أحمد باشاصفحات الثقافة

الثقافة السورية 2016: في المنفى الكبير/ أحمد باشا

 

 

حملت 2016 لحظات عصيبة على السوريين وقضيّتهم، فشكّل ما جرى في حلب في الأسابيع الأخيرة، بكلّ ما يحمله من ثقل رمزيّ للقضية السورية، فصلاً قاسياً من المأساة المتعاظمة، خصوصاً مع انسداد أفق التحرّر وتضاؤل إمكانية حلّ قريب.

كان مشهد حلب الأخير خانقاً لشعاع أمل لا يبارح رؤى السوريين بإمكانية العودة المرتقبة. قبل الحدث الأخير، حصلت تغيّرات عميقة طرأت على حركة السوريين نحو منفاهم الكبير، وقد ارتأت التوافقات السياسية وجوب إبعاد القوارب عن أوروبا وأراضيها، فصارت حركة “البلم” (قوارب المهاجرين المطاطية) ضمن المياه الدولية شبه نادرة مع ربيع 2016.

مع العامين الماضيين، كان لجوء السوريين وغيرهم من معذّبي الأرض حدثاً عالمياً، إن صحّ التعبير، لذلك فإن الحديث عن الثقافة السورية في المنافي مرتبط بخريطة “العالم الأول” الذي شهد تصاعداً غير مسبوق لخطابات متطرّفة تعلن صراحة ودون خجل إمكانية التعاون مع نظام الأسد وداعميه، الدعوة التي كانت مدعاة للخجل قبل 2016. ضمن هذا الإطار، يمكن قراءة ما أنتجه السوريون في منافيهم.

لعل من بين أهم الملاحظات التي يمكن تسجيلها هو بداية تبلور الشعور بضرورة توفير جهد جماعي ينظّم العمل الفني السوري في دول اللجوء، خاصة تلك التي تقطنها أعداد كبيرة من السوريين كألمانيا، فرأينا بضع تظاهرات ومحاولات تحاول كسر الصورة النمطية للاجئ عبر نشاطات توجّه خطاباتها للسوري والأوروبي على حد سواء.

من هذه التجارب على سبيل المثال كانت تظاهرة “مساحات الأمل” التي عملت على جمع الفنانين السوريين في أوروبا، لا سيما الشباب، موفرة وسيلة فعّالة لتقديم نتاجاتهم الفنية من رسم ورقص وموسيقى ومسرح. وفي ألمانيا أيضاً، شهدنا عملاً جماعياً آخر يسعى إلى تقديم نصوص وأعمال الكتّاب والفنانين السوريين في المنفى، وهو صدور “سيروس لوك” (سوريون في ألمانيا) وهي مجلة ثقافية سورية في المنفى تحاول مخاطبة المتلقي الغربي باللغة الإنكليزية.

ليس بعيداً عن بلاد غوته، أطلق الموسيقي شفيع بدر الدين “أوركسترا أورنينا” خلال حفل غنائي في لوكسمبورغ قدّم فيه مواهب غنائية (رشا رزق، شادي علي، علي أسعد)، وهو المعروف سورياً بهاجس الاشتغال على الموسيقى الشرقية منذ عمله الأشهر “كونشيرتو الناي”. صحيح أن عمل بدر الدين لم يكن الحفل الموسيقي السوري الأول في أوروبا خلال السنوات الخمس الماضية، لكن ما يميّزه هو الاشتغال على الأغنية الشعبية السورية غير المستهلكة والتي تشكل جزءاً من الذاكرة السورية لكن تعالي النخبة الموسيقية، خلال عقود خلت، تركها عرضة لشروط السوق الاستهلاكي أو للنسيان.

أما في المسرح، فقدّم المخرج عمر أبو سعدة نص “بينما كنت أنتظر” لـ محمد العطار ولعلّه أبرز عمل مسرحي سوري خلال السنوات الخمس الأخيرة، حيث يعتمد على الراهن كمادة أساسية يوازيها عمل دراماتورجي حيّ متواصل مع استمرارية الحدث السوري.

حقّق العمل حضوراً لافتاً على خشبات المسارح الأوروبية خلال 2016، وكذلك أثناء عرضه في “مهرجان الخريف” في باريس، و”مهرجان أفينيون” ليكون أول مخرج مسرحي سوري يشارك عمله في البرنامج الرسمي لهذا المهرجان، وحظي هناك بإشادات الجمهور والنقاد على حد سواء.

“بينما كنت أنتظر” هو حصيلة جهد جماعي مكثّف ابتداءً من الشراكة القديمة بين العطار وأبو سعدة، مروراً بسينوغرافيا بيسان الشريف، وانتهاء بالأداء التمثيلي لـ أمل عمران وفاتنة ليلى ومحمد آل رشي.

في المسرح أيضاً، استمر بعض المسرحيين السوريين بتقديم قراءات مسرحية لا سيما في لبنان، وهنا يبدو أن صنّاعها يقدّمونها ليس لسبب فنيّ بحت بل لأسباب إنتاجية ولوجستية أيضاً، ولعلّ تجربة المسرحي السوري ساري مصطفى من بين التجارب القليلة التي تشذّ عن السياق الاعتباطي السابق وتحديداً في عمله الأخير “تيكي تاكا”.

اللوحة التشكيلية السورية استمرّ حضورها الأساسي في المشهد العربي في 2016، وذلك من خلال معارض فردية في بلدان الجوار وبلدان اللجوء البعيدة، كما أنها خلقت نقاشاً حيوياً حول الثيمات المطروحة، وخصوصاً المتكرّرة منها، لا سيما تصوير العنف وعرضه، ويبدو أنه ليس من باب المصادفة أن هذا السؤال طرحته الفنانة السورية سلافة حجازي خلال معرضها “صور متحركة” في كوبنهاغن الشهر الفائت.

سينمائياً، وكما أتيح لنا في السنوات الماضية مشاهدة أفلام تعالج الحدث السوري وتعرضه بأسلوب فني مثل أعمال أسامة محمد وزياد كلثوم وطلال ديركي وغطفان غنوم ورأفت الزاقوت وغيرهم، أتيح لنا هذا العام أيضاً أن نشاهد أعمالاً جيّدة لعلّ أبرزها “ذاكرة باللون الخاكي” لـ الفوز طنجور، الفيلم الذي ينضمّ بشاعريته وبلغته البصرية الخاصة إلى قائمة الأفلام البارزة التي كان الراهن السوري مادتها الأساسية.

أخيراً، يبدو من نافل القول أن “الأدب السوري” في هذا العام كان أيضاً ذا ملامح ضبابية، أدب قوامه بضعة إصدارات روائية ومجموعات شعرية مغرقة في الذاتية، مع صعوبة الحديث عن ملامح خاصة للكتابة السورية الجديدة. كذلك أقيمت القليل من القراءات والمهرجانات الشعرية في بلدان اللجوء، لكنها لم تستطيع تشكيل حالة من الحرفية في التنظيم والبرمجة التي يستدعيها الواقع الجديد.

تتالت الأحداث التراجيدية في عام 2016، وانتهت بأكثرها فجائعية عبر مشاهد حلب المدمّرة، ويبدو أن منفى السوريين بعد هذا التاريخ سيطول أكثر، لذلك لا بد من جهد جماعي منظم، بدأنا نشهد بداياته في العام المنقضي، وهو ما من شأنه أن يعيد بأساليب فنية وأدبية سرد حكاية السوريين في منصات وصالات وسينمات ومسارح وشوارع العالم.

ترديد هذه الحكاية وحمايتها هو الأداة الوحيدة التي يملكها السوريون وهي إحدى الروابط التي تجمعهم في منفاهم الكبير، ولعل بإمكانها أن تجعل من أجسادهم جسراً بشرياً يمتدّ من المنفى حتى البلاد التي يعرفونها ويألفون خريطتها.

______________________

بكائيات عالمية على تدمر

بعيداً عمّا أنتجه مثقفوها وفنانوها، كانت الثقافة السورية حاضرة عالمياً في 2016 من خلال آثار تدمر. لم تخل الصحافة الأوروبية أو مؤتمرات المؤرخين والأثريين من الحديث عما آلت إليه أوابد تدمر بأيدي عصابات المتطرّفين التي استولت على المدينة الأثرية قبل أن “يستعيدها” النظام ويستثمر ذلك سياسياً على أوسع نطاق. تدمر كانت حاضرة أيضاً في معارض عديدة ولعل جزءاً من آثارها المنهوبة في طريقه الآن إلى متاحف أوروبية.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى