صفحات العالم

الثورات العربية في مرآة الكونغرس الأميركي: … انها سرقات ربيعية

 


حسن شامي

خلافاً لممارسات بلاغية شائعة، ليس سهلاً إجراء المقارنة، أو الموازنة، بين ظواهر تتشابه من حيث الشكل والعرض فيما تندرج مضموناً وواقعاً في سياقات تشكل تاريخي واجتماعي مختلف ومتباين على غير صعيد.

نعلم أن المقارنات، على فائدتها في الكشف والإبانة، لا تكون دائماً مناسبة وموفقة كما لا تنجح في تفسير والتقاط الدلالات الفعلية. التحفظ حيال المقارنات وعدم تجاوز حدودها مفيد، وضروري أحياناً. مع ذلك لم يترك لنا فرسان الكونغرس الأميركي، خلال الدقائق الأربعين لخطاب بنيامين نتانياهو، فرصة لمقاومة إغراء المقارنة بين تبجيل «الضيف» المفترض وبين طقوسيات المفاخرة الطنّانة بالولاء والطاعة في نظم سلطوية واستبدادية تستند إلى انصياع المحكومين بلا كيف، وتجعل من هذا الانصياع نهجاً لاشتغال السلطة.

في النظام السلطوي يكون ممثلو الشعب أشبه بالزبائن والأتباع والمستفيدين والمقرّبين، بالنظر إلى مصادرة الحياة السياسية واحتكار النخبة الحاكمة لحرية التصرف بالبلاد. والأدهى من ذلك هو أن هذا المنطق قابل للتمدد داخل دوائر السلطة نفسها في لعبة تنافس على الموقع والنفوذ وتكريس الحظوة. بل حتى يمكن أن يتمدد هذا المنطق أحياناً إلى تشكيلات معارضة. نفهم، من دون أن نستسيغ طبعاً، أن يعرض نواب في مجلس الشعب السوري فنونهم في التعبير عن المداهنة وعرفان الجميل، في أحسن الأحوال، وعن الخوف من فقدان الحظوة، في أسوئها. يصبح الأمر محيراً وعصياً على الفهم في بلد ديموقراطي مثل الولايات المتحدة. فقد قابل أعضاء الكونغرس خطاب «الضيف» الإسرائيلي بحماسة استثنائية وصفقوا، وقوفاً في أحيان عدة، 29 مرة لكلمة استغرقت أربعين دقيقة، أي أنهم صفقوا تقريباً كل دقيقة ونصف دقيقة. نشك في إمكانية أن يحصل ذلك مع أرسطو في حال انبعاثه من قبره. ويخيل للمراقب أنه لا بدّ أن يكون هناك شيء غير مسبوق وخارق في كلمة نتانياهو. فما عساها تكون هذه الحكمة الاستثنائية التي نثر فصوصها ولآلئها على أصحاب العقول النيّرة في الكونغرس كي يحظى بهذا التصفيق المتصل؟.

قال الرجل غامزاً من قناة خلافه مع الرئيس الأميركي باراك أوباما إن إسرائيل لن تعود إلى حدود 1967، «حدود لا يمكن الدفاع عنها». كان في مقدور أي تلميذ أن يسأله عن معنى هذه العبارة ما دامت قوات الدولة العبرية عبرت هذه الحدود واحتلت أراضي عربية واسعة خلفها خلال أيام قليلة. هل ينبغي أيضاً، وبالتالي، اعتبار الانسحاب من سيناء خطيئة قاتلة تستدعي التصحيح؟. لكن أعضاء الكونغرس صفقوا. وقال الرجل إن القدس لن تقسم أبداً، وعلى القدس أن تكون العاصمة الموحدة لدولة إسرائيل. وصفقوا وهم يعلمون بعدم شرعية احتلالها. وقال إن حل قضية اللاجئين الفلسطينيين سيكون خارج حدود إسرائيل. وهو يقصد بكلامه هذا أن هؤلاء لا تاريخ لهم ولا لنزوحهم القسري عن أرضهم. خروج الفلسطينيين من الجغرافيا ومن التاريخ هو أصلاً حادث من حوادث الطبيعة. ليس للفلسطيني حكاية، بل له فقط قدر. مثله مثل الهنود الحمر. وصفق أعضاء الكونغرس. وشدد نتانياهو على أن المستوطنين في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) ليسوا قوة أجنبية محتلة، وأن إسرائيل ليست دولة كولونيالية، «نحن لسنا البريطانيين في الهند، ولسنا البلجيكيين في الكونغو، نحن لسنا محتلين غرباء. هذه أرض آبائنا، أرض إسرائيل». وتساءل تساؤل المستنكر عن أي تزوير تاريخي (كذا) يستطيع إنكار أربعة آلاف سنة علاقة بين الشعب اليهودي والأرض اليهودية. مع أن ورثة الأنوار الحديثة في الكونغرس يعلمون أن إسرائيل هي اليوم الدولة الكولونيالية الوحيدة في العالم وأنه من الصعب أن يستنطقوا التوراة ويسألوا الأجداد لمعرفة الحدود الجغرافية لأرض الميعاد الميتا تاريخية. مع ذلك صفقوا طويلاً.

وصفقوا عندما امتدح نتانياهو الثورات العربية، علماً بأنه استبسل في الضغط من أجل الحفاظ على نظامي حسني مبارك وبن علي. وهم بالطبع صفقوا طويلاً عندما وضع هذه الثورات بين فسطاطي الحرية والاستبداد معتبراً أن الاستبداد هذا خنق ثورة الأرز الديموقراطية في لبنان، وأصاب هذا البلد الذي «يعاني منذ فترة طويلة بحكم القرون الوسطى لحزب الله»، مضيفاً أن من بين 300 مليون عربي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا «فقط المواطنون العرب في إسرائيل يتمتعون بحقوق ديموقراطية حقيقية». نرجح أن أعضاء الكونغرس استقبلوا العبارة الأخيرة بالتصفيق الطويل وقوفاً.

تشديد نتانياهو على ضرورة مواجهة إيران بات بطبيعة الحال بديهياً. الحواجز العالية التي رفعها أمام أي تسوية للنزاع لم تمنعه من إبداء الكرم في ما يتعلق بحجم فلسطين المستقبلية، ومن التحدث عن استعداده لتنازلات مؤلمة لا يعلم أحد ما هي.

نرجح أن يكون العرض المبتذل الذي قدمه أعضاء الكونغرس يتجاوز الخلاف الناعم بين أوباما ونتانياهو، ويتجاوز الاعتبارات الانتخابية الأميركية في السنة القادمة وترشح أوباما لولاية ثانية. فعلى هذا الصعيد تبدو «توضيحات» الرئيس الأميركي، في خطابه أمام مجموعة الضغط الأميركية – الإسرائيلية (إيباك) وبعد يومين فقط على خطابه المساند للثورات العربية وإعلانه عن ضرورة قيام دولة فلسطينية على حدود 1967، مسايرة لقوة اللوبي المذكور. الخطير في هذه التوضيحات لا يتعلق بتشديده على ضرورة أن تؤخذ في الحسبان، لدى ترسيم الحدود، «الحقائق الديموغرافية الجديدة على الأرض» ولا بتأكيده على صخرية العلاقة الاستراتيجية بين أميركا وإسرائيل. اعتباره اتفاق المصالحة بين فتح وحماس عقبة أمام السلام يدخل أيضاً في باب إرباك الطرف الفلسطيني وإضعافه. الخطير هو قوله إن التصويت في مجلس الأمن لن يؤدي أبداً إلى قيام دولة فلسطينية. ومعنى هذا أن المفاوضات وحدها ومن دون أي مرجعية قانونية دولية هي التي تجيز قيام دولة فلسطينية.

مع ذلك يبدو أن توضيحات أوباما القابلة للتفسير بأنها تراجع مهين لم تكن كافية. لم يصفق أعضاء الكونغرس لنتانياهو إعجاباً بدرره الخطابية، بل للتأكيد على موقع إسرائيل كشريك استراتيجي في عملية التحكم بمآل الانتفاضات العربية وتدجين مستقبلها من الآن. وهذا ما يسع شبكات القوة والنفوذ أن تصنعه تاركة للديموقراطية وجه الاستعراض الانتخابي، ما دام الأقوياء لا يحاسبون ولا يخضعون للمساءلة عن انتهاكاتهم لمنظومة القيم العالمية التي يفترض أن تترجمها الديموقراطية.

خطاب أوباما الثوري هو، في هذا المعنى، محاولة لا لركوب القطار بعد انطلاقه بل لاحتلال القاطرة وتعيين الوجهة والمسار. إنها سرقات ربيعية. المأسوي في هذا هو أن نقبل بمثل هذه السرقات هرباً من الشيخوخة المبكرة في خريف الاستبداد. وهذا من نكد الدنيا، على الحر طبعاً.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى