صفحات العالم

العلاقات العربية – الروسية: بين جليد موسكو وربيع دمشق


شريف فياض

من ثوابت الإستراتيجية الروسية أن تحافظ على تواجد في المياه الدافئة فكيف لها أن تفرط بقاعدتها على الشاطىء السوري بعدما إنكفأت عن مصر وخسرت العراق وليبيا؟

في أواسط القـرن الماضي، وفي زمن حكم جمال عبد الناصر في مصـر، دخلت روسيا – الإتحاد السوفياتي السابق – إلى منطقة الشرق الأوسط بقوة بعدما موّلت مشروع بناء السد العالي وبعدما سلّحت الجيش المصري من ترسانتها ومن ترسانة دول أوروبا الشرقية التي تدور في الفلك  السوفياتي.

ومنذ ذلك الحين دارت رحى الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة والإتحاد السوفياتي والمنظومة الإشتراكية من جهة أخرى على ساحة الشرق الأوسط، وتزامنت وتداخلت مع نهوض حركة عدم الإنحياز التي ضمّت قادة كباراً في ذلك العصر ودولاً ذات وزن على الساحة الدولية.

كان لمعظم الدول العربية علاقات ممتازة مع الدول الآسيوية الكبرى الفاعلة  في تلك الحركة، ولكن مناورات الحرب الباردة لم تترك لعدم الإنحياز موضعاً، فعمل كل من المعسكرين المتقابلين على توظيف شعارات الحياد الإيجابي لمصلحته واستغلال الصراع العربي – الاسرائيلي لتثبيت نفوذه في المنطقة العربية. نجحت موسكو في جعل مصر وسوريا والعراق حلفاء لها، وتوسعت لاحقاً في علاقاتها مع الجزائر وليبيا واليمن، وحاكت عواطف الشعوب العربية وتبنّت قضاياها في المحافل الدولية، كما بنت علاقات مباشرة مع الأحزاب اليسارية واستقدمت أعداداً كبيرة من الشباب المنتمين اليها للدراسة في الجامعات والمعاهد الروسية على نفقة الحزب الشيوعي السوفياتي.

أعطـى هذا الواقـع لروسيا موطىء قـدم على السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وسمح لها أن تتفاعل مع مختلف الأنظمة العربية، بما فيها تلك التي قمعت الاحزاب الشيوعية في بلدانها، وعطّلت الحياة السياسية تحت شعار الإشتراكية والديموقراطية ومحاربة اسرائيل، وتفردت في الحكم وصادرت قرارات الناس وإراداتها وأرزاقها وأحكمت قبضتها على العباد بواسطة أجهزة أمنية أغدقت عليها المال والإمكانات وأطلقت يدها في التصرف دون حساب. لعل سوريا تحت حكم آل الأسد، وتحت يافطة حزب البعث العربي الإشتراكي، تجسد النموذج الأكثر وضوحاً لحلفاء روسيا في المنطقة.

ومع تزايد النفوذ الروسي في المنطقة سياسياً وشعبياً، وركوب حركات التحرر العربي مركب الإشتراكية، ورمزها روسيا، لم تتخل الولايات المتحدة عن مصالحها الإقتصادية في المشرق العربي، ولا سيما في الخليج الذي تطفو أرضه على بحر من النفط وتستثمره الشركات الغربية، فانقسم العرب عربين، قسم في ركب روسيا ويعادي أميركا والغرب ويرى في سياساتهم استمراراً لسياسات الإستعمار، وقسم في ركب الولايات المتحدة الأميركية ويعادي الشيوعية والسوفيات ويرى في سياساتهم وعقائدهم ما يتناقض مع الأديان والشرائع السماوية بينما الارض العربية هي مهد الرسالات وموطن الأنبياء.

في هذا المناخ من الإنقسام والإشتباك السياسي، اتبع حافظ الأسد حكمة معاوية، فلم يدع شعرة العلاقة مع الولايات المتحدة تنقطع، بل متّنها وقواها وبنى عليها اتفاقات استراتيجية من خلف ظهر حليفه الإتحاد السوفياتي، ما أتاح له احتلال لبنان وإقامة سلام غير معلن مع اسرائيل في الجولان تحت شعار الممانعة، ثم شارك في مؤتمر مدريد وأرسل جيشه للقتال الى جانب قوات التحالف في حرب عاصفة الصحراء.

لم يصارح الأسد رئيس وزراء الإتحاد السوفياتي اليكسي كوسيغين الذي زاره في دمشق عشية تحرك جيشه الى لبنان وحجب عنه نياته الحقيقية.  يقول يفغيني بريماكوف، الذي شغل منصب وزير خارجية روسيا ورئيس وزرائها، إن كوسيغين فوجىء عندما جاءه على وجه السرعة نائب مدير قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الروسية السيد غرينفسكي وأخبره أن الجيش السوري باشر الدخول الى لبنان، وأصابته الحيرة في كيفية تعاطيه مع هذا الحدث. فإن أعلن معرفته المسبقة بالقرار، فهو يغطي تحركاً لا علم له به، وإن أعلن عدم معرفته فيكون في الأمر إهانة له ولروسيا، وكانت ردة فعله الاولى له قوله: هذه القصة تجعلني أبدو غبياً أنا والقيادة السوفياتية على حد سواء وستكون النتيجة سيئة وسيئة جداً. وأردف قائلاً : يبقى لنا السكوت، فالكل يعلم أني كنت موجوداً في دمشق انذاك. وعلى نقيض رواية بريماكوف، ونتيجة للسكوت الروسي، هناك من يقول أن كوسيغين أخذ عهداً من حافظ الأسد، الذي أبلغه بخطة الدخول وموعدها، بعدَم التعرض لكمال جنبلاط، أو لرموز الحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية دون أن يفي بأي من عهوده. لم يكن الأسد إذاً صادقاً مع حليفه الروسي ومارس معه التقيّة وسياسة الأمر الواقع في الوقت الذي كان ينسق مع خصمه الأميركي وعدوه المعلن (وصديقه المضمر) اسرائيل، سيان أخذنا برواية بريماكوف أو سواها.

أرسل حافظ الأسد ضباط الإرتباط ومفارز المراقبة الى لبنان، قبل إجتياح جيشه الحدود وبعده، وعمل على إشعال النار حيناً وإطفائها حيناً آخر، في حركة دائمة متنقلة بين الأحياء والمناطق، بأسلوب يبقي التوتر قائماً والتفاهم بين الفرقاء اللبنانيين بعيد المنال، ويجعل من تلك المفارز حاجة لبنانية لحفظ الأمن ولتأمين التواصل بين القوى والأحزاب المتنافرة، وبين القرى والأحياء والمناطق المتجاورة، وربط الحركة السياسية في كل مستوياتها الرسمية والشعبية والقرار الأمني والإداري بمقر استخباراته قرب الحدود اللبنانية ـ السورية وبالعاصمة دمشق. لقد مكنّه ذلك الأداء من شراء وقت ثمين سمح له البقاء في لبنان خلافاً لوثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في الطائف، وكان شريكاً في صوغها مما أتاح له أن يزرع فيها ألغاماً جاهزة للتفجير عندما تقتضي مصلحته ذلك.

إن هذه التقاليد والمهارات التي ورثها بشار الأسد عن أبيه، وثقافة إستخدام العنف في حل مسائل الإختلاف بالرأي، يوظفها النظام السوري اليوم في مواجهة ثورة الربيع العربي التي تفجرت في معظم أنحاء سوريا. لم يتردد وزير الخارجية وليد المعلم في التصريح أن الشعب يريد الحل الأمني وليس السياسي في معالجة الأزمة الداخلية، كما لم يتردد في إعلان موافقته ورفضه في آن واحد للمبادرة العربية التي حاولت إنقاذ سوريا من براثن الفتنة الداخلية. أما رئيس الدولة فلم يبخل على شعبه بإطلاق الوعود بالإصلاح وبإجراء إستفتاء على دستور يضمن بقاءه رئيساً طيلة أربعة عشر عاماً بعد إنقضاء مدة رئاسته الحالية.

وإذا كان حافظ الأسد قد حمى تحركه لاحتلال لبنان ولتدمير مدينة حماة بالتفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية ومع إسرائيل، فمع من يا ترى يحمي ابنه بشار معارك درعا وجسر الشغور وحمص وإدلب وريف دمشق، ومن يغطي له مجازر بابا عمرو وقطع أصابع رسام الكاريكاتور علي فرزات ونزع أظافر الأطفال؟ هل الفيتو الروسي ـ الصيني المزدوج كاف لتأمين تلك التغطية أم أن مهمة المبعوث الأممي والعربي كوفي عنان ستمنح الأسد الوقت الكافي لإنجاز الحل الأمني وفقا لتصريح الوزير المعلم؟

من ثوابت الإستراتيجية الروسية أن تحافظ على تواجد في المياه الدافئة وفي البحار التي تستطيع أن تنشىء على شواطئها قواعد تؤمن لها الدفاع عن مصالحها، فكيف لها أن تفرط بقاعدتها على الشاطىء السوري بعدما إنكفأت عن مصر وخسرت العراق وليبيا وبعد أن سيطرت الولايات المتحدة الأميركية على منابع النفط في الشرق الأوسط وأنهت الحرب الباردة لمصلحتها؟

يحاول الروس إذاً التمسك بآخر موقع لهم في المنطقة العربية مهما كان الثمن غالياً قبل أن يعودوا الى حدودهم في البلقان وفي جنوب شرق آسيا، وهذا ما لا يرغب الرئيس ميدفيديف حصوله في عهده ولا الرئيس المنتخب بوتين مواجهته في مطلع ولايته المقبلة، لذلك كان الموقف الروسي، وكان الفيتو في مجلس الأمن، والدعم الحازم للنظام السوري ثمناً للمحافظة على القاعدة البحرية للأسطول الروسي على شاطىء طرطوس، ومبرراً للتحرك النشط الذي قاده الوزير سيرغي لافروف بغية إعادة التوازن الى السياسة الدولية في الشرق الأوسط والدفاع عما ترى فيه القيادة الروسية مصالح حيوية لا تتنازل عنها، دون أن تأخذ في الإعتبار المظالم التي يتعرض لها الشعب السوري، أو مناخ العداء المتنامي لروسيا في البلدان العربية، ولعل الرئيس ميدفيديف لم يدرك مدى الأذى الذي يصيب المواطن السوري عندما يضعه أمام خيارين إثنين: بشار الأسد أو الحرب الأهلية.

ربما يكون وزير الخارجية الروسي لافروف قد تمكن من كسر جليد العلاقة مع الجامعة العربية بعد أن التقى وزراء الخارجية العرب في القاهرة، ولكنه هل يتمكن من كسر جليد العلاقة مع الشعب السوري؟ وماذا عساه يرى عندما تذوب تلك الطبقة السميكة التي تحجب الرؤية؟ ربما يرى الدم المهدور لشباب الربيع السوري، الذي جمّده صقيع موسكو، يسيل ليبلغ سواحل طرطوس  ويجعل من شطآنها مرافىء لا تصلح لرسو السفن الروسية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى