صفحات العالم

مسؤولية إصلاح علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي/ محمد زاهد غول

 

 

شهدت السنوات القليلة الماضية توترات شديدة بين أنقرة وعدد من العواصم الأوروبية، وفي الأغلب كانت ذات أسباب أوروبية، أي من داخل العقلية الأوروبية في التعامل مع تركيا وشعبها وحكومتها، ومنها محاولات مشبوهة ومكشوفة من تلك العواصم الأوروبية للتدخل في الشؤون الداخلية في تركيا، ليس ضد مواقف الحكومة التركية في السياسة الداخلية والخارجية حسب، وإنما ضد توجهات الشعب التركي نفسه. فعدم تنديد العواصم الأوروبية بالانقلاب العسكري الفاشل في تركيا بتاريخ 15تموز/يوليو 2016 لم يكن موقفاً أوروبياً صحيحاً، فقد بدا على أنه وقوف إلى جانب الانقلابيين، ضد الحكومة والشعب التركي أيضاً، فالشعب التركي الذي أفشل الانقلاب وقدم مئات الشهداء وآلاف الجرحى، كان يتوقع التضامن من العواصم والشعوب الأوروبية، ولكنه صدم بأن تلك العواصم تطالب الحكومة التركية وهي تضمد جراح شعبها بحماية الانقلابيين وعدم التعرض لهم، في وقت كان الشعب التركي لا يزال صامداً في الشوارع والميادين دفاعاً عن وطنه ودولته واقتصاده وجيشه وأمنه، قبل أن يكون مدافعاً عن حكومته أو حزبه الحاكم، أو رئيسه، الذين وصلوا إلى السلطة السياسية بإرادة شعبية وانتخابات ديمقراطية، فكان ذلك خطأً أوروبياً كبيرا في نظر الشعب التركي.

كما أن موقف بعض العواصم الأوروبية ضد استفتاء التعديلات الدستورية في أبريل/ نيسان 2017، ومنع عدد من الوزراء والمسؤولين الأتراك من مخاطبة أبناء قوميتهم في مهرجانات تقام في بعض العواصم الأوروبية، كان ضربة لتطلعات الشعب التركي في صداقة الشعوب الأوروبية، فهذه أخطاء ليست ضد مسؤولين سياسيين ودبلوماسيين فقط، وإنما هي أخطاء سياسية ودبلوماسية ضد الشعب التركي. ولا يقل خطورة وخطأ عما سبق ظهور عناصر الأحزاب الإرهابية من أتباع حزب العمال الكردستاني في مهرجانات شعبية علنية في بعض العواصم الأوروبية وهي ترفع شعارات ضد تركيا وحكومتها وشعبها، فهذه أخطاء إضافية ضد الشعب التركي أيضاً، وأخيرا وليس آخراً رفض بعض العواصم الأوروبية تسليم موظفين عسكريين أتراك كانوا يعملون في مكاتب حلف الناتو العسكرية في أوروبا إلى القضاء التركي بعد توجيه التهم إليهم بالمشاركة في المحاولة الإنقلابية الأخيرة، فكان الأحرى بتلك الحكومات الأوروبية تسليم هؤلاء العسكريين إلى حكومتهم ومتابعة محاكمتهم أمام القضاء التركي وضمان العدالة لهم، وإلا فإن من حق الشعب التركي توجيه التهم لتلك العواصم الأوروبية بالتعاون مع أولئك العسكريين في الانقلاب الفاشل المذكور.

ورغم كل ذلك لم تسع الحكومة التركية إلى توتير علاقاتها مع تلك العواصم الأوروبية، وإن نددت بمواقفها السلبية نحو تركيا ورفضتها، ولكنها طالبت الحكومات الأوروبية بالتزام المواقف القانونية والدبلوماسية الصحيحة في متابعة القضايا التي تخص تركيا، وعدم التعامل معها بمعايير مزدوجة، فلو أن تلك الأخطاء وقعت ضد حكومة أوروبية أخرى غير الحكومة التركية لما قبلت المعاملة نفسها، ولعل قصة مقتل الجاسوس الروسي المزدوج في لندن وتوجيه التهم البريطانية لروسيا، وتأييد العواصم الأوروبية للندن دليل على ذلك، فجميع العواصم الأوروبية التي أيدت المواقف البريطانية اعتبرت أن العدوان الروسي ـ غير المعترف به من روسيا ـ هو عدوان على السيادة الأوروبية، وليس على السيادة البريطانية فقط، فكان الأحرى بتلك العواصم الأوروبية اعتبار الانقلاب الفاشل والدموي في تركيا عدوانا على الحياة الديمقراطية في كل أوروبا. وكان الأحرى بتلك العواصم الأوروبية الوقوف إلى جانب الشعب التركي والتضامن معه، وتعزيته بالضحايا ضد الانقلابيين، وعدم مساعدة القتلة في العواصم الأوروبية، سواء أكانوا مدنيين أو عسكريين، فهذه الأخطاء الأوروبية غير مقبولة في تركيا.

لقد جاءت القمة التركية الأوروبية الأخيرة في مدينة فارنا البلغارية بتاريخ 26 مارس/آذار 2018 مؤشرا على مصداقية التوجهات التركية نحو الاتحاد الأوروبي، حيث قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، «نأمل أننا تجاوزنا مرحلة صعبة في العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي»، حيث التقى أردوغان رئيسي مجلس الاتحاد الأوروبي دونالد تاسك، والمفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، فضلا عن رئيس وزراء بلغاريا بويكو بوريسوف. وقد صرح أردوغان بعد المؤتمر: «أعربنا عن تطلعاتنا بشأن الشروع في العمل على تحديث الاتحاد الجمركي، ينبغي عدم تسييس هذا النوع من الملفات التقنية». وقال:» أتمنى أن نكون قد اتخذنا اليوم أول خطوة لبناء الثقة مجددا بيننا وبين الاتحاد الأوروبي، ولكن القول إننا اتخذنا هذه الخطوة ليس كافيا، وإنما يجب أن تكون هناك إجراءات ملموسة».

أساس هذه العلاقات أن تنشىء أوروبا علاقاتها مع تركيا بصورة ندية، وعدم التعامل بتعال مع تركيا أولاً، وأن تعلم أوروبا أنها بحاجة إلى تركيا أكثر من حاجة تركيا إلى أوروبا ثانياً، وأن أمن أوروبا من أمن تركيا والعكس صحيح أيضاً ثالثاً، وأن الاقتصاد التركي جزء من الاقتصاد الأوروبي، والعلاقة بينهما طردية وليست عكسية رابعاً، فنجاح الاقتصاد التركي هو نجاح للاقتصاد الأوروبي أيضاً، والعكس صحيح، فتركيا بحاجة إلى أوروبا قوية وإلى اتحاد أوروبي قوي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وغيره، فالموقع الاستراتيجي لتركيا يتأثر بالأوضاع الأوروبية كثيرا، في بره وبحره وممراته المائية في البوسفور وفي التنافس الدولي على البحر الأسود، وحرية السياحة العالمية إلى تركيا من أوروبا الغربية.

وغني عن التذكير أهمية الجوانب الأمنية وبالأخص ما تتعرض له أوروبا من هجرات خارجية قد تكون الأراضي التركية أحد منافذها الرئيسية، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى توقيع اتفاق حول هذه الهجرات مع تركيا قبل عامين في أزمة اللجوء الأخيرة إلى أوروبا. فقد شهدت أوروبا مخاوف عديدة في السنوات الماضية من تحركات عشوائية للمهاجرين من شتى أنحاء العالم نحو أوروبا من البوابة التركية، إضافة إلى إشكالية عودة عدد من الأوروبيين الذين كانوا في صفوف تنظيم «الدولة» (داعش) في العراق وسوريا إلى بلادهم، فتركيا حريصة على الأمن الأوروبي أولاً، وحريصة على أن لا تقع أعمال إرهابية على الأراضي الأوروبية أيضاً، حتى لا يتم استغلالها إعلامياً في أوروبا ضد الإسلام والمسلمين، فتركيا ضد حملات الإسلاموفوبيا في أوروبا، والتي يقودها أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، كما لا تقبل تركيا أن يوجه إليها أصابع الاتهام بدعم هذه التنظيمات الإرهابية باتخاذها الإراضي التركية ممرا لها إلى أوروبا، فإذا لم تتعاون العواصم الأوروبية مع تركيا في ذلك، فإن أصابع الاتهام سوف توجه إلى الأجهزة الأوروبية التي تسهل تحرك هؤلاء الإرهابيين على الأراضي الأوروبية والقيام بإعمال إرهابية فيها.

إن عدم تعاون الاتحاد الأوروبي مع تركيا في هذا المجال، وعدم إشراك تركيا في السياسات الأوروبية الإيجابية للاستقرار الأمني في أوروبا، سيكون خطأ فادحاً من وجهة نظر تركية، كما أن القيود التي تضعها المفوضية الأوروبية على الشعب التركي لدخول أوروبا هي قيود لا مبرر لها، حيث أن تركيا قد أكملت كل ما عليها من طرفها، وبقي أن يفي الاتحاد الأوروبي من جانبه بما يتوجب عليه نحو الشعب التركي، وعدم تسييس هذه القضية، ولا إدخالها في الحواجز العنصرية ولا الأيديولوجية، لأن ذلك يزعزع ثقة المواطنين الأتراك حيال الاتحاد الأوروبي، وهو ما حصل فعلاً بعد تلك المواقف الأوروبية المؤسفة السابق ذكرها.

لقد أوفت تركيا بكل مسؤولياتها تجاه الاتحاد الأوروبي، ضمن القوانين والشروط الأوروبية المتفق عليها بين تركيا والاتحاد الأوروبي، ولذا فإن المسؤولية في تحسين هذه العلاقات تقع على الاتحاد الأوروبي، فإما أن تصادق الأفعال الأوروبية مقولات زعمائها بأهمية التعاون مع تركيا، أو أن تقر بأنها غير صادقة في عملية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، أو أن تعترف أن لديها أسباباً لا تستطيع الإقرار بها علنياً، مثل أن الاتحاد الأوروبي بيت مسيحي خالص للشعوب الأوروبية، ولا مكان للشعب التركي في هذا البيت، كما صرح بذلك بابا الفاتيكان الأسبق بولس الثاني عشر عام 2005. فإذا كان ذلك كذلك فإن على قادة الاتحاد الأوروبي أن يعلنوه لشعوبهم سياسيا أيضاً، وعندها على الاتحاد الأوروبي أن يعلن عن تخليه عن قيمه ومبادئه وقوانينه العصرية، فتركيا تنظر إلى الاتحاد الأوروبي كبيت سياسي علماني، حسب فلسفة وجوده ومبادئه وقيمه وقوانينه وسياساته المعلنة منذ تأسيسه وحتى اليوم، وإلا لما تقدمت الحكومة التركية بطلب الانضمام إليه منذ أكثر من ستين عاما.

أما عدم طرد تركيا للدبلوماسيين الروس أسوة بباقي الدول الأوروبية وأمريكا وكندا فهذا أمر يتعلق بموقف روسيا من الانقلاب الفاشل في تركيا أولاً، ويتعلق بالموقف الأوروبي وحلف الناتو من الخلاف الطارىء السابق بين تركيا وروسيا إبان إسقاط تركيا طائرة السوخوي الروسية في تشرين الأوبل/نوفمبر 2015 ، وما ترتب عليها من خسائر كبيرة للدولتين، وعدم وقوف أوروبا إلى جانب تركيا في ذلك الوقت، وهي في أشد ازمة معاصرة مع روسيا، فلو انفردت روسيا بخلاف مع تركيا مرة أخرى فلن تقف أوروبا إلى جانبها أيضاً، وهذا يلزم تركيا أن تكون أكثر حذرا في التعامل مع الحرب الباردة الجديدة بين الشرق والغرب، فتركيا لن تفتح صفحة عداء مع روسيا قبل أن تمحو أوروبا وأمريكا مواقفها العدائية لتركيا.

كاتب تركي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى