صفحات سورية

 الثورة التي رجمت بجريمة الشرف/ علي ديوب

 

 

 

لو لم يكن من سبب غير بقاء الناس أحياء، أولاً، وعلى أرضهم، ثانياً، لكفى بذلك موجباً لتمسك نُخب السوريين بسلمية التغيير، بل رفضهم تسلّح الثورة، موظفين خبرات الحركات السلمية في العالم لإضافة «درس سوري»، حتى لو بدا للجماهيرالمتحمسة أن الركون إلى السلمية (المعادل الذهني النمطي للسلبية، في موروثنا)، يحمل محاذير التراجع عن الثورة. وكانت محاولات النظام المستميتة والمفضوحة، لجرّ الثورة إلى التسلّح، ستوفر لهم حجة كافية. صحيح أن التكهن بالغيب يتنافى مع القراءة الموضوعية للواقع، إلا أن نخبة يقظة لمجتمع يُعرَف (أو تعرّفه نخبته) بأنه من طلائع المجتمعات العربية، لن يكون محالاً عليها وعي حجم الأخطار، وحمق المخاطرة، اللذين لا بد سينجمان عن مواجهة نظام «الدولة»، بطريقة العنف المسلح، المرفوضة دولياً، سيما أن نظام بشار بالكاد انتهى من إخماد ربيع دمشق، وهو ما أزال وهم اختلافه عن أبيه، معيداً درس محنة مدينة حماة مطلع الثمانينات إلى الأذهان، كاستدراك ولو متأخر، لفهم صمت المجتمعين الدولي والعربي عنه، إن لم نقل تأييد حربه على «الإرهاب»، في قراءة مؤجلة، تضاف إلى استحقاقات مماثلة، حيال أفعال عسكر الحزب نفسه، في حماة نفسها، أواخر الستينات، أو عسكر آخر، ينسب إلى المرحلة الذهبية «الديموقراطية»، في تاريخ سورية الحديث. وهنا يمكن القارئ فتح أكثر من قوس، للبحث في أسباب سير النخبة السورية خلف الحراك، بعكس منطق تاريخ عموم الحركات الشعبية!

فعلى رغم امتلاك «قيادة الثورة والمعارضة» شرعية رسم برنامج طارئ للوضع، يخص السوريين، والاشتغال الدؤوب على برنامج استراتيجي يوائم، على نحو عبقري، بين مصالحهم المحلية والمصالح الإقليمية والدولية، وهو ما كان سيكفله تأسيس التغيير على نموذج حديث، يمكن أن يلقى ترحيباً عالمياً، وترحيب التنوع السوري البديع، وهي نعمة تجلت لدينا نقمةً، ككل النعم، فهذا لم يحدث في الواقع. وهو ما يفرض أسئلة ملحة، تتطلب إجابات جريئة، سواء فتحت أفقاً للتفاؤل، أو كشفت لنا حدة خداع البصائر!

سأطرح سؤالاً واحداً، وأحاول الإجابة عنه بتواضع، معترفاً بصعوبة الإجابة عمّا هو أبسط منه. والسؤال: هل يستطيع البشر إطلاقاً أن يبقوا أصحاب قرار مستقل، وتحديداً خارج أرضهم (حقلهم)؟

لتحرّي إجابة مقبولة، في غياب أبسط عمليات سبر الآراء بين السوريين، أجدني ميالاً لتجريب لغة الاحتمالات. وبحصيلة متخيلة تتبنى ما قدمته، فإن امتلاك المعارضة تمثيل الثورة (هل يمكن إغفال كيفية حصول ذلك، بطريقة التنصيب؟)، هو مكسب عظيم. وامتلاكها تمثيل الشعب السوري مكسب أعظم. وعليه كان لمعارضة ثورية أن تمنح السوريين هدية فارقة تتمثل بإنجاز غير مسبوق، يرسم أهم ملامح سورية الحرّة، عبر «مبادئ فوق دستورية» مشروطة بضمانات تحميها من الشطب والتعديل، ترسّخ عامل الثقة العالمية ببديل مقبول، وتشجع الجميع (وأولاً المال السوري الهارب)، على الاستثمار في منطقة حيوية، ما لم يكن متيسراً يوماً، في ظل نظام أيديولوجي شمولي منغلق ومتعفّن في فساده. فهل حدث شيء من هذا؟ لا، لم يحدث البتة. وإنما عكسه تماماً ما حدث، مخلّفاً مفارقة مشينة، تجلّت بتذمّر ممثلي أهم دولتين غربيتين (أميركا وفرنسا)، من بؤس رفضويةِ ديوك معارضةٍ، يظنون أنفسهم صقوراً، وذلك خلال اجتماعات خصت الأزمة السورية وضمّت الطرفين. وهي مفارقةٌ كشفت أن المعارضة السورية تبنّت من الموروث، الإسلامي العروبي، أسوأ ما فيه. وهي، هنا، «الممانعة» التي تبناها النظام نفسه، مزاوداً، فبزّوه في مزاودة ثورية فارغة.

البناء على الواقع، هنا، يملي سؤالاً من نوع: لماذا كانت المعارضة تمارس دوراً يحرمها أهم مكتسبات الحراك السوري، وأعني التأييد الدولي، لتصب الحبوب في طاحونة النظام، أي أرواح السوريين وتضحياتهم، فيما تقزّم دورُها هي، واضمحلت فاعليتها، وتبخرت صدقيتها. والأدهى أنها كانت تشهد كل ذلك بعينها!؟

لعل هذا السؤال التأسيسي يفتح على أسئلة فرعية، من نوع: هل افتقار المعارضة إلى أرض تقف عليها، هو السبب، أم ان السبب يعود إلى مرض قابلية الفساد لديها، الذي وجد مرتعاً خصباً للإفساد (راجت بين السوريين اتهامات لرموز المعارضة بالفساد، سواء بالتنعم الوظيفي، أو بسرقة معونات اللاجئين)؟ أم يا ترى كان دور المعارضين مقيّداً بحبال الواقع الذي فرض عليهم الرضوخ، بالخلفيه الإسلامية للحراك الذي نهضت به الغالبية السنية، مرتبطة بمرجعيتها، العابرة للقوميات والأوطان، ما أملى عليهم الأخذ بحيثياته تلك، والخضوع لمراكز قواه الإقليمية العنيدة، وتركهم يلهثون، منهكين، خلف ثورة تزداد دموية، على يد منظمات جهادية تنظر إلى المعارضة ذاتها، بل إلى السياسة، بوصفها بضاعة الغرب الكافر، وأنه لا بد من قتالها وإسقاط دعاتها؟ بالطبع أنا لا أبحث لأحد عن عذر.

فليس بمقدور أي من قادة المعارضة الزعم بأنه يخوض دوره مرغماً. وهذه المقالة تتبنى موقف الاعتراض على سياسة «النخبة الشعبوية المتطيّفة»، التي لا تجيد إلا السير في الخلفية (خلف الشعب، وخلف أولي الأمر)، واستنساخ دور رجال الدين في التحريض على الموت، والتغني بالشهداء، وتعظيم الشهادة… بدلاً من التصدّي الشجاع، ولو بالتصريحات والبيانات، للتحذير من السقوط المكتوم للثورة في الهاوية. لكن الثورة سيقت، بمشاركة المعارضة، إلى الحفرة، مغلولة، ورجمت، بجريمة الدفاع عن الشرف!

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى