منه وقف النمو الطبيعي لأرجل الفتيات، بدون أن يُدرك، أو أنه كان يُدرك ولا يريد أن يعترف، بأن الثورة الرقمية لا تمتلك جغرافية أو حدوداً، ولا يمكن وقف تدفقها غير المادي، لذلك كان يماطل في إصدار قانون ‘التواصل مع الجميع على الشبكة’، الذي يهدف أصلاً للحد من إمكانية ذلك التواصل وقوننته بحجج وذرائع شتى، لكنه في لحظة هبوب رياح التغيير في كل من تونس ومصر، وقبل يومين من سقوط نظام مبارك في مصر أي في 4 شباط/ فبراير 2011 تمّ رفع الحظر عن بعض مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وغيره، مع بقاء الحظر ساري المفعول حتى تاريخه على الكثير من مواقع الإعلام والصحافة الإلكترونية، المحلية والعربية، وبعد عشرة أيام من ذلك التاريخ، أي في 14 فبراير صدر قانون التواصل مع العموم على الشبكة، الذي جاء بصيغة ضبط وإلحاق للإعلام الإلكتروني برقابة مؤسسة الاتصالات ومن ورائها الأجهزة الأمنية.

غير أن تسونامي التغيير العربي كان أسرع بالوصول إلى سورية من قدرة النظام على تطبيق قانونه آنف الذكر، وبدأت أحداث درعا في منتصف آذار/ مارس، مما أدخل البلد في أزمة سياسية لا تزال في نهاية هذا العام مستمرة بدون حلّ، واضطر النظام بعد ستة أشهر لإلغاء ذلك القانون ضمن ما سماه حزمة الإصلاحات الساعية لإرضاء الشارع، فاصدر ‘قانون الإعلام’ الجديد بالمرسوم رقم 108 تاريخ 28/ 8/2011 الذي ألغى وفي المادة الثانية منه كلاً من ‘قانون التواصل على الشبكة’ والقانون رقم 68 لعام 1951 الخاص بالنظام الأساسي للإذاعة والتلفزيون، وقانون المطبوعات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 50 لعام 2001، وكذلك المرسوم التشريعي رقم 10 لعام 2002 المتعلق بالإذاعات التجارية الخاصة.

لكننا وبعيدا عن تلك القوانين والتشريعات التي لم ترض أحدا، نجد أنّ مزود خدمة الإنترنت السوري جاء في ذيل ترتيب مزودات الخدمة عالميا، واحتل المرتبة 151 بين 185 دولة شملتها دراسة تقنية بهذا الصدد. مع التأكيد على رداءة البنية التحتية لعالم الاتصالات لدينا، حيث تتعدى إشكالية المشترك السوري ما يعانيه من بطء في السرعة وتقطعات متكررة في خط الإنترنت، وصولاً لارتفاع رسوم النت بالقياس إلى دول الجوار أيضا.

وننقل عن مصادر في مؤسسة الاتصالات أن عدد مشتركي خدمة الإنترنت في سورية بداية العام لم يتعد المليون مشترك باستخدام الوسائل التقليدية ‘الدايل آب’، فيما عدد مستخدمي الحزمة العريضة لا يتجاوز 200 ألف مستخدم حتى تاريخه. لكن عدد متصفحي الإنترنت في سورية كان حوالي ثلاثة ملايين متصفح.

وتضيف المؤسسة أن عدد المواقع الالكترونية في سورية تجاوزت الأربعة آلاف موقع، بينها 165 موقعا إعلاميا قبيل الأحداث، لكننا نستطيع الجزم بكل بساطة أن عدد مستخدمي الشبكة وكذلك عدد متصفحي النت وعدد المواقع الإعلامية على الشبكة، تضاعف أكثر من مرة في الأشهر الأخيرة من عمر الانتفاضة وبتأثيرها أيضا، وإن كانت لا توجد إحصائيات دقيقة بهذا الصدد، كذلك الأمر في تضاعف عدد المواقع المحجوبة، ونشأة ظاهرة ‘الهكرز’ على الكثير من المواقع الإعلامية المؤيدة للثورة، بل انتشرت ظاهرة ‘الجيش السوري الإلكتروني’ التي تقوم بمهمة التشبيح على المواقع السابقة، وحظيت بتقريظ من رئيس الجمهورية في أحد خطاباته.

لذلك نجد بأن هذه المعركة لم تكن قط مجرد معركة تقنية فقط، بل هي في أحد وجوهها معركة إدارة، وبالتالي هي معركة سياسية بامتياز، وهكذا جيءَ بعدنان محمود لوزارة الإعلام، ليس لنجاحاته الإعلامية في وكالة ‘سانا’ للأنباء، بقدر ما هي ارتباطاته وولاءاته الشخصية التي رشحته مبكرا لهذا المنصب، فدخل مبنى الوزارة محملاً بالريبة والشك تجاه الجميع، خاصة أن القرار الإعلامي أساسا لم يكن في يوم ما بيد الوزير، فشهد العام المنصرم أكبر حركة تنقلات شهدتها المؤسسات الإعلامية عبر تاريخها الطويل، فبعض المديرين لم يستقر بهم المقام في مناصبهم أشهرا قليلة، حتى فتكت بهم قرارات الوزير، وربما يكون من أشهرها إقالة رئيسة تحرير صحيفة ‘تشرين’ سميرة مسالمة التي كانت مرشحة للعب دور سياسي مهم في الحوار بين النظام والمعارضة، لكن غلطتها التي لا تغتفر، أنها غصت على إحدى الفضائيات العربية حين ذُكرت بقريب لها قتل في درعا، فهذه اللحظة الإنسانية غير مسموح بها في عرف الاستبداد.

ومن تلك التنقلات التي شهدتها أروقة التلفزيون السوري بعيد تسلم محمود حقيبة الوزارة، كانت إعفاءه مدير الأخبار المصورة غالب فارس وعيّن بدلاً منه حبيب سلمان. كما أعفى مديرة التلفزيون ريم حداد التي لم تمض أشهراً في منصبها وكلف معن الصالح بإدارة التلفزيون بدلاً عنها. كذلك قام بتعيين جهاد حداد بإدارة الشؤون الإدارية والمالية في الهيئة، مرفقا ذلك بتعيينات أخرى مماثلة في الإذاعة السورية. لكنه لم يقرب منصب المدير العام للهيئة، خاصة أن معن حيدر يتسلم هذا المنصب للمرة الثانية مصحوباً بالكثير من الآمال، لكن بدون صلاحيات تذكر لتساعده في إنقاذ مركب الإعلام السوري من تسونامي الثورة الذي يجتاح البلد بكامله، ومع ذلك، شهدنا في نهاية العام الحالي صدور مرسوم رئاسي بترقية معن حيدر إلى موقع معاون وزير الإعلام، وهو ما تنبأت به بعض المصادر والمواقع الإعلامية قبل حدوثه، لكن هذا التنبؤ أفسد على ما يبدو وصول مدير الإخبارية السورية فؤاد شربجي لإدارة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وسقطت معه كل الترشيحات الأخرى لهذا المنصب، في حين كلف وزير الإعلام المهندس رامز ترجمان بمهام المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. وقبل ذلك أعفيت السيدة ديانا جبور من رئاسة المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني لصالح المخرج فراس دهني، في حين أسندت لها إدارة تحرير صحيفة ‘بلدنا’ الخاصة.

المسألة اللافتة للانتباه في هذا الصدد تتعلق بما يسمى الإعلام الخاص في سورية، الذي سارعت الأحداث الأخيرة في فرز وتحديد هويته كإعلام شبه رسمي، يفترض به أن يدافع عن مصلحة النظام أولا وأخيرا، أو يخرج من اللعبة بأقل الخسائر الممكنة، كما حصل مع صحيفة ‘الخبر’ المملوكة لطريف الأخرس، والكثير مما يسمى صف ومجلات المنوعات، وربما هذه الحقيقة تشكل مدخلا لفهم آليات الحصول على الترخيص، ومدخلا آخر لفهم سياسة قناة ‘الدنيا’ مثلاً أو صحيفة ‘الوطن’ اليومية الخاصة، التي يُشك في أن رامي مخلوف يسيطر عليهما كملكية بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث يستغرب كثيرون أن يتسلم طبيب الأسنان ومعد البرامج فؤاد شربجي إدارة القناة الأولى الأرضية في التلفزيون السوري لينتقل منها إلى إدارة قناة ‘الدنيا’، التي غادرها لفترة من الزمن قبل أن يعود إلينا مديرا لقناة ‘الإخبارية’ السورية المحدثة.

في حين تأتي لونا الشبل من قناة الجزيرة لتصبح الرقم الصعب في معادلة الإعلام السوري، وتحديدا في قناة ‘الدنيا’ الخاصة، وكذلك الأمر مع ديانا جبور التي غادرت هيئة الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني لتتسلم إدارة تحرير صحيفة ‘بلدنا’ الخاصة، والأمر أعقد من ذلك في قناة ‘الإخبارية’ السورية التي أعلن عنها كقناة مستقلة تملكها الدولة، وهي ما تزال في مرحلة البث التجريبي لأكثر من عام مضى، لكن وزارة الإعلام التي أسندت قيادتها لشربجي أولا، نقلت هذه المهمة لعماد ساره الذي جيء به أيضا من قسم الأخبار في قناة ‘الدنيا’ الخاصة! وحتى عندما استنكر العاملون في ‘الإخبارية’ السورية قرار تسليم الملاحة في محطتهم إلى السيد ساره، لم يجد وزير الإعلام تبريرا لهم إلا بكون القرار صادر عن جهات عليا، وبالتالي لا حول له أو طول بهذا الأمر.

مفاجأة وزير الإعلام قبيل نهاية العام كانت تشبه هدايا بابا نويل، وقد خص بها موقع ‘داماس بوست’ حين أعلن بأن ‘الحكومة توافق على إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية الرسمية وإصلاحها’، مضيفاً ‘أن الخطة تتيح الانطلاق بشكل ملموس إلى تطوير وسائل الإعلام الوطنية بما في ذلك الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون من خلال إعطاء الاستقلالية الكاملة لمحطات التلفزة وفصل الإذاعة عن التلفزيون بما يسهم في تكريس الاختصاص ومعالجة الترهل الفني والتقني والإداري في عملها’، لكن السيد الوزير يبدو كمن يُصر على تربيع الدائرة، متجاهلا أن تجربة ‘الإخبارية’ السورية المستقلة في لحظة مولدها، لا تشجع على تكرار هذه التجربة مع التلفزيون الرسمي، فقانون الاستبداد أقوى من نوايا الوزير إن صدقت نواياه. فإذا اتفقنا على فشل ‘الإخبارية’ السورية في الخروج من إعلام الحكومة لتكون إعلام دولة، فإننا نتساءل، كيف يمكن للفضائية السورية أن تنجز هذه النقلة؟ وهل يكفي قوله ان ‘الإخبارية’ السورية ستنهي بثها التجريبي بعد شهر ونصف الشهر من الآن، أي في مطلع شباط/ فبراير القادم؟ وما علاقة ذلك بكينونتها إعلام سلطة أم إعلام مجتمع؟

يقول السيد وزير الإعلام في تفصيل آليات خطته: ‘سيرافق البث الفضائي بث لبرامج القناة الفضائية عبر الإنترنت وجعله متاحا على أجهزة الهاتف المحمول داخلياً وخارجياً، بما يسهم في إيصال وجهة النظر السورية ورسالتها أمام هذا المد الكبير في الحرب الإعلامية التي تتعرض لها سورية والتي تشارك فيها أكثر من 600 شركة إعلامية متعددة الجنسية على مستوى العالم’، متجاهلاً أنه يتحدث في المستوى التقني وليس في طبيعة الخطاب، فتوسيع نطاق بث الفضائية السورية إلى شبكة الإنترنت أو الهاتف المحمول مسألة تقنية، لا تعني تطوير الإعلام إن لم يتطور الخطاب الإعلامي وآلية تعاطيه مع الشأن العام، خاصة أن السيد الوزير يسارع إلى إيضاح أهداف خطته ‘في إيصال وجهة النظر السورية ورسالتها أمام هذا المد الكبير في الحرب الإعلامية التي تتعرض لها سورية’، وحتى على المستوى التقني فإن القرار الأمني بمنع هواتف ‘الآي فون’ في سورية، وضرورة تسجيل مفصل عن هوية أي مشترك بشركتي الموبايل الحصريتين، ومنع أو عرقلة عقد المخدم الثالث في مؤسسة الاتصالات، كلها مؤشرات لا تنسجم مع طموحات السيد الوزير.

وفي ما يتعلق بالصحافة المكتوبة يوضّح وزير الإعلام ‘أن الخطة تتضمن تأسيس مؤسسة صحافية واحدة لها صلاحيات إصدار صحف جديدة، وإعادة النظر في الصحف القائمة، وتقييم واقع هذه الصحف مهنيا على مستوى المركز والمحافظات، في إطار معالجة مستوى الصحف الذي لا يلبي الطموحات وخاصة الصحف المحلية’، وهنا يُذكرنا السيد الوزير بإعادة اكتشاف العجلة، فهذا المشروع يشكل ماركة مسجلة لوزير الإعلام الأسبق مهدي دخل الله، وقد أقر باسم القانون 16 للعام 2005، حيث صدر نظام داخلي يسيّر المؤسسة التي سمّيت ‘مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع’ كمحصلة لدمج صحيفتي ‘تشرين’ و’الثورة’ مع مؤسسة توزيع المطبوعات، وسيكون من مهامها إصدار الصحف والمجلات والمطبوعات الدورية وغير الدورية المختلفة، وممارسة الأعمال الطباعية التجارية للقطاعين العام والخاص، وإجراء البحوث والدراسات الإستراتيجية والعمل على توثيق المعلومات التي تخدم أهداف المؤسسة، وتوزيع الصحف والمجلات والمطبوعات الدورية وغير الدورية المحلية والعربية والأجنبية داخل سورية وخارجها، لكن شيئا من ذلك لم يتحقق على الأرض، بل استعادت مؤسسة توزيع المطبوعات استقلاليتها لاحقا في عام 2009 باسم الشركة السورية لتوزيع المطبوعات، ولم تُثمر خطة الدمج عن شيء يُذكر.

اننا وبعيدا عن أوهام السيد الوزير، نجد أن السياسية ما زالت تحكم الإعلام في سورية وتتحكم بالرقابة، حتى أنها اضطرت في ظل الأحداث الأخيرة لإخلاء الساحة من كل المراسلين العرب والأجانب، سواء كانوا مراسلي الفضائيات أو الصحف الورقية أيضا، من دون أن تدري أنها بذلك تكون قد أعطت الشرعية لإعلام المواطن البديل، إعلام يعتمد كاميرا الهاتف المحمول الذي يلتقط اللحظة الساخنة للمظاهرات الاحتجاجية وما قد تتضمنه من إطلاق للنار أو استهداف للمتظاهرين، حتى لو أدعت أنه غير موضوعي ولا يشكل مصدرا للثقة. ففي غياب وسائل الإعلام المحترفة، تصبح تلك البدائل مطلوبة محليا ودوليا، بل تصبح هي المصدر الأساسي لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان التي ستتحول لأدلة اتهام في المستقبل.

إنه الطريق الأقصر لخسارة المعركة الإعلامية، ومن ورائها المعركة السياسية، ولم يستطع شبيحة الإعلام من حملة شهادة الدكتوراه، الذين أطلقهم النظام ليدافعوا عن سياسته على شاشات الإعلام الخارجي أن يقنعوا أحدا بروايته حول العصابات المسلحة، أو عدم مسؤوليته عن القتل الذي يجتاح حياتنا اليومية، ولن تقوى شركات الدعاية والإعلام التي يجري استئجارها مؤخرا بانجاز هذه المهمة، ولن يصلح عطار الإعلام ما أفسده دهر السياسة.

والثقافة بلا ميزانية

إشكالية الثقافة في سورية تبدو مختلفة بعض الشيء، كونها تاريخيا قطاعا مهملا ضمن أولويات وأجندات الحكومات المتعاقبة، فكيف بها في ظل الأزمة الراهنة بوجهيها السياسي والاقتصادي؟ إنها أشبه بترف لا متسع له في معركة المصير التي يخوضها النظام، ولذلك ألغى كل المهرجانات والفعاليات الثقافية التي وسمت الثقافة السورية عبر عقود من الزمن، ألغيت تلك الفعاليات لضغط النفقات أولاً، وللخوف من فكرة الحشود الجماهيرية تاليا، ولازدياد مساحة الشك والريبة بين المثقفين والنظام من جهة ثالثة، فكانت وزارة الثقافة بقيادة رياض عصمت ربانا ماهرا لعبور منزلقات هذه السياسة، خاصة وهو الابن البار لهذه الوزارة بكل مؤسساتها قبل أن يُعار إلى سلك الدبلوماسية السورية، إذ سبق له حين كان عميدا للمعهد العالي للفنون المسرحية أن استعان بالأمن لفض اعتصام لطلاب المعهد عام 2001 بشأن العراق، مما يؤشر الى انقطاع خيوط الود بينه وبين الحشود التي لا يمكن ضبطها، أو أنها قد تفكر بالاعتصام أو الشغب.

وفي هذا الإطار ألغى مهرجان الشباب المسرحي الذي كان مخططا له أن يُقام في شهر نيسان/ابريل من عام 2011 في مدينة حمص، التي لم تكن قد بدأت تتحرك بشكل جدي حتى تاريخه، وهو مهرجان تتسابق من خلاله الفرق الفنية لاتحاد شبيبة الثورة، ويفترض بجمهوره أن يكون من عناصر الشبيبة الموالية للنظام، كما اضطر لإلغاء مهرجان بُصرى الدولي للفنون الشعبية، ومهرجان إدلب الخضراء للفنون الشعبية، إذ أن الأول منهما يُقام في مدينة بُصرى الشام التابعة لمدينة درعا، بينما الثاني يُقام في محافظة إدلب، وكلتا المحافظتين أعلنتا انحيازهما المبكر لخط الثورة ضد النظام، لكن موقفه من المهرجانات المركزية في العاصمة دمشق كان أعقد بكثير، مع ذلك فإن النظام الذي ألغى دوري كرة القدم استسلم أخيرا وألغى مهرجان دمشق المسرحي الذي تنظمه وزارة الثقافة، وكذلك الأمر مع مهرجانها السينمائي الذي كان موعده المقترح في شهر كانون الاول/ ديسمبر الحالي، بما ينطوي عليه هذا القرار من خشية تجاه المثقفين أيضاً، هذه الشريحة من المثقفين السوريين أو العرب التي لا يمكن ضمان حتى صمتها، فكيف الأمر مع بيانات المثقفين التي تصدر تباعا للتنديد بممارسات القمع ضد المتظاهرين، لكن الأسوأ بالنسبة له كانت تظاهرة المثقفين اليتيمة التي خرجت في حي الميدان بدمشق، وما زال بعض المعتقلين ممن شاركوا فيها رهن المحاكمة حتى الآن، وبعضهم فرّ هاربا من جحيم الملاحقة الأمنية.

إشكالية الثقافة في المجتمعات الكليانية أن المؤسسة الثقافية الرسمية تبتلع الثقافة والمثقفين، فلا نقابات مستقلة، ولا اتحادات مهنية حُرة، والدولة تنظم وتهيمن على كل أشكال الإنتاج الثقافي، حتى أنه وعبر نصف قرن من الزمن تحولت غالبية النخب المثقفة إلى أداة بيد السلطة، وليس أدل على ذلك من موقف الروائي اليساري حنا مينة الذي يماهي بين الوطن والسلطة السياسية، في حين أن الدكتور حسين جمعة رئيس اتحاد الكتاب العرب ما زال يسعى ‘إلى تأسيس لمفهوم الوحدة الوطنية في إطار الاختلاف والتنوع الثقافي، وليس في إطار الصراع الثقافي’، مع أن ذلك المفهوم للوحدة الوطنية أثمر عن شق المثقفين وتخوينهم، فلا مجال أن تكون إلا مع خطاب السلطة، أو تتحول إلى خائن وطنياً، لأن السلطة رمز الوطن وبديله، منذ حرب الأيام الستة في عام 1967 حيث كانت نظرية البعث الحاكم وقتها: أن إسرائيل تستهدف من وراء حربها تلك هزيمة الأنظمة التقدمية في المنطقة العربية، وطالما أن الأنظمة بقيت ولله الحمد، فإن إسرائيل خسرت حربها آنفة الذكر، رغم الأراضي العربية التي احتلتها في سيناء وغزة والضفة الغربية وصولاً إلى الجولان السوري الذي ما يزال في قبضتها.

وقد لعب الإعلام السوري دوراً تخوينياً طال عدداً من المثقفين والفنانين الذين عجزوا عن استيعاب نظرية العصابات المسلحة، وهناك قائمة طويلة ممن هاجر أو هجّر خارج سورية طلبا للسلامة أمثال الكاتبة ريما فليحان والروائية سمر يزبك، ومن أصرّ على موقفه كان نصيبه الاعتقال والتعذيب ثم المحاكمة كالمخرج نضال حسن والسيناريست يمّ مشهدي والأخوين ملص، ولم تتوقف المسألة عند هذه الحدود، بل كان الشبيحة بالمرصاد لبعض الأسماء التي ضنت بتأييدها في هذه المعركة الفاصلة، فأحرقت بيوت البعض كالباحث والأكاديمي منذر خدام والروائي نبيل سليمان، ورميت سيارات الآخرين بالحجارة، وتعرض قسم ثالث للضرب والأذية المباشرة، ناهيك عن سعار شبيحة الفيسبوك أو ما عُرف بالجيش السوري الإلكتروني، حيث جرى التشهير وفبركة الأكاذيب حول كل المعارضين وبشكل خاص المثقفين منهم، وقد طالت هذه الحملة الأحياء منهم والأموات كالمخرج السينمائي الراحل عمر أميرلاي، ولم تتوان وزارة الثقافة عن فرض العقوبات الإدارية بحق أعداد من الموظفين، فأوقفت عقود أعداد من العاملين في مؤسسات الوزارة، وأنهت ندب آخرين، مقابل تثبيت أعداد من المستخدمين والأذنة الذين شاركوا بعمليات التشبيح ومهاجمة المتظاهرين وضربهم، وفي هذا السياق نقلت الشاعر والناقد خضر الآغا مدير تحرير مجلة ‘شرفات’ إلى المراكز الثقافي في جرمانا كعقوبة على نشاطه الفيسبوكي، وهناك قائمة طويلة من هذه الإجراءات.

وقد كتب موقع ‘كلنا شركاء’ بهذا الصدد ‘بحادثة لا تعتبر الأولى من نوعها يقوم وزير الثقافة والإرشاد القومي الدكتور رياض عصمت في إبعاد موظفين عن مراكز عملهم إلى أماكن ريفية نائية بغية إقصائهم عن العاصمة دمشق’.

وأضاف الموقع ‘ليس هناك من جديد في السلوكيات الأمنية داخل الدوائر الحكومية لكن ما كنا نأمله وربما نحلم به وجود ثقافة تحترم ثقافة الاختلاف .. وان لا يكون مسلوب السيادة. لتكون حقيقة وزارة الثقافة مكانا ينضح بثقافة القمع والإقصاء’.

بالطبع نجد أن الحالة العامة قد انعكست على نشاطات المراكز الثقافية الرسمية في سورية التي ألغت الكثير من فعالياتها التقليدية، وفي كثير من المحافظات أغلقت أبوابها، أو جفّ حضور الجمهور القليل فوق مقاعدها، حتى النشاطات الموالية للقطاع الخاص التي تلمست خطر الأحداث القادمة على سورية مبكراً وسعت للالتفاف عليها أو على مفاعيلها، كبرنامج ‘سنا العين للثقافة والفنون’ الذي أطلق بتاريخ 7/ 3/ 2011 على خشبة مسرح اتحاد نقابات العمال بدمشق، على أن تمتد فعالياته كرنفالاً ثقافياً على مساحة العام كاملة، ما لبثت تلك الفعالية أن غابت في فعل التظاهر اليومي وصخب الرصاص المندلع في فضاءات حياتنا اليومية.

في ما يخص الفنون التشكيلية نجد ارتفاعا في عدد صالات العرض الخاصة إلى ما يقرب من ثلاثين صالة، لكن القليل منها فقط يحقق شروط العرض التشكيلية من حيث المساحة وزاوية الإضاءة والمسافة الممكنة بين اللوحة والمشاهد، وقسم آخر من تلك الصالات لا تعدو كونها وظيفة ملحقة بمطاعم ومقاهي دمشق القديمة، وهي في تزايد مستمر من دون أن تحاول أخذ رخصة من مديرية الفنون الجميلة، ونجد إضافة لذلك بعض صالات العرض العامة الملحقة بالمراكز الثقافية الأربعة في دمشق وبعض المؤسسات الثقافية الأخرى كصالة الرواق وصالة الشعب التابعتين لنقابة الفنون الجميلة، إضافة لصالة عرض في مكتبة الأسد وثانية في خان أسعد باشا، وهما أيضا من تابعية وزارة الثقافة بصيغة أو بأخرى. وهنالك ما يوازي هذا العدد من الصالات الملحقة بالمراكز الثقافية الأجنبية القائمة في دمشق.

ويمكن القول ان بعض المعارض التي تابعناها بداية العام كانت متميزة نسبيا، من معرض ‘ولادة’ لسارة شمّة في الآرت هاوس أو ‘بيت الفن’ والتي سارت في إطار شغلها المستعاد على فن ‘البورتريه’ مع تأكيد خصوصية المرأة الحامل في هذا المعرض ودلالات الخصب والولادة، إلى معرض الفنان التونسي رجا المهداوي في غاليري ‘رافيا’، الذي اعاد الحروفية العربية إلى جذرها الصوفي القديم، مبتعدا عن القيمة الدلالية للكلمة أو العبارة لصالح قيم جمالية جديدة أكثر معاصرة وأكثر دفئا روحياً. غير أن الثورة التي اندلعت في منتصف آذار/ مارس غيرت مسار اهتماما الناس، وعطلت الكثير من المشاريع الفنية، والمشاريع التي استمرت جاءت بلا صدى. وهذا كان حال معرضي الربيع والخريف اللذين تقيمهما مديرية الفنون الجميلة.

بالمقابل نجد أن التشكيليين السوريين أصبحوا عرضة لذات الانقسام في صفوف المثقفين بين موالاة ومعارضة، وصلت إلى ذروتها مع اختطاف الفنان ورسام الكاريكاتير العالمي علي فرزات وتعذيبه بطريقة وحشية مع محاولة كسر أصابع يده التي يرسم بها.

الكتاب وأزمة الكُتّاب

كتبت في ‘القدس العربي’ أن النسخة 27 من معرض الكتاب الدولي بدمشق التي عقدت ما بين 8 أيلول/ سبتمبر وحتى 18 منه كانت ‘نسخة منقحة ومزيدة من الفساد الثقافي’، بل ربما هي السنة الأسوأ بتاريخ الكتب والطباعة والنشر في سورية، بعدما أقفلت أشهر المكتبات المهمة في دمشق ‘مسلون، الزهراء، النهضة العربية..’ فالأزمة السورية دفعت بالمواطنين إلى التظاهر اليومي، وسمّرت الآخرين أمام الفضائيات التي تنقل الحدث وما وراء الحدث، وهذا بالضرورة أثر على واقع القراءة واقتناء الكتاب، وهو الواقع المأزوم أصلاً، حتى أن مكتبات الرصيف التي تبيع الكتاب بأسعار زهيدة أضحت تشكو قلة المتسكعين باتجاهها، فالأزمة بوجهيها الاقتصادي والسياسي غيرت أولويات المواطنين، بمن فيهم المثقفون أيضا.

حيث ألغي ‘معرض ربيع الكتاب’ الذي يقيمه اتحاد الناشرين السوريين في دمشق، بسبب الأحداث التي تمر بها سورية منذ منتصف مارس الماضي، وهو المعرض الذي كان مقرراً أن يُقام في أبريل، لكنهم أصروا على إقامة الدورة 27 لمعرض الكتاب الدولي في دمشق، الذي شهد ما يشبه المقاطعة من أغلب دور النشر السورية والعربية، إذ اقتصرت مشاركات هذا العام على تسع دول عربية بينها سورية وخمس دول أجنبية فقط. بينما نقلت وسائل الإعلام عن أكثر من مسؤول وجود 17 دولة مشاركة، وربما يعود الأمر لضعف هؤلاء المسؤولين بالحساب، ليس أكثر، حتى أنهم اضطروا لتقديم ناشر مقيم في سورية من أصل فلسطيني، وكان عضواً في المكتب التنفيذي لاتحاد الناشرين السوريين سابقا، على أنه ناشر فلسطيني حضر من فلسطين متجاوزا أسوار الاحتلال وحواجزه.

وفي قراءة الأرقام التي لدينا نجد أن مشاركات العام 2010 بلغت 416 دار نشر، فيما انخفضت هذا العام إلى قرابة 220 دارا مشاركة، لكن الرقم الذي استطعنا الحصول عليه يفيد بأن مشاركات هذا العام لم تتعدّ 135 دارا للنشر، وأن تصريحات العائدي مدير المعرض وغيره حاولت اللعب على الخلط المتعمد بين دار النشر والجناح، فلو نحن اعتمدنا صيغة الأجنحة لوجدنا حقيقة وجود 220 جناحا في هذه الدورة، لكن هذه الأجنحة لا توازي عددها من دور النشر.

هناك دور للنشر شبه وهمية شاركت من دون أن يكون لديها أي عنوان مطبوع باسمها، بينما غابت أغلب دور النشر العربية من مصر، لبنان، السعودية، والأردن أو هي عهدت إلى دور نشر محلية بإدارة أجنحتها في المعرض، مثال مكتبة الرشد ومكتبة جرير من العربية السعودية، ومكتبة الكتاب الجديد من الأردن، مع أن ذلك مخالف للقوانين وشروط المعرض، وقد حضرت من مصر داران للنشر فقط، ومن لبنان أكثر من ذلك بقليل، فيما تغيبت باقي الدور العارضة عن هذه الدورة، وفي ذلك مخالفة للبند العاشر من شروط المشاركة، ونصه: لا يحق لأي عارض التنازل كليا أو جزئيا لآخرين عن جناحه أو عن حصة منه مهما كانت الأسباب.

وفي مؤشر على تراجع حركية النشر في سورية نستعين بقائمة إصدارات اتحاد الكتاب العرب التي بلغت عام 2010 ستة وخمسين كتاباً في الشعر والقصة والرواية والمسرح والدراسات وأدب الأطفال، فيما لم تتجاوز هذه القائمة الأربعين كتابا حتى أواخر الشهر العاشر من عام 2011. وليس حال إصدارات وزارة الثقافة أو دور النشر الخاصة في سورية هذا العام بأفضل حالا من ذلك.

ويبقى أخيرا سؤال الرقابة الثقافية التي ينكر المسؤولون في وزارة الثقافة وجودها أصلاً، ونعترف بأننا لن نتمكن من الحصول على قائمة بالكتب الممنوعة من الطباعة والأخرى الممنوعة من التوزيع في سورية من وزارة الإعلام. ولكن بعض مؤشرات معرض الكتاب الأخير تفيد بأسماء بعض الكتب التي منعت من دار الساقي فقط، وأغلبها من الكتب المهمة كما نلاحظ:

– مرايا فرانكشتاين تأليف عباس بيضون.

– إنقاذ العراق تأليف نمير أمين قيردار.

– القاعدة في اليمن والسعودية تأليف بشير البكر.

– أفضل الأعداء تأليف بسام أبو شريف وعوزي محنايمي.

أما مؤشر عدد المخطوطات الواردة إلى اتحاد الكتاب العرب فقد بلغت حتى تاريخ 16/ 10/ 2011 ما مجموعه 121 مخطوطاً مقابل 201 مخطوط للعام السابق، بينما المقر طباعته في خطة الاتحاد حافظ على ثباته عند رقم المئة كتاب للعامين على التوالي، بينما لم يُنشر حتى منتصف الشهر العاشر أكثر من أربعين عنواناً فقط.

أزمة الدراما السورية

ربما كان الفنانون وصناع الدراما السورية أول من ظهرت بينهم ملامح التخوين والإقصاء، حيث وقعت 22 شركة إنتاجية سورية بيان المقاطعة ضد الفنانين الموقعين على بيان الحليب لأطفال درعا، لأن دراما الشارع التراجيدية أضرت بمصالحهم من جهة، ولأنهم كانوا القطاع المدلل بالنسبة للنظام السوري أيضا، فالدراما لدينا ومنذ سنوات حملت مهمة الدفاع عن الممانعة السورية في وجه كل الاستهدافات الخارجية، من دون أن يمنع ذلك من تأثيرات الحالة السياسية على صناعة هذه الدراما، حيث انخفض الإنتاج إلى النصف تقريبا، بواقع 23 مسلسلاً سورية للدورة الرمضانية المنصرمة، فإذا كانت بعض الشركات المنتجة أوقفت جزءا من مشاريعها التي داهمتها أحداث الثورة وأمطار الربيع العربي قبيل التصوير أو أثناءه، فإن الرقابة كانت بالمرصاد حتى لمؤيدي النظام، كما حصل مع المخرج نجدت أنزور الذي حالفه الحظ في مسلسلين هذا العام، رغم أنه من معارضي الثورة، بل هو من صاغ بيان مقاطعة الفنانين السوريين المؤيدين للحراك الشعبي ومطالب المتظاهرين، وإن كان الممثل فراس إبراهيم يتحمل القسط الأوفر من فشل مسلسل ‘في حضرة الغياب’ الذي تناول سيرة الشاعر الكبير محمود درويش، فإن المفاجأة الحقيقية جاءت مع رفض التلفزيون السوري إدراج مسلسل ‘شيفون’ ضمن عروض الموسم الرمضاني الأخير للدراما، مع أن لجان الرقابة وافقت على النص وسمحت بالتصوير، بل أكثر من ذلك أن هذا التلفزيون اشترى حقوق العرض الحصري للعمل، وبثت إعلانات ترويجية له قبيل رمضان!

إشكالية الرقابة تجاوزت كل الحدود حين أوقفت عرض مسلسل ‘فوق السقف’ للمخرج سامر برقاوي، بعدما بثت خمس عشرة حلقة منه، مع أنه من إنتاج المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني أيضا، التي حلت مكان مديرية الإنتاج سابقا. ونشير إلى أن هذا العمل الذي تعرض لمشاكل رقابية وصلت حدّ حذف حلقات كاملة منه أثناء التصوير، يشترك مع مسلسل ‘شيفون’ في سعيهما لالتقاط تداعيات الأزمة الراهنة وأثر مواقع التواصل الاجتماعي، في محاولة لسبر مساحة جديدة من الحرية كما يقول برقاوي، مساحة تسمح بتعدد الرؤى والمواقف.

غير أن الرقابة الأخطر بكل تأكيد هي الرقابة الاجتماعية التي تمثل فئة اجتماعية كبرت أم صغرت هذه الفئة، وهو ما حصل مع مسلسل ‘سوق الورق’ للمخرج أحمد إبراهيم أحمد، حيث استدعى عرضه جدلاً كبيراً في الأوساط الجامعية كونه يسلط الأضواء على فساد المؤسسة التعليمية ممثلة بجامعة دمشق، هذا الجدل الذي لم يستطع إيقاف عرض العمل، لكنه تمكن من الانتقام من كاتبة النص آراء الجرماني الطالبة في مرحلة الدكتوراه في الجامعة ذاتها، حيث صدر القرار رقم (602) والقاضي بإيقاف الطالبة آراء جرماني عن الدراسة بالكامل حتى تبت لجنة الانضباط في جامعة دمشق بوضعها، مما يعني إيقاف مناقشة رسالة الدكتوراه، وهو ما يؤكد مقولة العمل بدل أن ينفيها.

وربما تكون رحلة مسلسل ‘الحسن والحسين’ أو ‘الأسباط’ لعبد الباري أبو الخير، مع الرقابة هي الأشهر إذ بدأت منذ سنوات بعد الموافقة على النص، لكن رحلة التصوير التي تعدت أكثر من دولة عربية وأجنبية كانت تنتهي دائما بالرفض، وبعد الانتهاء من العمل كان نصيبه المقاطعة من أغلب الفضائيات العربية، وحتى بعد عرض حلقات منه، نزولا عند فتوى الأزهر التي تحرم تصوير النبي أو الصحابة، فكيف بالحسن والحسين، وإشكالية الفضائيات الشيعية، رغم أن التلفزيون الإيراني يزمع إنتاج مسلسل عن السيرة النبوية!

أعتقد أن إشكالية الرقابة في المحصلة النهائية هي مؤشر على إشكالية ومأزق السلطة السياسية التي ترفض الاعتراف بحقوق المواطنة والحريات العامة وعلى رأسها حرية التعبير. فكيف سيكون حال الدراما السورية للموسم الرمضاني القادم؟

يجيب المخرج السوري زهير قنوع في تصريح لصحيفة ‘الأخبار’ اللبنانية ‘أن انعكاس قرار الجامعة العربية على سوق الدراما ذو شقين الأوّل مرتبط بالتسويق، والثاني بالإنتاج، وبما أنهما مترابطان، فقد بات من المؤكد أن الموسم الدرامي القادم محكوم بالمحاصرة’.

وعلق قنوع آماله على الجمهور العربي الذي سيكون له رأي مختلف مهما غالت حكوماتهم بمواقفها، لافتا الى أن الجمهور العربي لن يتخلى عن الدراما السورية حتى لو اقتصر عرضها على محطاتنا المحلية فقط.

غير أن تصريحات وزير الإعلام بخصوص إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية، ذهب أبعد من ذلك بكثير، حيث منحنا شحنة تفاؤلية حين قال: ‘ان خطة الوزارة تشمل أيضاً وضع إطار تشريعي لتحويل سورية إلى مدينة للإنتاج التلفزيوني والدرامي الحر، بما يسهم في تطوير صناعة الدراما فيها وجذب المستثمرين المحليين والأجانب في هذا القطاع، وتقديم كل التسهيلات والحوافز لهم على المستوى الإقليمي والدولي، واستثمار التنوع الجغرافي والثقافي والحضاري في سورية’. وكأن السيد الوزير يعيش في جزر القمر، ولم تمر عليه عشرة اشهر من عمر الانتفاضة السورية المعبأة بالكثير من الشهداء والضحايا والأزمات المعيشية والانقسامات الفكرية والسياسية، ولم يسمع بقرارات المحاصرة العربية والدولية!

ثقافة الثورة أو البدائل الثقافية

مقابل عجز وعقم المؤسسة الرسمية في حقول الثقافة والإعلام، نجد أن الثورة أبدعت أشكالاً جديدة للخطاب الإعلامي والثقافي، بدءاً من إعلام المواطن البديل الذي يعتمد كاميرا الهاتف المحمول، حيث يلتقط اللحظة الساخنة للمظاهرات الاحتجاجية وما قد تتضمنه من إطلاق للنار أو استهداف للمتظاهرين، وصولاً إلى توثيق الكثير من الحالات، ودعم تقارير المنظمات الحقوقية العاملة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وعن حرية الإعلام والتعبير، مستخدما مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتويتر لتوصيل صوته وصورته التي أصبحت مصدرا شبه وحيد لتزويد الفضائيات العربية والدولية بالأخبار والمعلومات حول ما يجري في سورية، وكان نجاح هذا الإعلام البديل قائما في بساطة أدواته، وفي قدرته على تغطية جميع الأحداث في مساحة الجغرافيا السورية.

ورغم سياسة التضييق على الإنترنت في سورية، يمكن القول بثقة ان مواقع الإعلام المناصرة للثورة في تزايد مستمر، بل رأينا صدور عدد من الصحف الإلكترونية الأسبوعية والشهرية أحصينا منها تسع صحف شبه منتظمة الصدور، نذكر من هذه الإصدارات: ‘صوت الحق’ و’أخبار المندس’ و’البديل’ و’حريات’ و’نادي الإعلام’ و ‘سوريتنا’ وغيرها كثر، مع تفاوت في سوياتها المهنية والفنية، كذلك الأمر اعلنت إذاعة ‘واحد زائد واحد’ عن انطلاقها كأول إذاعة سورية حرّة ومستقلة تبثّ إرسالها من موقع إلكتروني، تنقل أخبار الثورة وتبث أغانيها وتعرف بمجريات الأحداث.

فالشارع السوري المنتفض لم يبدع دراما التظاهرات السلمية فقط، بل نستطيع القول انه صنع دراما جديدة، بل هو صنع ثقافة جديدة للحياة، شملت مجالات الأغاني والأهازيج، ومجال الرسم والكاريكاتير، ومجال الصورة ومقاطع الفيديو، وإذا كان النظام حاول النيل من رسام الكاريكاتير علي فرزات، فها هم ثوار حمص رغم المآسي التي تعصف بهم يبدعون في كل لحظة كاريكاتيراتهم الخاصة، بوري صوبيا يطلق قذائف الباذنجان، ومجسمات لساحات لم يتمكنوا من الوصول إليها، وفي ريف إدلب وحوران تحولت التظاهرات إلى كرنفالات حقيقية تشارك فيها أغلب فئات المجتمع، كرنفالات من الأهازيج والأغاني، ومن الشعارات الساخرة ومن رسوم الكاريكاتير المعبرة، التي لم تستطع آلة الموت أن تحدّ من قوتها بعد.

ويمكن للمتابعين على شبكة النت مشاهدة الكثير من الأعمال الفنية في الرسم والصورة، وفي مقاطع الفيديو وصولا إلى مسلسلات اللقطة السريعة والنكتة المعبرة، من ذلك هذه اللقطة التي تعرف بالفنانين الشرفاء: ‘الشرفاء’ مسلسل رمضاني، بطولة مي سكاف وفارس الحلو وخالد تاجا، بهذه الجملة وتصميم فني عبّر ناشط عن تضامنه مع الفنانين الثلاثة، هو عمل من عدد هائل من الإبداعات سطرها مجهولون ونشروها عبر الانترنت من خلال مجموعة ‘صور الحرية للمثقفين السوريين وصوت الفكر السوري’.

وشاهدنا أيضا أفلاما كارتونية قصيرة باسم ‘قصر الشعب’ على اليوتيوب، كذلك فيلم ‘ويكي شام’ وآخر بعنوان ‘عنزة ولو طارت’، وهي أفلام ساخرة تتناول علاقة النظام السوري بإيران. وأغلب هذه الأعمال تأتي مسلسلة في حلقات كرتونية قصيرة.

لكن المسلسل التمثيلي الأهم بعنوان ‘حرية وبس’، الذي يعيد إلى الذاكرة مسلسل سوري سابق بث قبل سنوات ‘ما في امل’، ففي كل حلقة من حلقات ‘حرية وبس’ نشاهد شخصين جالسين حول طاولة في جو ‘سوريالي’، ينتقدان بشكل ساخر وساحر عنف وعبثية النظام القائم في سورية، مما يؤكد سقوط جدار الخوف عند الفنانين.

الطريف بهذا الصدد أن المنتمين لمعسكر الثورة قاموا بالرد على إجراء النظام بإلغاء مهرجان دمشق السينمائي بإطلاق مهرجان سينمائي بديل باسم مهرجان ‘سورية حرة’ وقد استمر لمدة أسبوع كامل على النت أيضاً، تحت شعار ‘السينما في ساحة الحرية’.

واللافت للانتباه أن ذلك الإبداع يأتي رغم قلة الإمكانيات، ويأتي في ظرف الشدة، فكيف لهؤلاء الشباب أن يصنعوا إعلامهم المهم في وقت يعجز فيه النظام ومؤسساته عن صناعة إعلام حقيقي؟ وكيف لهم أن يبدعوا دراما ناجحة مصورة بوسائل رخيصة في زمن تتراجع فيه شركات الإنتاج الدرامي العملاقة؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى