سلامة كيلةصفحات سورية

الثورة السورية من منظور طائفي/ سلامة كيلة

 

 

بعد فترة وجيزة من بداية الثورة السورية، راجت في بعض أوساط المعارضة فكرة أن الثورة هذه هي “ثورة سنّية ضد نظام علوي”. ولقد كانت تعمم “في الخفاء” في الوقت الذي كان يجري الشغل من قبل هذه الأطراف (خصوصاً هنا جماعة الإخوان المسلمين، وبعض من إعلان دمشق) على “أسلمة الثورة” من خلال “تزوير” اليافطات وفرض يافطات، وتركيز التصوير على “هوامش”، ومنع ظهور الشعارات الأساسية، وغيرها من الأساليب. وبالتالي يمكن هنا أن نقول أن منظوراً طائفياً كان يحكم جزءاً من المعارضة السورية، ولقد استغلّ فضائيات و”سياسات دول” من أجل تعميم هذه “الأسلمة”.

هذا الصوت كان يعمل خفية في البدء، ويركز في العلن على “الثورة”، رابطاً ما يجري بما حدث من صراع سنوات 1980/ 1982، أي صراع جماعة الإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة ضد النظام من منظور طائفي، والذي توَّجه النظام بمجزرة مروعة في حماة. وكان هذا الربط قصدياً لتأكيد استمرار الصراع الطائفي ضد النظام.

كان يجري كل ذلك (خارج سورية في الغالب) وشباب الثورة يرفع شعار “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد”، وشعار “لا سلفية ولا إخوان الثورة ثورة شبان”، وكذلك “لا إخوان ولا سلفية بدنا الدولة المدنية”. وكانت هذه الشعارات ردا على خطاب النظام القائم على أن “ما يجري هو من فعل مجموعات سلفية” أو أنه “نشاط إخواني” كجزء من مؤامرة أميركية. أي أن هذا الخطاب كان يهدف إلى القول بأن ما يجري هو من فعل “الإخوان المسلمين”، ويجري التذكير بما حدث سنوات الثمانينات تلك للقول بأن ما يجري هو رد “سنّي ضد العلويين” الذين يحملهم الإخوان وزر المجازر تلك.

لقد عمل النظام بجدّ، وجهد كبير، من أجل استغلال التكوين المجتمعي المتعدد، والصراعات السابقة، لتخويف بعضه من بعضه الآخر. فقد كان يحتاج الى خوف الأقليات، خصوصاً العلويين الذين يشكلون “القاعدة المفترضة” له، وتخويف “الليبراليين والعلمانيين واليسار”، والفئات الوسطى المدينية، لكي يضمن تماسك “بنيته الصلبة” المشكلة من الأقليات، ويُبقي الأغلبية الشعبية مترددة وهيّابة من المشاركة في الثورة. لهذا كان رد الشباب هو لكسر هذين العنصرين كي تصبح الثورة هي ثورة كل السوريين.

لكن بعض النخب قبلت أن تكون “الطرف الآخر”، أي قبلت “الأسلمة” كرد على النظام، وعملت على ما يخدم خطاب النظام، ويخدم استراتيجيته. وهي مهيأة أصلاً لذلك، بالضبط لأنها تمتلك “وعياً طائفياً”، ظهر خلال صراع سنوات 1980/1982، وعملت على تعميمه، بالضبط كما كان يفعل النظام. وإذا كانت تعمم ذلك “في الخفاء” بداية، فقد جهرت به فيما بعد، وتعمم لكي يشمل نخباً مهمة في المعارضة. ليصبح شعار “ثورة سنية ضد نظام علوي” هو أساس الوعي لدى هؤلاء، وبات خطابهم طائفياً بامتياز، وبـ “بجاحة”. لهذا من يتابع الإعلام، والشخصيات المعارضة المداومة فيه، يتوصل إلى نتيجة أن الثورة هي ثورة سنية حقيقة ضد نظام علوي.

وأصبح يتكرر قول “أن السنة هم المستهدفون”، وأن النظام لا يقصف ويقتل ويدمر سوى السنة. ورغم ما في هذه المسألة الأخيرة من “صحة”، سنلمس أنها شكلية إلى أبعد الحدود، لأنها تنطلق من “واقع الصراع”، أو بالأدق من طبيعة المناطق التي تُقصف، لكن دون سؤال: هل أن هؤلاء ثاروا لأنهم سنّة، أو أن الأمر مختلف تماماً؟ وبالتالي هل يقصفهم النظام لأنهم سنّة أو لأنهم تمردوا عليه؟ لا بد من أن نشير الى أن هذه النخب، خصوصاً هنا جماعة الإخوان المسلمين والإعلام المرتبط بها، والهيئات التي هيمنت عليها، عملت على منع إبراز دور كل مناطق “الأقليات” خلال مسيرة التظاهرات، وكذلك تهميش كل الناشطين من “الأقليات”، والإصرار على إظهار أن “المناطق السنية” هي التي تتظاهر وتنتفض وتحمل السلاح. كل ذلك من أجل تأكيد خطابها، لكنها في الواقع كانت تؤكد خطاب النظام. وهذا ما كان يخيف “الأقليات”، ويشلّ إمكانية مشاركة أكبر لهم في الثورة، تأسيساً على أنها ثورة شعبية من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية. من أجل إيجاد فرص عمل وأجر أفضل وتعليم أفضل، وديمقراطية. فقد عملت بالتالي على “قولبة” الثورة في الإطار السني، ولم تُرِدْ لها أن تشمل الشعب كله، انطلاقاً من منظورها الطائفي، وحلمها هي بأن تحكم باسم “الأغلبية” (أي السنّة)، تأسيساً على أن ذلك حق لها، ربما “حق إلهي” يفرض أن يكون الحكم للسنّة.

هل النظام علوي؟ هذا ما تكرره تلك النخب، حيث أن “العائلة الحاكمة” علوية، والأفراد المختارين لمسك المواقع المفصلية في الدولة علويون، وهناك سطوة علوية، الى حدّ أن اللهجة العلوية باتت “جواز مرور”. كل ذلك صحيح، لكن هل أن هذا هو ما يحدِّد علوية النظام؟

من حيث الشكل (الصورة) نعم، فهؤلاء علويون بالولادة، لكن ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن الحكم هو حكم العلويين؟ أن يكون حكماً للعلويين يعني أن كل العلويين مستفيدون منه، لكن ما يبدو في الواقع هو أولاُ أن الحكم هو حكم الفرد الدكتاتور، وأن فئة من العلويين هي المستفيدة فقط، بينما نجد أن الفقر والتهميش يطال الأغلبية العلوية، فالساحل هو من أفقر مناطق سورية. وكان الصراع واضحاً بين الفئة التي أثرت وبين فقراء العلويين، وفرض ذلك تصاعد النقمة ضد آل الأسد نتيجة كل الممارسات التي قاموا بها.

ما يكمل هذا التوصيف للنظام هو وصفه بأنه نظام طائفي؟ هنا نجد الخلط في معنى الطائفية، لأنها التمسك بأيديولوجية، وإقامة العلاقة مع الآخر على أساسها. ولهذا ينقسم العالم إلى نحن وهم، الطائفة والطائفة الأخرى، ويتشكل المنظور للآخر على هذا الأساس، ليكون هو العدو نتيجة انتمائه لطائفة أخرى (أو دين آخر). هل أقام النظام علاقاته على هذا الأساس؟ بالتأكيد لا، حيث عمم السلفية “السنية”، ودعم المؤسسة “السنية”، وربط علاقات مع تنظيمات “جهادية”. وهذه ليست سمة المتعصب طائفياً، الذي يقيم الحدّ على الآخر. وبالتالي يمكن القول أن النظام عمل على الاستفادة من كل ما يتيح له الواقع: من بيئته وطائفته، ومن السلفية السنية، ومن تخويف الأقليات، ومن الأكراد، ومن الشيوعيين والقوميين، وحاول الاستفادة من الإخوان المسلمين.

عمل النظام على الاستفادة من كل ما يتيح له الواقع: من بيئته وطائفته، ومن السلفية السنية، ومن تخويف الأقليات، ومن الأكراد، ومن الشيوعيين والقوميين، وحاول الاستفادة من الإخوان المسلمين.

وكان يقيم هياكل نظامه على توازن بين كل هؤلاء، الوزارة والأجهزة الأمنية والجيش. مع بقاء السلطة الشاملة بيده، ولهذا كان يعين من يثق به، ومن يقبل التبعية له. ومع بقاء مفاصل الدولة بيد أشخاص من “الطائفة”.

ظاهرة استفادة فئة من “بيئة الرئيس” عامة في البلدان العربية، ومجمل الأطراف، حيث يعتمد الرئيس على بيئته لأنه “يثق بها”، نتيجة الأصل الريفي له، وهذا تحليل سيسيولوجي لمجمل النظم التي حكمت باسم “التحرر الوطني”. ولهذا تستفيد فئة من هذه البيئة لأنها تصبح “أداة” الرئيس، و”قوته الصلبة”. لكن يبقى الحكم هو حكم فرد، ويعبّر عن مصالح نامية أو ناجزة لفئة نهبت وتحوّلت لأن تكون “رجال أعمال جدد”. وهي منذ أكثر من عقد في تحالف وثيق مع البرجوازية التقليدية “السنية”، خصوصاً الدمشقية الحلبية، وهذا التحالف الطبقي هو قاعدة النظام إلى الآن. هل أن السنة هم فقط المعنيون بالثورة؟

هل ثار هؤلاء لأنهم يعتقدون أن من حقهم الحكم كونهم “أغلبية”، وليس من حق العلويين لأنهم أقلية؟ ربما لن نجد أنه كان لهذا السؤال موقعاً حين انفجرت الثورة، ولم يلتفت أحد إلى دينه، حيث كان الكثير من الشباب والمشاركين في الحراك من الذين راهنوا على بشار الأسد، وفي العديد من المناطق كان جزء من هؤلاء بعثيين. فقد كانت قاعدة النظام متسعة لمعظم الشعب بعد أن تحقق التغيير، وحصل الفلاحون والعمال والفئات الوسطى على حقوق في مجال الحياة (دون السياسة). لكن اللبرلة التي توسعت بشكل متسارع فرضت انحدار وضعهم، وبالتالي تمردهم. هذا ما كان يحكم منظور هؤلاء لا الدين ولا الطائفة ولا القومية. حيث هدف إسقاط النظام إلى تحقيق الحرية والديمقراطية، وأيضاً معالجة البطالة والفقر والتهميش. هذا هو الأساس الذي جعل الشعب يريد إسقاط النظام، وليس لأن السنة هم من أراد الحكم “لأنه من حق الأغلبية”، هذه فكرة جديدة، تُطرح من فئات تريد السلطة.

أشرت قبلاً إلى التفارق بين الحراك الشعبي الذي صنع الثورة و”المعارضة”، حيث كانت التظاهرات تؤكد على الشعب السوري، وأرادت انخراط كل الشعب بعد أن ظهر تردداً في الكثير من المناطق بداية قبل أن تصل الثورة حلب بعد عام من نشوبها، وواجه خطاب النظام الذي كان يريد التمييز بين السنة والأقليات (خصوصاً العلويين)، وإظهار أن الثورة سنية ضد نظام علوي وأنه يحمي الأقليات. لكن أطراف أساسية في المعارضة أسّست منظورها على خطاب النظام، بحيث باتت تعمل على “أسلمة” الثورة، أي “تسنينها”، وقالت أن “الثورة سنية ضد نظام علوي”.

أراد النظام أن يخلق صراعاً يحرف الثورة، ويجرّها الى شكل طائفي يمكن أن يُستغلّ ضدها (كما حدث بالضبط)، وتبرعت أطراف في المعارضة لمساعدته على ذلك.

بمعنى أن النظام كان يريد أن يخلق صراعاً يحرف الثورة، ويجرّها الى شكل طائفي يمكن أن يُستغلّ ضدها (كما حدث بالضبط)، وتبرعت أطراف في المعارضة لمساعدته على ذلك. بينما كان الشعب يريد تغيير النظام من أجل نظام يحقق مطالبه في العمل والأجر الأفضل وتجاوز التهميش وغيرها.

هذه هي “المعركة الإعلامية” التي خيضت منذ البدء من طرف النظام وأطراف في المعارضة لكي تصبح الثورة سنية ضد نظام علوي. وكان لكل حساباته، رغم أن حسابات النظام كانت أكثر دقة، خصوصاً أنه جرت مساعدته من أطراف إقليمية ودولية، عملت باسم “دعم الشعب” على أسلمة الثورة وتفكيك قواها.

لماذا نجح “تكتيل” العلويين، وتخويف الأقليات الدينية؟ نجح نتيجة شغل الطرفين على الخطاب ذاته، أي النظام وأطراف في المعارضة، بدعم قوى إقليمية. بدءاً من تسمية أيام الجمع، إلى نقل مشوه لشعارات الثورة، إلى صعود العرعور، إلى دور الإعلام (إعلام النظام والمعارضة). فقد فرز الشعب على أساس طائفي، فأخاف العلويين من “جزر” الإخوان رداً على مجزرة 1982، وكتّل بعض السنة تحت وهم أن هذا هو طريق إسقاط النظام. لكنه فتح لإيجاد بيئة لـ “الجهاديين”، وتقبلهم، وتقبّل التنظيمات السلفية. فحين يتحوّل الصراع الى صراع على أساس ديني سيفرز الشعب بشكل خاطئ. وبهذا خسر العلويون خيرة الشباب، ودبّت الصراعات في “البيئة السنية”، وانهرست الثورة بينهما.

ماذا يخفي “الخطاب السني”؟

نقصد هنا، هؤلاء ممن يدّعون أنهم جزء من الثورة (أو أنهم الثورة)، ليس فقط جماعة الإخوان المسلمين بل أطراف في إعلان دمشق، و”منشقين”، ونخب انخرطت في بكائية على السنّة المستهدفين في القصف والقتل، أو الذين وجدوا أن الطابع العام في الصراع ضد النظام بات “سنياً”، أو التابعين لدول إقليمية هي ذاتها سلفية (السعودية). من الواضح أن هناك من ركب الأسلمة لكي يتحوّل إلى قوة مهيمنة، وبات يشتغل بالتسنن لكي يقول أنه الأغلبية التي يجب أن تحكم. وهناك من يريد أن يفرض سطوته الاقتصادية بديلاً لرامي مخلوف، وهكذا. أي أن المصالح هي التي تحرّك كل هؤلاء “السنّة”. لكن، الحرية لا تعني حكم الأغلبية الدينية، بل تفتح لنظام جديد يتجاوز الدين، ويقوم على إرادة الشعب، ومبدأ المواطنة، والأغلبية التي تتحقق في الانتخابات على أساس برنامج سياسي وليس طائفي.

الحرية لا تعني حكم الأغلبية الدينية، بل تفتح لنظام جديد يتجاوز الدين، ويقوم على إرادة الشعب، ومبدأ المواطنة، والأغلبية التي تتحقق في الانتخابات على أساس برنامج سياسي وليس طائفي. والديمقراطية هي حكم الشعب غير المعرَّف بدين أو طائفة.

إذن، وصلنا إلى وضع باتت فيه أطراف معارضة تكرر الخطاب الذي يريده النظام، وتنطلق من المعادلة التي رسمها منذ البدء، أي سنّة ضد علوية. وأخذ النقاش مجرى الأحقية في الحكم: هل هي للأغلبية أو للأقلية؟ وبالتالي جرى تجاوز أن في سورية ثورة، وأن الشعب ثار لأنه ضد الاستبداد ومن أجل أن يجد العمل والأجر المناسب والتعليم الجيد والعلاج، وأن يقرر مصيره كشعب وليس كطوائف وأديان. لم يثر الشعب من أجل حكم مافيا سنية بديلاً عن المافيا العلوية، ولم ينظر للصراع مع النظام من هذا المنظور أصلاً.

صدى الشام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى