صفحات سورية

وطنية وثورية الحراك الاحتجاجي


عمر كوش

ثورية الحراك التغير والحضور

الوطنية الجديدة

تعددت حوامل ومركبات الحراك الاحتجاجي في سوريا منذ اندلاع شراراته الأولى في دمشق ودرعا في منتصف شهر مارس/آذار 2011، وزادت سماته وضوحاً، على المستوى الوطني والثوري، مع اتساع رقعة التظاهرات والاحتجاجات، التي شملت معظم المدن والمناطق والقرى، جنوباً وشمالاً، وغرباً وشرقاً، ومع مشاركة واحتضان شرائح وفئات اجتماعية عديدة، وخاصة الفئات الوسطى والفقيرة، التي تعرضت لظلم وإجحاف لا مثيل لهما على مدى عدة عقود من الزمن.

وتنوعت مكوناته، التي لم تقتصر على التظاهرات الميدانية، بل امتدت إلى أشكال جديدة من التنظيم، جسدتها التنسيقيات والشبكات واللجان المحلية، وأشكال سياسية، جسدها تشكيل مجالس وهيئات وتيارات سياسية، إضافة إلى شبكات إعلامية، تولت تصوير ونقل الأحداث والفعاليات، ونشأت كذلك أطر وفعاليات ثقافية وفنية متنوعة، حولت التظاهرات السلمية في أحيان كثيرة إلى ما يشبه العروض الفنية والاحتفالات الشعبية.

ثورية الحراك

لقد ارتقى الحراك الاحتجاجي السلمي، مع تحوله إلى حدث يومي، إلى مصاف انتفاضة واسعة، بل ثورة، لم تشهدها سوريا خلال مجمل تاريخها الحديث، سواء من جهة تقديمها لتضحيات باهظة في الأرواح والجرحى والمعتقلين، أم من جهة الامتداد والمشاركة والتعاضد بين مختلف المدن والبلدات والقرى. وباتت حدثاً، يحلّق في سماء الوطن/الإقليم، ويخلق، في كل مرة يحطّ فيها على الأرض، مقاماً جديداً للمحايثة، يبني عليه مفهوماً جديداً في الوطنية السورية، ويعبّر عن أقلمات وتحولات وتغيرات عميقة في البشر والأشياء والعالم.

وبالرغم من محاولات النيل منها، وتأطيرها في فضاء اجتماعي أو ديني ومذهبي معين، فإنها أعلنت، عبر فعالياتها وشعاراتها المطروحة، عن ثورة احتجاج اجتماعي، تمحورت مطالبها على الكرامة والحرية، بما يعني عدم الاستكانة والركوع والخضوع للإذلال، والتوق إلى فضاء مدني، حرّ ورحب، يتسع للجميع، أفراداً وجماعات، وبالتالي، ليس من المجدي مقارنتها مع الثورات التي قامت ضد المستعمر الفرنسي، لا من حيث ظروفها وأسبابها وعوامل حراكها، ولا من حيث مطالبها وتطلعاتها وأقلماتها.

وهي لا تتنمذج مع محاولات إسقاط ما في الرأس من مقولات أيديولوجية وسياسية قديمة، مثل السببية التاريخية، ومقولة المركز والأطراف، ودور العامل الاقتصادي أو التنموي وغيره، لأنها ليست أكثر من محاولات ليّ عنق نظريات وأدوات قديمة، جاهزة ومسبقة، وترقيعها كي تجري مقايستها على واقع جديد، فالثورة لا تفسر بوصفها آثاراً متوقعة للأزمات والمشاكل الاقتصادية والسياسية التي عصفت في البلد وناسه، على امتداد عقود عديدة، لأنها لا ترتهن إلى مثل هذا التفسير. وما كان ممكناً توقع لحظة قيامها أو انتظار قدومها، كونها تمثل خروجاً عن السائد والمألوف والبديهي.

وهي ليست قابلة للتفسير والتعليل، بل إنها -في أقلمتها السورية- كانت خارج كل الحسابات والتوقعات القبلية والتفسيرات البعدية، وأقرب إلى عمل الخلق والإبداع، المتفرد في حدوثه، ولا شبيه له.

وأظهرت الثورة، في أقلماتها العربية المختلفة، أن الإنسان في بلداننا له مطالب اجتماعية وسياسية ومعيشية، مثله مثل سواه من البشر في عالم اليوم، وأن الدين الإسلامي هو أحد مكونات شخصيته، وليس المكون الوحيد والحاسم، والأهم هو أنها فنّدت المقولة التي تدعي أنه كائن لا يغادر الحيز الماهوي، المرسوم له بالانتماء المذهبي والطائفي والجهوي، وفندت أيضاً مقولة تدعي بأن الحركات الأصولية الإسلامية هي من يمتلك القوة الأيديولوجية والتنظيمية القادرة على تحدي الدولة القمعية والسلطوية.

التغير والحضور

مثلما غيّرت ثورة الاتصالات والمعلومات، في عصرنا الراهن، العلاقة بين طرفي ثنائية الإقليم والحدود، فإن الثورة، في أرضناتها العربية الجديدة، غيرت العلاقة بين طرفي ثنائية المركز والهامش، والمدينة والريف، حيث طاول حراكها مختلف المدن والبلدات والقرى. ساهم بعضها بقوة فيه واحتضنه، وبعضها الآخر تأخر في اللحاق بالركب، لكنه لم يتخلف عنه.

ولا يشي ذلك بالقول بطرفيتها، بل بامتداد مكوناتها ومركباتها وحمولاتها، خاصة أن الجموع التي تخرج في التظاهر السلمي، إلى الشوارع والساحات، تنطلق من مختلف تضاريس الإقليم السوري، وليس فقط من المناطق الفقيرة، أو من الأطراف المهمشة.

ولا ننسى في هذا السياق أن تركُّز قوى القمع والضبط والمراقبة يختلف من مكان إلى آخر، فضلاً عن أن جميع العواصم والمدن العربية الكبرى تضم تجمعات كبيرة لأبناء الريف، وتتساكن فيها أحياء من الصفيح والحرمان، ومهجرون ومشردون من كل مكان.

كما أن التقانة والمعلوماتية في عصرنا الراهن أوجدت البدائل والسبل، التي وظفها الناشطون في الميدان، حيث تمكنوا بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف المحمولة من اختزال المسافات، وتخطي كل الموانع والمعيقات، واختراق الأسرار والأسوار التي بنتها الأجهزة القمعية للسلطات الحاكمة، وعكس كل ذلك تحولاً نوعياً في علاقة السلطة بالمعلومة والصورة، بل وغيّر تماماً معاني القوة، ومدلولاتها في سائر الدول والأقاليم.

وكان لافتاً، حضور المرأة، ومن مختلف الأطياف والانتماءات، في مختلف فعاليات الحراك الاحتجاجي، سواء في المركب الميداني، أم السياسي والثقافي والفني. ولعلها كانت حاضرة بقوة في البدايات الأولى للحراك، ثم في تشكيل وقيادة التنسيقيات، وفي مختلف الهيئات والتشكيلات السياسية، والنشاطات الداعمة والإغاثية، وتكاد لا تخلو فعالية على الأرض لا تشارك فيها النساء بشكل فاعل، لكن اللافت هو قيادتها لتظاهرات عديدة، وفي أحياء ومناطق محافظة نسبياً. أما في المجال الثقافي الداعم، فقد كان حضورها غنياً، سواء من خلال الكلمة أم من خلال القول والموقف، أم من خلال إعطاء الثقافة معنى ومركبات جديدة.

الوطنية الجديدة

لا يستطيع أحد أن يزعم وجود معايير محددة بذاتها لقياس وطنية أو لا وطنية ثورة أو حركة احتجاجية، أو أي تحرك شعبي، لأن الوطنية ليست حادثة تجريبية، وهي ببساطة ليست شهادة أو صفة يمنحها شخص أو زعيم أو باحث، وليست منّة من أحد، أياً كان، إلا أن الثورة تأتي كي تشيّد مقاماً جديداً في الوطنية وتبدع المفهوم الجديد، حيث المفهوم بداية الثورة والمقام إشادة لها، وبالتالي، فإن المقام المحايث للثورة هو أرضنة جديدة للوطنية وتأسيسها الجديد، يكون فيه الوطن للجميع، وذلك بإشادة دولة المواطنة، الديمقراطية، القائمة على العيش المشترك والمصير المشترك والمصالح المشتركة، والتي تكون فيها الهوية وطنية، وليست هوية “فوق وطنية” أو خارجة عن الإجماع الوطني.

وقد جرى التأسيس للثورة السورية حول مطالب وشعارات وطنية جامعة لكافة الفئات، تمحورت حول الكرامة والحرية، حيث انطلق أول شعار “الشعب السوري ما بينذل”، ثم “الله سورية حرية وبس”، ومع الامتداد الأفقي للحراك، كرّس الالتفاف حولهما تعاضد فئات اجتماعية وسطى وفقيرة واسعة، أجمعت بواسطة الدم والتضحيات على لحمة خيوط النسيج الوطني الحديث، وعلى وحدة السوريين، بمختلف مدنهم وبلداتهم وقراهم، وبمختلف أطيافهم الدينية والمذهبية والإثنية، جسدها شعار “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”، بل إن الشعار ذاته، “بالروح بالدم نفديك يا درعا”، أعلن امتداد التعاضد والتكاتف إلى مختلف المناطق، حيث تناوبت وتتالت أسماء المدن والبلدات فيه، من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق.

وبالرغم من محاولات تنمية وتقوية مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، من مناطقية وعشائرية وطائفية ومذهبية، التي فعلت فعلها على مدى عقود عديدة من الزمن، وأنتجت وعياً أيديولوجياً زائفاً، بل مقلوبا وعصابيا، وسلوكاً أقلّوياً لدى البعض، إلا أن جموعاً هامة من الناس لم تنكص إلى انتماءاتها الضيقة، بل تبنت انتماءات إنسانية واسعة، من دون القفز على -أو تجاوز- انتمائها الوطني، ولم ترتهن إلى نزعات جهوية أو فئوية أو أنانية وذاتية.

ولا يعدم ذلك وجود ارتكاس في بعض الحالات إلى مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، بسبب غياب المواطنة، إلى جانب ممارسات وسياسات التمييز، والاضطهاد والقمع والتهميش، من طرف سلطة طاغية، عاملت الناس على أساس كونهم رعايا لها، وليسوا مواطنين في دولة، لهم حقوقهم وعليهم واجبات، يضمنها دستور البلاد.

إضافة إلى تعميم الخوف، ونشر ثقافة الخوف، التي سادت، بوصفها ظاهرة، وتحول في ظلها ناس كثر إلى كتلة صماء من الخانعين، الذين لا يتفوهون إلا ما تقوله السلطات والأجهزة السياسية والإعلامية، وليس لهم إلا السمع والطاعة وترداد الشعارات الطانّة.

وقد ظهر جلياً انكسار وتهافت محاولات النظام التسلطي بث الخوف والعجز والخضوع واليأس، ومصادرة قرار الأفراد، وحجز سائر الحريات، وتبيّن أنه لا يمكن الاستمرار في سياسة الإذلال والتدجّين، وتغييب الفرد الحر بين جموع “الرعايا” أو “الجماهير” الساكنة والمستكينة، لأن الشباب المنتفض خرج من ضباب الاستبداد، كي يقارع سطوته ويهزّ أبنيته، بعد أن اكتسب القدرة اللازمة لتأكيد استقلاليته، وسخر إمكانياته وطاقاته، كي يعبر عن ذاته عبر أرضنات بالغة الاتساع ومترامية الأطراف.

وأثبت الحراك الثوري أن الشعب، مهما تغوّلت قوى النظام في القمع والقتل، قادر على تقديم مثال للتضحية بكل ما لديه، كي يحقق طموحاته التي يسعى إليها في العيش بكرامة وبدون خوف، وأن يحقق مواطنيته، بما تقتضيه من حقوق وواجبات، والأهم هو أن يقف الشعب شامخاً وأعزل بدون سلاح، ويقدم مثالاً للحراك المنظم والسلمي، ولا يتوانى عن امتلاك مختلف سبل المقاومة المدنية والتصميم على تحقيق أهدافه ومطالبه.

الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى