صفحات سوريةعمار ديوب

الثورة السورية: إنتفاضة الخبز والحرية


عمّار ديّوب

هناك فرق بين شرارة الثورة وأسباب الثورة، فشراراتها في سوريا، متعدّدة: البعض يردّها إلى وقفات الاعتصام أمام السفارة المصرية أو السفارة الليبية في شهر كانون الثاني وشباط، أو ما حصل في سوق الحميدية، أو إطلاق شعارات الحرية من مجموعة شبابية فدائية أمام ذلك السوق في 15 آذار، والبعض يؤكد أنّها انطلقت من درعا بعد توقيف الأطفال. النتيجة أنّ هناك شرارات عدّة أدّت للثورة. التفكير الهادئ، عليه البحث عن أسباب أعمق.

تقديم فكرة الحرية أو الكرامة على أنّها سبب الثورة، فيه تجاهل لعلم السياسة والاقتصاد، وهناك من يقول إنّ الثورة تعبير عن تضرر فئات وطبقات من أوضاع اقتصادية وسياسية، قبل أن تكون أخلاقاً وكرامات، وإنّ التركيز على الفكرة الأخيرة، يجرد السوريين من الأخلاق في العقود السابقة، أي كانوا بلا أخلاق وصاروا حينما بدأت الثورة يمتلكون أخلاقاً إلهية. لا، كانت لديهم أخلاقهم، ولم تكن لديهم أسباب للثورة، وكانت الحركة السياسية المعارضة، حركة تنتمي لشرائح بورجوازية متوسطة وصغيرة. ومعظم أفراد تلك الحركة، بغض النظر عن كونها يسارية أو دينية أو ليبرالية، لديهم طموحات سياسية أو مهددون بالإفلاس الاقتصادي. أمّا سواد الشعب، فقد كانت أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية لا تستدعي الثورة؛ فقد أعطي الأرض عبر الإصلاح الزراعي وعَمِل في مؤسسات الدولة، وأولاده يدرسون في المدارس والجامعات العامة. الآن، ومنذ عقدين تقريباً، بدأت الأوضاع الاقتصادية بالتدهور، وأصبحنا نقرأ أرقام الفقراء والعاطلين من العمل التي تزيد عن ربع السكان، وهناك فروقات كبيرة بين الأجور والأسعار، كنتائج لسياسات اللبرلة.

هذا الإفقار المستمر، هو عينه الذي كان يجري في تونس ومصر وباقي البلدان العربية، وهو السبب الفعلي لكلّ تلك الثورات. فإن كانت مصر الأميز في عدد الاحتجاجات والمشاركين بها، فقد حصلت في تونس كذلك احتجاجات عدّة، خاصة في 2008. أمّا في سوريا، فقد اقتصرت المسائل على احتجاجات بسيطة، ولم تتطور وتمتد، لكن حتى الصحف الرسمية والمواقع الإلكترونية شبه الرسمية، كانت تُبرز التقارير عن الفساد والنهب وآليات تدمير الزراعة والصناعة، وطرق بيع وتأجير القطاع العام، وآلية إفشاله. هذا ما كنّا نقرأه. ومن منّا لم يسمع باسم المرحوم عصام الزعيم، ودراساته عن وضع القطاع العام، وكذلك اسم الدكتور عارف دليلة بما يخص القطاع العام قبل سنوات، أو مقالات النقابي عمر القشاش عن أوضاع النقابات وحقوق العمال المتآكلة باستمرار. وهناك دراسات كانت تتكلم، وبوضوح شديد، عن ضعف الأجور وعدم شمول أعداد كبيرة من عمال القطاع الخاص في النقابات أو الضمانات الصحية وغيرها. من هنا يمكننا القول إنّها ببساطة ثورة الخبز والحرية معاً. ثورة المهمشين والفقراء على التحوّل الليبرالي الذي جاء عبر نظام الاستبداد، فكان الاستبداد الغطاء السياسي لتلك السياسات الاقتصادية، ولملايين العاطلين من العمل ولتدمير الزراعة والصناعة. إذن أصل الثورة السورية، وحتى ثورات الدول العربية، وسببها، هو التزايد المهول في الإفقار، لكن عنف النظام السوري، دفع المنتفضين ليرفعوا شعار الحرية، ولاحقاً إسقاط النظام، وصار الأخير لما له من دلالة على المستقبل وكردّ فعل، الشعار الطاغي.. علماً أنّ شعارات متعددة ضد الفساد ورموز الفساد ظهرت منذ بداية التظاهرات، وتراجعت لاحقاً.

حين نبحث مثلاً عن الفئات الأكثر حضوراً في التظاهرات، لن تكون الفئات الثرية ولا الفئات المتوسطة، بل هي حصراً الأكثر تهميشاً وفقراً؛ هؤلاء الذين لم يبق لديهم شيء يخسرونه، ويرون حلمهم في الحياة الأجمل في المستقبل، وليس في ظل الديكتاتورية. طبعاً هناك شرائح اجتماعية متعددة، تشارك في الثورة، وهي تيارات سياسية ماركسية وديموقراطية وليبرالية وإسلامية، لكن الفعل الحقيقي هو لمن رأى التوانسة ينتصرون والمصريين كذلك، فتشكّل لديهم الشعور ذاته بأنّ في مقدورهم النصر، لذلك حدّدوا رموز الفساد والاستبداد وأطلقوا حناجرهم ضدّها. وهذا يعني أنّهم لا يناضلون فقط من أجل حريتهم، بل من أجل خبزهم ولتأمين فرص عمل، ومن أجل حماية أراضيهم من التصحر والدمار، خاصة بعد ارتفاع أسعار مشتقات النفط والبذور وكلف الإنتاج والاستهلاك، وفتح السوق الداخلية للبضائع القادمة من تركيا والصين، وإغلاق الكثيرين من الورش والمعامل.

صحيح أنّ الثائرين لا يمتلكون وعياً طبقياً للدفاع عن مصالحهم، ولرفع شعارات طبقية واضحة، لكن الشعارات ضد رموز الفساد والاستبداد، دليلٌ أكيدٌ على أنّ هذه الثورة ثورة شعبية، وهي من أجل الحرية والخبز، وكل من يقسم بينها، يُبدد الوقت بلا طائل في قضايا لن تفيده شيئاً. وستكون مسألة الفقر وأعداد العاطلين من العمل مطروحة على طاولة البحث دائماً، فالناس في الأصل يثورون ضد السياسات الليبرالية في الاقتصاد والاستبداد في السياسة، فكيف سيوافقون عليها في السياسة الليبرالية، التي ستقدم نفسها لاحقاً عبر السياسات الاقتصادية ذاتها.

 الشعوب لا تعمل في السياسة فقط، بل تطالب كذلك بحقوقها في العمل والاقتصاد. ملاحظة تطورات مصر الحالية، تجعلنا نؤكد بقوة أنّ الثورات العربية ثورات خبز وحرية.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى