إيّاد العبداللهصفحات سورية

الثورات العربية: طور شرعية جديدة


إياد العبد الله *

أنظمة ما بعد الاستقلال تحتضر، وقد فشلت في محاولاتها تجديد شبابها في العقدين الأخيرين، هذا ما أعلنته الثورات العربية. فهذه الأخيرة جاءت لتبني شرعية جديدة على أنقاض شرعية الأنظمة التي أخذت تتعفن منذ عقود. ولعل في طلب الحماية والتدخل من المجتمع الدولي (وهم من كانوا دول الاستعمار سابقاً) لوقف بطش الأنظمة بشعوبها، دلالة على تآكل الشرعية السابقة ومن يمثلها. ولا يعني هذا أن استقدام الاستعمار أو الارتهان له هو ما ترمي إليه الشرعية الجديدة، فهذه الشعوب حساسة تاريخياً تجاه أي «غريب» يحاول أن يسرق صوتها ويجعلها بلا شخصية. ولعل تأكيد هذا الأمر ليس عسيراً، فعودة إلى أدبيات القرن التاسع عشر كفيلة ببيان جذور «الممانعة» اللاحقة للغريب المستعمر. آنذاك كان الارتهان الى الغرب والدعوة للالتحاق به هو لسان حال نخب سياسية واقتصادية وثقافية، وكانت معزولة غالباً من جانب مجتمعاتها، لأجل هذا السبب. وليس أفضل حالاً بكثير مآل ذلك الخطاب الذي دعا إلى تمثل بعض القيم الغربية عبر نقد المجتمعات المحلية والتساؤل عن تأخرها، مع أن بعض هذا الخطاب لم يعدم تناول الوجه الاستعماري للغرب بالنقد أيضاً، والخطاب النهضوي هو المقصود في حالتنا الأخيرة. وليست هذه «الممانعة الأولى» المتشددة حيال «الآخر» بكليته، محط ترحيب في هذا المقال، وذكرها هنا للإشارة إلى حساسية هذه الشعوب السابقة على ما سيدعيه الاستبداد العربي في أزمان لاحقة من أنه حامي الحمى وأنه الوحيد المؤتمن على حماية قيم الاستقلال والتحرر والحذر من «الغريب». في الواقع، لقد بنى هذا الاستبداد شرعيته عبر استثمار هذه الحساسية الشعبية، وهو ما نشهد نهايته الآن.

كانت «العروبة الأولى» من أهم الخارجين على سرب «الممانعة الأولى» التي كان يغلب عليها المضمون الإسلامي. فهذه العروبة طرحت نفسها كمشروع هوية بديلة، وعرّفت ذاتها بعناصر لم يكن «الإسلام» إلا أحدها في أحسن الأحوال. لقد كانت محاولة لدخول عصر رسمه آخرون، «يسعون» إلى طمس «هويتنا» واحتلالنا، وهو ما قد يرفعها إلى درجة الخيانة في نظر «الممانعة الأولى». إذ لا يخفى أن هذه العروبة كانت تسعى في البداية إلى استقلال نسبي عن العثمانية الإسلامية، وهو ما يعني إضعاف هذه الأخيرة التي تحف بها الأخطار من كل جانب.

انزياح العروبة عن لحظتها الأولى باتجاه الممانعة، جاء إثر غدر «الغرباء» بها، الذين حالفتهم ضد القريب، وحرمانها من تحقيق ما وُعدت به. سيكون هذا في بداية العقد الثالث من القرن المنصرم، وهو عقد سيشهد ولادة الأيديولوجيات والقوى الجماهيرية التي ستتقاطع في عدائها للغرباء ووجوب التصدي لمؤامراتهم والتحرر منهم، مستعينة بما راكمته «الجماهير» من خبرات وعاطفة على هذا الصعيد.

«الممانعة» الأخيرة، السلطوية، والتي تعود جذورها إلى بضعة عقود، هي من طبيعة قومية – يسارية. وتآكل شرعيتها كان سابقاً على لحظة انتفاضة الشعوب الأخيرة. فالملايين التي كانت تسير تحت راية القومية العربية، الناصرية والبعثية، أو تحت راية لينين الحمراء، أخذت تحول رحلها، منذ السبعينات من القرن الماضي، نحو «الإسلامية» الممانعة بدورها، خصوصاً أن الخمينية ستشكل تجربة لن يتورع حتى «تقدميون» عن الإشادة بفرادتها. الممانعة الأخيرة، الإسلامية، أيديولوجية بطبيعتها، وستنتهي إلى استبداد مماثل إلى حد كبير لذلك الذي بنته العروبة السلطوية.

في مرحلتها الأخيرة، تعرت هذه الأخيرة من كل شيء إلا من البطش والاستئثار بثروات البلاد. وتحول مضمونها «الممانع» إلى أداة هيمنة وضبط تكتسب حضورها من قوة الطوارئ لا من إيمان الناس بها. وما المهازل التي كانت تجترحها في ملاحقة الناشطين والمثقفين وتوزيع تهم عليهم مستمدة من قاموس ممانعتها، كوهَن نفسية الأمة وإضعاف الشعور القومي مثلاً، إلا دليل على شرعية متآكلة، تجاهد لتبقى على قيد الحياة.

تشكك هذه الأنظمة، ومن يناصرها، بدوافع المنتفضين عليها. هذا التشكيك يستعير من عدة التخوين والممانعة والثوابت مفرداته. والمفارقة أن هذا الشعب المخوَّن هو الشعب ذاته الذي كثيراً ما رقص سادة الممانعة على أنغام وعيه الذي فوَّت على الأعداء نجاح مؤامراتهم. إذاً، الناس تثور عليهم لأنهم أهل ثوابت قومية وممانعون، وليس لأنهم مستبدون وناهبون! والمشكلة أنهم لا يقولون أي شيء عن هذين الأخيرين. فالاستبداد الممانع، وإن داس على كرامة شعوبه من جهة، إلا أنه من جهة أخرى حفظ ماء وجهها وكرامتها القومية أمام الآخرين؛ وفق هذا، تبدو انتفاضة الشعوب وكأنها ثورة لنزع ما تبقى لها من كرامة كانت باقية بفضل المستبد! فالشرعية الجديدة للشعوب، تلتقي فيها عناصر عدة، كانت الثورات العربية كفيلة بإبرازها. فهي أقل حساسية تجاه الغريب/ الخارج؛ ليس بالمعنى الذي تسوِّقه «الممانعة» السلطوية، بل بكونها أكثر انفتاحاً وقراءة لمصالحها في ضوء العلاقة معه، وهي في هذا، إذ تستعيد بعضاً – ربما – من حساسية «العروبة الأولى» حيال الخارج، فإنها في الوقت ذاته لن تكون «لينة» أمامه. فهذه الشعوب الثائرة، التي تموت في الساحات لأجل كرامتها وحريتها، لن تتهاون في نيل استقلالها الكامل.

إن الحرية التي تنشدها الثورات العربية، لم تعد معرّفة وحسب بدلالة الخارج، بل إنها ذات مضمون دستوري حقوقي وعادل، ربما يجد في انتخاب المنصف المرزوقي رئيساً لتونس، أهم دلالاته.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى