صفحات العالم

الشطرنج الروسي: قيصر وشاه وبيدق سوري

غسان الإمام
ما زلت عند رأيي في أن لا حل في سوريا، إلا بتسوية تحت الطاولة بين القيصر بوتين والمثقف أوباما. لكن أين الرجلان؟ قيصر يخيم على دمشق. وأوباما استقال من العراق. ويحزم حقائب الرحيل من أفغانستان.
ماذا دهى (أصاب) أميركا؟ هل هي حقا في مرحلة انحلال القوة. وانحسار الدور؟ هل انتهى عصر الـ«باكس أميركانا»، عصر السلام الأميركي في المنطقة والعالم؟
بول كيندي مخضرم الاستراتيجية التاريخية الذي حلل، بعمق وإسهاب، أسباب صعود الإمبراطورية الرومانية وسقوطها. لا يوافقك على هذه «الثقافة» التي زرعها الإيرانيون، عن أميركا، في دماغ عرب المشرق. إنما يقول إن أميركا تريد العودة إلى حجمها قبيل الحرب العالمية الثانية: «هيبة دولية من دون هيمنة»، ومن دون عجز مالي يرهق الميزانية.
كيندي المفكر الإنجليزي/ الأميركي يصف تخفيض أميركا إنفاقها العسكري بأنه «كارثة في عالم متقلب». ويتساءل هل تستطيع الدبلوماسية الأميركية أن تقوم بدور يعوض عن تسريح عشرات ألوف الجنود؟
ثم يعود ليذكر بأن أميركا ما زالت على الوفاء بالتزاماتها تجاه أمن الخليجيين. الأوروبيين. الإسرائيليين. وها هي تزيد في إنفاقها على تكتيك الحروب الحديثة: قوات الكوماندوز المخابراتية القادرة على مد ذراع أميركا الطويلة إلى ابن لادن في عمق باكستان. وتطوير طائرات النحلة العمياء (بلا طيار) القادرة على تصفية الأميركي/ القاعدي أنور العولقي، في مخبئه في مجاهل اليمن.
لماذا فقدت أميركا حقا سحرها الدبلوماسي؟ لأنها فقدت تقنية دبلوماسييها المهرة الذين كسبوا الحرب الباردة، من دون أن يستخدموا جنديا، أو يطلقوا رصاصة. أين الدبلوماسيون. والساسة. والرؤساء، من أمثال كينان. مارشال. آيزنهاور. كيندي. كيسنجر. نيكسون. بيكر. بوش الأول، ليفاوضوا القيصر بوتين؟!
الدبلوماسية الحديثة معادلة في المساواة بين الأخذ والعطاء. كان على بوش الابن الكف عن إيصال الناتو وصواريخ أميركا ببلاهة، إلى عتبة روسيا. وكان على أوباما وهيلاري الكف عن تمويل المعارضة الروسية الهزيلة، لتتويج القيصر رئيسا مرة أخرى. ثم طمأنته بالسماح له بالاحتفاظ بمصالحه في المنطقة المتوسطية، في مقابل تخليه عن دعم نظام سوري متخلف.
بعد غيبة عشرين سنة، تعود روسيا إلى المنطقة العربية بزخم قوي. سواء وصل القيصر بوتين إلى دمشق، على متن بساط الريح الإيراني. أو مع قطع الأسطول الروسي. أو فوق مدافع الهاوزر التي دكت بابا عمرو. وإدلب. ودرعا، فهو يحاول ملء الفراغ الذي تركه انسحاب أوباما.
ركّب بوتين لعبة شطرنج روسية جديدة، تجمع بمهارة مصالح لدول مختلفة ومتناقضة. لعبة بلا آيديولوجيا. فيها قيصر روسي. وفيها خامنئي برتبة شاه وخميني. وفيها بيدق سوري تردفه بيادق في لبنان وغزة. ومرتبطة معه بالولاء لمصالح الشيعية الفارسية.
بهذا المزيج العجيب من الممثلين/ الكومبارس، يحاول المخرج الروسي تمرير تسوية «كش أميركا». والإبقاء على البيادق العربية المذكورة في قبضة اللاعب الإيراني، فيما يحتفظ قيصر بالنفوذ. وبزمام المبادرة في منطقة حيوية وقريبة منه. الشاه بعمامة قبل بالمخرج الروسي، طالما أنه يوفق بين المصالح الإيرانية والروسية، في سوريا والمنطقة العربية.
كان الإخراج مأساويا. ترك قيصر البيدق يرتكب تصفية عسكرية/ أمنية، للانتفاضة في حمص. إدلب. درعا، وطرح مشروعا قيصريا، لزرع مراقبين دوليين لوقف العنف وإطلاق النار، إسكاتا لأميركا وأوروبا. وتهدئة للرأي العام العالمي. وتحييدا وتعطيلا للمشروع العربي.
بل أجريت عملية تجميل قيصرية للبيدق السوري، بتحميله بالون تسوية سياسية. فيها انتخابات تعددية، بلا حزب قائد. وفيها دستور يسمح بتجديد رئاسته مرة ثالثة ورابعة. وفيها إحباط البيدق السوري لوساطة الوسيط الدولي/ العربي كوفي أنان. وفيها رفض لمشروع عربي للإصلاح في سوريا، ولتنحية بيدق العيلة والطائفة.
في غياب التسوية الثنائية الروسية/ الأميركية، فشلت مهمة أنان، فيما يعجز الشرطي الدولي (مجلس الأمن) عن فرض قرار بوقف العنف. وتمرير المعونة الإنسانية لربع مليون نازح سوري، داخل سوريا وحدها.
إزاء فرض القيصر الروسي لواقع سوري بالقوة. ومحمي بالفيتو في مجلس الأمن، هناك ما يوحي بأن الوسيط الدولي يتجه إلى التخلي عن المشروع العربي للتغيير في سوريا. وصولا إلى تبني العملية القيصرية الداعية إلى زرع رقابة دولية يرحب بها النظام. فقد أعلن أنان عن اعتزامه إرسال مساعديه إلى دمشق، لوضع آلية تنفيذية لوقف العنف وإطلاق النار، تمهيدا لإجراء حوار بين المعارضة والبيدق.
هناك أيضا تصريح مبهم. وغامض، لبرهان غليون رئيس مجلس معارضة الخارج، عن قبوله بتسوية سياسية! إذا كان ذلك صحيحا، فهذا يعني أن معارضة الخارج باتت قريبة من معارضة الداخل (تنسيقية حسن عبد العظيم) المستعدة ضمنا للحوار مع النظام، إذا أوقف العنف والقمع. على أن ينتهي الحوار باستيلاد حكومة «توافقية»، تمهد لانتخابات «حرة». وديمقراطية «تعددية»، ليتمكن بشار من تجديد ولايته، من خلال هيمنته المستمرة على جيش الطائفة. وأجهزة العيلة الأمنية. والإدارة الحكومية الفاسدة.
هل الصورة كالحة على هذا القدر من الغموض والسوء؟ سيّر بشار جمهور الشبيحة، احتفالا بمرور سنة على مجازر النظام المستمرة، وسحل معارضة مسلحة لا يتمتع ضباطها وقادتها بخيال واسع، وقدرة على المناورة. وسارع حسن حزب الله إلى دعوة السوريين إلى إلقاء السلاح. وإلغاء الاحتجاج. والعودة إلى بيت الطاعة!
في المقابل، تجددت تظاهرات الاحتجاج السلمية في الرقة. القامشلي. حلب. استؤنفت المقاومة المسلحة في محافظة إدلب. التهبت الحدود مع لبنان. دمشق بلا مازوت التدفئة. بلا كهرباء. ملايين الفقراء الصامتين يئنون من الغلاء. التجار استغنوا عن الليرة. وتعاملوا بالدولار. فقد بشار شعبيته في الداخل. وسحره في الخارج. لم يعد قادرا على التجول بحرية في المدن التي دمرها مع شقيقه. زوجته تبحث له في إعلانات الإنترنت، عن سترة واقية له من الرصاص.
الوضع الدولي غائم. أوباما لن يتدخل. أوروبا لن تتدخل، إذا لم تتدخل أميركا. تركيا لن تتدخل، إذا لم تتدخل أوروبا. التدخل العربي تأجل. أو تعطل بالتدخل الروسي. الجامعة العربية منقسمة. الجزائر، من تحت لتحت، مع بيدق سوريا. الخليجيون مع تسليح السوريين، لكنهم متخوفون من «الإخوان». و«القاعدة». وتمكنوا من إحباط تحريك إيران للشيعة الخليجية.
مصر ضد التدخل العسكري في سوريا. أرسلت مدير مخابراتها لاستعادة التنسيق مع السعودية. ملالي حماس و«الجهاد» في غزة مع إيران. خالد بن مشعل بن قطر زعلان من غزة. ومقيم في الدوحة. عباس ما زال في دوخة بعد الفيتو الأميركي ضد مشروع الدولة.
في منطقة يصعب التكهن بالحركة فيها، لا يمكن إسقاط الحساب من مفاجآتها: ربما عملية «قيصرية» لاستيلاد انقلاب عسكري ينقذ نظام الطائفة، إذا ما أخفقت مطرقة القيصر في تليين حديد وعناد بيادق العيلة. الشيء الوحيد المؤكد هو أن سوريا التي فقدت دور اللاعب على رقعة الشطرنج، ربما تظل سنة أو أكثر، مسرحا مخضبا بالدموع والدماء.
الشرق الأوسط

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى