صفحات سورية

الثورة السورية: من الكتابة على الجدران الى الكتابة على صفحات التاريخ

 


د. خالد المشعان

لم يعد من شك، حتى لدى اكثر المتفائلين والمنتفعين من بقاء الانظمة الدكتاتورية العربية، بأن مد الثورات الشبابية المتصاعد وقراراتهم الحازمة، والخالية من اية مواربة، بانتزاع الحرية والديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة والتمتع بحق المواطنة الحقيقية، قد أدى، حتى اللحظة، إلى تهاوي العديد من أعتى الدكتاتوريات في الوطن العربي، ويبشر كذلك باقتلاع المزيد من الانظمة بلا تفرقة، ملكية ادعت نفسها ام جمهورية. فقد اثبت تسارع أحداث الربيع العربي أن الانظمة العربية كلها في القمع سواء لا فرق في ذلك بين ‘نظام تقدمي’ كان أو ‘رجعي’.

ومما لا شك فيه ايضاً، ان هذا الربيع قد غير، وإلى الأبد، معطيات المعادلة السياسية المتمثلة بطرفين متناقضين بالمعنى الحرفي للكلمة، والمتمثلة على الأقل حتى الأسابيع القليلة الماضية، بأكثرية فقيرة مهمشة ومستضعفة تتناهبها الأهواء وهرطقات النخب السياسية والاقتصادية، من جهة، وأقلية سلطوية متخمة متغولة فاسدة تعيث في الاوطان فساداً وتستمد أسباب بقائها من تسويق سياسات مرتبطة بشكل آو بآخر بالمؤسسات الدولية، كصندوق النقد والبنك الدولي، اقل ما يقال عنها انها كارثية بالمعنى الحرفي البشع للكلمة، من جهة اخرى، ولنا في تجربة تونس في التنمية وتجربة مصر في الانفتاح مثال صارخ على هذه السياسيات.

ولقد كان العنف والتسلط والخوف، حتى وقت قريب، هو السمة الطاغية على العلاقة الناظمة بين طرفي هذه المعادلة، الشعب والسلطة. ولعل ابرز ما يميز مرحلة الثورة التي نعيش فصولها هذه اللحظة، هو انتقال عامل الخوف هذا بالذات من صفوف الجماهير الى صفوف النخب الحاكمة، وهذا ما يدفع بتلك الاخيرة الى مراكمة الاخطاء القاتلة وبالتالي تسريع ساعة السقوط المحتم. لقد غيرت ثورة الشباب العربي حتى اللحظة، وبسيناريوهات متشابهة، اثنين من أعتى الانظمة العربية قمعاً، هما نظاما بن علي في تونس ومبارك في مصر. ولا تزال تلك الثورة تهز بعنف ثلاثة انظمة آيلة للسقوط، القذافي في ليبيا وصالح في اليمن والاسد في سورية. ناهيك عن ارهاصات مبشرة في المغرب والجزائر وموريتانيا ودول الخليج، التي ما انفكت انظمتها تلوح بالتغيير والإصلاح الديمقراطي ومكافحة الفساد. عسى ولعل الامنيات تثني الشباب المتعطش للتغيير عن النزول الى ساحات التحرير والتغيير المتناسخة على امتداد الساحة العربية. واذا كان النظام الليبي في حكم الساقط، والنظام اليمني قاب قوسين أو ادنى، إلا أن النظام السوري يستحق منا وقفة مطولة، لما لهذا النظام من خصوصية ولما للحراك السياسي السوري المطالب بالتغيير من شجون وشؤون.

فالسوريون الذين عانوا من الحكم الديكتاتوري لأربعين عاماً خلت، حطموا اخيراً حاجز الخوف، بدايةً باعتصامات تضامنية مع الشعب التونسي ثم المصري والليبي ليعلنوها بعد ذلك صريحة بتحولهم نحو الهم الوطني في انتفاضة الحريقة بهتافات كان اولها ‘الشعب السوري ما بينذل’ و’يا بشار انقذنا من العصابة’، لتتطور الاحداث بعد ذلك بتسارع غير مسبوق نتيجة لعيوب في بنية النظام الممانعة لاية تغييرات حقيقية على النقيض مما يدعي. ففي سيناريو مشابه لما جرى في تونس ومصر وليبيا، نهضت درعا في جنوب سورية يوم 18 آذار/مارس، بمطالب محدودة اقتصرت على إطلاق سراح عشرين طفلاً سجنوا بسبب كتابتهم على الجدران لشعارات مناهضة للنظام وتطالب بإسقاطه، ثم المطالبة برفع حالة الطوارئ وإطلاق سراح سجناء الرأي، رداً على المعالجة العنيفة لمطالب الاهالي من قبل الاجهزة الامنية تحت قيادة العميد نجيب عاطف. بذلك تكون درعا قد دخلت التاريخ من اوسع ابوابه بتبنيها مطالب اكثر من عشرين مليون سوري يتوقون للحرية والكرامة والديمقراطية. مطالب السوريين كانت متواضعة في بدايتها، بالنسبة لما رفع من مطالب في انتفاضات عربية مشابهة، والمتمثلة برفع قانون الطوارئ ومحاربة الفساد وكف يد الاجهزة الامنية عن رقاب الناس. ومهما جادل النظام والمتحدثون باسمه، رسميين كانوا ام متحذلقين ممن ارادوا التسلق على سلالم النفاق، متعامين بذلك عن الدم الزكي الذي اريق برعونة رجال الأمن وانفلات عقالهم من كل رادع وطني أو أخلاقي، فإن الرد الذي سوقته الاجهزة الامنية في درعا والصنمين وآنخل وجاسم، لا يرقى بأي شكل من الاشكال الى مستوى تصرف مؤسسات وطنية، بل ان تلك الاجهزة نحت في معالجتها للأحداث منحى تأنف اشد منظمات المافيا إجراماً على الإتيان بمثله ومن دون اي إحساس بالمسؤولية، ان لم يكن باتجاه الوطن والمواطن، فعلى الأقل اتجاه الخطاب الوطني الإصلاحي الذي تبناه الرئيس بشار الاسد وفريقه منذ عشرة اعوام ونيف.

بعد اندلاع الحركة الاحتجاجية في درعا، ومن ثمة في اللاذقية وبقية المحافظات السورية، عاش السوريون عشرة أيام عجافا بانتظار خطاب الرئيس الاسد، معللين الأنفس بقرارات وتوصيات تبرد الجروح النازفة في أكثر من محافظة، متمنين ان تصدق آمالهم بأن بشار الاسد لم ولن يسكت عن الظلم الذي حاق بهم، خاصة انه لم يفتأ يقدم نفسه، بكل احاديثه، كرئيس يقف في صف الشعب ضد الفاسدين والمفسدين. ومما أنعش امال السوريين، تصريحات نواب الرئيس ومستشاريه، التي كانت مترعة بالوعود والآمال. لكن الخطاب الموعود، الذي اختاره الرئيس أن يكون من تحت قبة مجلس الشعب امعاناً في الهزلية، جاء مخيباً للآمال، بل لا نبالغ اذا قلنا انه اضاف من الالام بأكثر مما يحتمله أكثر المتفائلين به وبفترة حكمه. فقد خلا هذا الخطاب، وبتجاهل عبثي، من اي اشارة ولو بالتلميح لمطالب الشعب الحقيقية، او من اية كلمة عزاء بالشهداء الذين سقطوا برصاص رجال الأمن والفرقة الرابعة التي يقودها شقيقه العقيد ماهر الاسد في درعا، او بيد عصابات الشبيحة في اللاذقية. لا بل ان الخطاب جاء مليئا بالأضاليل والتهم الخيالية التي لا تليق برب اسرة، فما بالنا برئيس دولة يعلم هو قبل غيره أنها محض اكاذيب. فإلقاء التهم على عناصر خارجية مندسة او داخلية عميلة والتلميح بشبح الفتنة الطائفية، ما هي إلا اسطوانة مشروخة لم تنفع بن علي ولا مبارك، وهذه المراوغة الفجة لم تنطل حتى على الاطفال.

لقد حاول الرئيس الاسد خطابئذ، أن يسوق نظرية التآمر على النظام بسبب مواقفه القومية ملمحاً الى الموقف السوري من القضية الفلسطينية والمقاومة اللبنانية والعراقية، متناسياً أن الموقف السوري من القضية الفلسطينية هو موقف الشعب السوري وليس موقف السلطة. لقد فات الأسـد، أن اجدادنا الذين جاهدوا في فلسطين علموا اباءنا أن فلسطين عربية وأن الشعب الفلسطيني عربي، وحملوهم القضية امانة في اعناقهم، واباؤنا حملونا فلسطين في ضمائرنا ونحن وعدناهم بحمل الامانة ووعدناهم بتربية اولادنا، ليربوا اولادهم واحفادهم بأن فلسطين عربية. القضية إذاً قضية شعوب وليس أنظمة، النهج القومي الذي تنتهجه سورية، هو نهج شعبي وليس سلطويا. لقد فات الاســد، أن هذه الثورة العربية التي تبشر بتغيير معالم المشرق والمغرب والخليج بانتفاضة عارمة، ندين بها كشعوب عربية، وربما شعوب العالم بعدئذ، بالدرجة الاولى للشعب الفلسطيني، حيث كان هذا الشعب اول من سن اسلوب الكفاح هذا مسطراً بذلك اولى ملاحم المواجهة بين الشعوب المستضعفة وآلة الطغيان بسلاح الانتفاضة الفعال. وفي محصلة الأمر، لولا تقاعس بشار الاسد وزملائه الزعماء العرب عن تحرير فلسطين، لما وجدت الشعوب العربية نفسها مدفوعة لأخذ زمام الامور بنفسها، وهو يعلم قبل غيره أن فلسطين هي المبتدأ والخبر في أي حراك سياسي عربي. والحال كذلك، فلا مجال لكائن من كان أن يتاجر بعذابات الشعب الفلسطيني الذي سطر اروع ملاحم التاريخ في المقاومة والصمود أو بالمقاومة اللبنانية والعراقية، فالموقف منها هو موقف شعبي وطني وليس موقفا سلطويا.

ولعل مآسي السوريين وخيبة املهم لا تقف عند هذا الخطاب التاريخي الذي يجب أن يدرس في جامعات العالم كمثال على تضليل الشعوب وتهديدها، بما حمله من مغالطات وتضليل ومراوغة وضعف في الحجة واستهتار بمطالب الشعب المشروعة، بل الأنكى من ذلك، أن خطاب الرئيس بشار الاسد حمل، بخطورة واصرار، مشروع حرب طائفية، تبدو انها الورقة الاخيرة التي يستطيع النظام لعبها لمواجهة حالة الغليان، والرد الوحيد على الحراك السلمي للجماهير كان واضحا في تحليلات الرئيس الفلسفية: إما النظام أو الفتنة الطائفية ولا مكان للوسط، فإما معنا أو علينا. فقد كان ديدن النظام، ومنذ بداية الانتفاضة، العنف رداً على التظاهرات التي يصر الشباب الثائر منذ اليوم الاول وحتى جمعة الصمود الاخيرة على سلميتها.

ولا يبدو فقط أن النظام مصر على مواجهة المطالب المشروعة بالسلاح والنار فقط مع التغييب الكامل لأية بادرة انصات لمطالب الجماهير، بل انه امعن بالتصعيد العنيف باستخدامه بعض فرق الجيش وآلويته، خاصة الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، واطلق يد الأجهزة الأمنية وعصابات الشبيحة وزعران الحزب في دمشق ودوما ودرعا ولاذقية العرب وحمص ودير الزور وبقية المحافظات والمدن السورية المنتفضة، لتعيث قتلاً واعتقالاً وتنكيلاً بالمواطنين. والحال كذلك، فإذا كانت سورية مستهدفة حقاً بمؤامرة خارجية، الا يحق لنا أن نتساءل: من يخدم هذه المؤامرة؟ تصعيد الخطاب الطائفي من قبل النظام، واشاعة استخدام العنف، ام الحراك السلمي للمتظاهرين الذين قدموا مطالب واصلاحات، يعلم النظام قبل غيره انها تطمح، اولاً واخيراً، الى تقوية الجبهة الداخلية ضد من يستهدف سورية ومواقفها القومية، ثم اذا كانت مواجهة تلك المؤامرة المزعمة تتطلب مراجعة سياسات النظام الداخلية والحد من تغول التحالف المافيوي بين الاجهزة الامنية وعصابات الفساد وكف يد المقربين عن رقاب المواطنين، ألم يكن حرياً بالرئيس أن يقول لنا وبكل صراحة وشفافية ما هو فاعل إذا كان الحل، كما يفرضه المنطق السليم، تغييرا جذريا في بنية النظام؟

اليوم، وبعد مضي أقل من شهر على بداية الثورة وسقوط مئات الشهداء والاف الجرحى في جميع انحاء سورية، يمعن النظام في تعاميه عن الحقائق والبديهات التي بات الشعب السوري يعرفها ومعه الشعوب العربية، واولاها: ان قاطرة التغيير قد انطلقت، وان الشعب السوري بكل مكوناته قال كلمة الفصل بوجوب تغيير النظام، فلا منح الجنسية السورية للمواطنين السوريين الاكراد يعيد لهم كرامتهم المهدورة منذ نصف قرن، ولا العزف على الوتر الطائفي بات يُرقّص جزءا عزيزاً ومهماً من شعبنا عانى قبل غيره من ويلات النظام. يعرف السوريون اليوم، اكثر من اي وقت مضى، بأنهم يستحقونَ قيادة تواكب تطلعاتهم الوطنية والقومية، لا قيادة تقتل وتنكل بهم بعد أن قضت سنوات طوال تتاجر بقضاياهم ومصائرهم وتُأملهم بمستقبل أفضل لم ولن يأتي، في ظل علاقة الغش والكذب والتسويف والتهديد بحرق المركب بمن فيه. ويبدو كذلك أن النظام لم يستوعب بعد أن الثورة ليست عشوائية كما يراهن ويأمل مؤيدوه المتطوعون والمجبرون على حد سواء، بل ان الشباب المنتفض قد طور آليات تنظيم فاقت بأشواط قدرات أجهزته الأمنية التي لا تتقن سوى فنون التعذيب والقتل والتنكيل واخراج المسرحيات العبثية.

إن الثورة التي انطلقت على أيدي أطفال درعا، تتمدد الآن على كامل التراب السوري، دمشق، درعا، دوما، اللاذقية، حمص، حماة، جبلة، بانياس، دير الزور، الحسكة، القامشلي، تل كلخ وكل المدن والبلدات السورية تنهض. لقد اختار الشعب السوري بكل مكوناته، الكرامة والحرية، وها هو يدخل التاريخ بعد أن غيبته الدكتاتوريات المتعاقبة عن المسرح، والخوف اصبح الآن في ملعب النظام والشيء المؤكد أن سورية الغد لن تعود كما كانت قبل الثامن عشر من اذار بوجود النظام او بزواله.

 

‘ باحث وصحافي سوري

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى