صفحات الرأي

الثوار يتشابهون وكذلك الأنظمة

 


محمد المصري

منذ اندلعت أحداث الثورة التونسية والمنطقة العربية تشهد تحركات شعبية ذات طبيعة ثورية، فلا نكاد نتابع حركة الشارع في دولة حتى ننتقل لمتابعة التظاهرات والاحتجاجات في دول أخرى، حتى أصبحت سمة المنطقة العربية اليوم هي انتفاض شعوبها.

وبعد سنوات كانت الأنظار تتركز على قرارات الحكومات وتصريحات السياسيين، فأصبحت الشوارع العربية اليوم هي مركز الحدث وصناعة التاريخ.

ويبدو هذا الانتقال في التحركات الثورية الشعبية من دولة إلى أخرى، ومدى التشابه بين تحركات الشارع في أغلب الدول على المستوى التنظيمي وعلى مستوى الأجندة أمرا جميلا ومدهشا.

ثلاثة عوامل رئيسية تلعب دورا أساسيا في انتقال هذه التحركات الشعبية وفي تطابق أجندتها السياسية، وهي: الهوية الجمعية العربية، وتشابه ظروف المواطنين، وأدوات التغيير الجديدة.

لقد تأسس العامل الأول منذ انطلاق الثورة التونسية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 وتطوراتها، ومع انطلاق الثورة المصرية في 25 يناير/كانون الثاني، كان المواطن العربي يتابع مجريات تلك الثورات متابعة دائمة، وهي الحال نفسها في اليمن وليبيا والبحرين والأردن.

لم تكن متابعة المجريات هي متابعة أحداث تجري في دولة مجاورة أو دولة من دول الإقليم. لقد تابع مواطنو المنطقة ثورة تونس ومصر بوصفها حدثا داخليا يهمهم مباشرة، لقد كانت صور الضحايا والجرحى والمواجهات مع قوى الأمن، وخطابات بن علي ومبارك شأنا داخليا لمواطني المنطقة العربية. إذ تابعوا وحللوا التطورات وشكلوا وجهات نظر كما لو كانوا في ميدان التحرير أو شارع بورقيبة أو القصبة.

إن كل نجاح كان يحققه الثوار في تونس ومصر كان يعده مواطنو المنطقة نجاحا خاصا بهم، فالتظاهرات التي اندلعت في أغلب العواصم العربية تأييدا لثورتي تونس ومصر قبيل رحيل رئيسيهما والاحتفالات العفوية التي سادت الشارع وبأعداد كبيرة عند رحيل الرئيسين كانت تعكس مدى التماهي بين الثوار في تونس ومصر ومواطني المنطقة العربية.

فشعوب الدول العربية في فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر أعادت اكتشاف هذا الرابط السري بين كثير من مواطنيها، هذه الهوية الجمعية الكامنة والتواقة إلى حدث تاريخي تستطيع أن تعبر فيه عن نفسها.

صحيح أن الشعوب العربية تمتلك الكثير من الخصوصيات من جهات متباينة وتمايز اقتصادي واجتماعي وتباين في التقاليد والعادات من ناحية وتفاصيل تطور تاريخها الوطني وأطرها التشريعية والإشكاليات اليومية التي يعيشها مواطنو كل دولة على حدة، إلا أنها تمتلك في الوقت نفسه هوية جمعية وعاملا موحدا يخترق هذه الخصوصيات ويتعايش معها، ويعيد إنتاجها ليصبح جزءا أساسيا منها دون أن يقصي ويلغي هذه الخصوصيات ويؤدي الى ربط مواطني دول المنطقة العربية بعضها ببعض.

هذه الهوية الجمعية القائمة على لغة واحدة مفهومة ومعروفة وقادرة على أن تكون أداة تواصل بين أكثرية مواطني هذه الدول حتى بين التكوينات الإثنية المتباينة في المنطقة هي عامل أساسي، كما أن عوامل جمعية ذات بعد ثقافي وتاريخي ومشاعري تجعل مواطني المنطقة العربية ذا حساسية بالغة لما يجري في دول منطقتهم.

فهم ليسوا بحاجة إلى إطار إيديولوجي أو إعادة إنتاج لأفكارهم السياسية والانتماء إلى إطار فكري سياسي محدد حتى يصبحوا حساسين لما يجري في دول المنطقة العربية. وعليه فإن تفاعل مواطني المنطقة العربية مع أحداث في دول غير عربية يحتاج إلى كل ما سبق، ولنا أن نستذكر محدودية تفاعل الشارع العربي مع سقوط الديكتاتورية في إندونيسيا المسلمة.

إن مراقبة شعارات وأغاني الثوار في مصر وتونس يعكس سهولة انتقال الشعارات الحديثة والمخزون العربي لدى هؤلاء الثوار الذين حوروا أغاني المقاومة في لبنان والثورة الفلسطينية إلى نهج يتبع. وعليه لم يكن غريبا أو مستهجنا أن يتوجه الثوار في مصر بعيد خلع مبارك إلى سفارة ليبيا للتظاهر تضامنا مع الثوار هنالك، وحين كان ثوار تونس يعلقون اعتصام القصبة 2 بعد سقوط حكومة الغنوشي كانوا يهتفون باللهجة التونسية “افتحوا لنا الحدود لنساهم في تحرير ليبيا وفلسطين واليمن”.

هذه الهوية التي انطلقت لتعبر عن نفسها تؤسس لأبعاد جديدة، فبعد أن تغذت على مقاومة الاستعمار وتحقيق الاستقلال ومقاومة الصهيونية، تضيف اليوم أبعادا جديدة، وهي الحرية والديمقراطية وإنهاء الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية لتصبح أغنية العرب الجديدة: الشعب يريد إسقاط النظام… الحكومة… الرئيس.

بالإضافة إلى هذا البعد العربي، فإن العامل الثاني: وربما الأهم هو أن عناصر التشابه بين ظروف المواطنين العرب عالية جدا، كما أن التشابه بطبيعة الأنظمة العربية هو عال جدا.

فالمواطنون العرب يواجهون، وبدرجات متفاوتة، ظروفا تكاد تكون متطابقة. وفي أكثرية الدول العربية يقف المواطن أمام دول كانت غير قادرة، بل وفاشلة في تحقيق وعود دولة ما بعد الاستقلال من بناء دول حديثة قادرة على تحقيق منجزات اقتصادية واجتماعية لمواطنيها من ناحية وقادرة على أن تكون دولا فاعلة في الإقليم في إطار المحافظة على مصالحها الوطنية.

أدت السياسة المتبعة من قبل أنظمة الحكم العربي إلى أربع سمات أساسية، وإن تباينت في مدى عمق هذه السمات من دولة إلى أخرى:

فالسمة الأولى وعلى مدار ثلاثة عقود مضت هي اتباع سياسات اقتصادية تدفع ببرامج الخصخصة وانسحاب الدولة من نشاطها الاقتصادي الأساسي، خاصة في تأمين التعليم والرعاية الصحية وتأهيل المواطنين للتنافس المتكافئ في سوق العمل، غير أن عقلانية آليات السوق الحر التي أصبحت شعارا لهذه الأنظمة لم تؤد إلى النمو الموعود بل أنتجت معدلات بطالة عالية ونسبا مرتفعة ومتزايدة للذين يعيشون تحت خط الفقر ودخلا سنويا متواضعا للفرد وتفاوتا طبقيا صارخا.

مقابل فشل هذه الأنظمة اقتصاديا واجتماعيا، أنتجت هذه الأنظمة سمة جديدة هي ميلاد مجتمعات أعمال جديدة أثرت وكونت إمبراطوريات رأسمالية ما كانت لتستطيع الاستمرار لولا برامج الخصخصة غير المحايدة والفاسدة التي أدت إلى اندماج نخبة اقتصادية مع نخبة سياسية في نخبة جديدة أصبحت تعرف في الشارع بالأرستقراطيات الرأسمالية السياسية السلطوية.

لقد أسست هذه الأرستقراطيات حلقة مغلقة تراعي مصالح اقتصادية مدعومة بسلطوية الأنظمة وأدواتها الأمنية. إن شروط نجاح مستثمر كبير تبدأ من أن يصبح جزءا من هذه الحلقة، وإلا فمصير استثماره في مهب الريح.

إن شروط دخول هذه الحلقة معروفة للجميع تبدأ بالمشاركة في الاستثمار والرشى والاحتكار المباشر أو غير المباشر لقطاعات اقتصادية برمتها. كما يعكس تحليل النخب الاقتصادية السياسية أن مقدرات الدول قد جزئت بين دوائر مترابطة ومتعاونة ومتحالفة، وأحيانا متصارعة على الغنائم.

أما السمة الثالثة فهي اعتماد هذه الأنظمة في العقود الثلاثة الماضية على مبدأ أمننة المجتمع، بحيث تحول دور الأجهزة الأمنية من دور مهني أو شبه مهني، أي أجهزة تقييم الظروف العامة وتقدم التوصيات إلى صناع القرار السياسي إلى دور الشريك الأساسي (ويكاد يكون الأهم) في صناعة القرار السياسي بصرف النظر عن طبيعة هذا القرار.

فيمتد نشاط الجهاز الأمني من مراقبة النشطاء المدنيين والسياسيين ليكون صاحب القرار الفيصل في تأسيس أي جمعية أو منظمة غير حكومية أو حزب سياسي، وليصبح صاحب الفضل في تزكية الوزراء والمديرين العامين، وامتدت الأمننة لتشمل رؤساء الجامعات وعمداء الكليات وحتى الأساتذة الجامعيين وأمننة الصحافة والمجتمع المدني.

وكرس هذا الأمر بسلسلة من القوانين والتشريعات المقيدة لحرية التنظيم والتجمع التي تتيح لأجهزة الدولة الأمنية أن تكون المرجعية الأولى. وتكاد نصوص هذه التشريعات الفضفاضة التي تتيح للدوائر الأمنية كافة التفسيرات الاعتباطية لتقييد حرية المواطن أن تكون متطابقة في جميع الدول. كل شيء مسموح ما عدا “ما يهدد الوحدة الوطنية ويثير الفتنة … إلخ”.

إن نشطاء المنطقة العربية يرددون القصص نفسها عن صحفي الأمن، ومنظمات المجتمع المدني التابعة للأمن، وسياسيي الأمن، ووزراء الأمن، فقرار إتاحة النشاط السياسي والمدني هو قرار أمني بامتياز، وقرار التشغيل والتوظيف أو الارتقاء في السلم والوظيفي هو قرار أمني أيضا. وبذلك أصبح المجال العام مجالا امتداديا للدولة أو جزءا من الدولة.

وكرس هذا أن هذه الأجهزة التي خرجت عن إطار صلاحياتها القانونية والدستورية كانت غير مراقبة ومحاسبة، بل هي اليد غير المرئية التي تتدخل في جميع مقتضيات الحياة اليومية للمواطن. يعرف بوجودها ولا يستطيع انتقادها أو الحديث عنها. وعليه فقد أصبح لدينا جيوش من الوزراء والسياسيين الذين هم مجرد موظفين تنفيذيين للأجندة الأمنية.

وتم تحويل المواطنين إلى مستمعين ومشاهدين وغرباء عن صناعة القرارات والسياسات، هذه السياسات التي تمسهم بشكل مباشر وواضح.

بالإضافة إلى إطباق الأنظمة على المجال العام وتحويله إلى حيز تحت سيطرة الدولة، كرست هذه الأنظمة سمة تكاد تكون مشتركة بينها، فقد سطت أيضا على ما يمثل حسب نصوص دساتير معظم الدول العربية المؤسسة التمثيلية للمواطن، وهي مجالس النواب.

فنظريا يقوم المواطن من خلال هذه المجالس بالمشاركة في وضع السياسات. ويقوم من خلال صناديق الاقتراع إما بتجديد الثقة لهذه السياسات والقائمين عليها أو مراجعتها جزئيا أو جذريا.

لقد قامت النخب الحاكمة بمراجعة قوانين الانتخاب لتتيح دائما أغلبية مريحة لها، بل وذهبت بعيدا في التدخل بمفردات العملية الانتخابية كافة، بحيث أصبحت الانتخابات انتخابات مزورة وبامتياز وفي وضح النهار.

فالمواطن في المنطقة العربية، منذ سنوات، لم يعر الانتخابات أي أهمية، على افتراض أنها ستكون غير نزيهة، ولن تكون قادرة على تغيير السياسات. لقد تحولت مجالس النواب من مؤسسات تمثيلية لتؤدي دور اسثنائياً، فهي وسيط بين المواطن والسلطة لتقديم خدمات محدودة، أي مثلها مثل منظمات المجتمع المدني، إنها أصبحت أداة تعيد بث دعاية النظام الحاكم في بعض المفاصل المهمة، مثل: تجديد البيعة، وتوريث الحكم … إلخ.

لقد أصبحت الأنظمة العربية عبارة عن تفاعل بين ثلاث حلقات مترابطة بعضها ببعض، وتتمحور حول رأس الدولة: وعائلة رأس الدولة، وحلقة الاقتصاديين والسياسيين ودوائر الأمن.

أما العامل الثالث فنتيجة للتماهي الكبير بين مواطني المنطقة العربية مع التجربة التونسية ومن ثم المصرية بفعل الهوية الجمعية وتشابه الظروف، فإن المواطن العربي، وبشكل يومي، يقوم ببناء إطار معرفي جديد أساسه أن هنالك طريقا جديدا للتغيير في المنطقة جوهره المضي نحو الشارع، وتنظيم التظاهرات المطالبة بالتغيير السياسي.

لقد تابع المواطن العربي وتفاعل مع أدوات التغيير الجديدة، فهو اليوم ليس بحاجة إلى قوى سياسية أو مدنية أو اجتماعية منظمة تحدد له موعد وأجندة وأسلوب المطالبة بالتغيير.

وهو غير تواق إلى ممارسة ما قد تعوده من الأدوات السابقة، أي الحوار اللانهائي مع السلطة من أجل الحصول على حقه في أن يكون شريكا في الحكم ومواطنا وليس رعية.

فحتى إن أراد اليوم أن يدخل حوارا مع السلطة فلا بد أن يمر بداية عبر الشارع حتى يعيد خلق توازن القوة بينه وبين السلطة من أجل الدفع بأجندته.

فزمام المبادرة يكمن اليوم في الشارع من خلال تظاهرات ذات أجندة ومطالب واضحة ومباشرة، ليس هنالك حاجة إلى المواربة في الشعارات، فالمواربة وتخفيف أو تجميل الشعار يتيح إعادة إنتاج للسلطة وأدواتها.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى