صفحات العالم

فوق رماد سورية والعراق: هل بقي وقت لإطفاء الحريق الطائفي؟


د. عبدالوهاب الأفندي

ينعقد في قاهرة المعز مطلع الأسبوع القادم مؤتمر بعنوان ‘نحو وحدة إسلامية في ظل التحديات المعاصرة’، ولعله كان أحق أن يسمى مؤتمر إطفاء الحرائق الطائفية المشتعلة في شرق العالم الإسلامي وغربه. فلم تعد الوحدة الإسلامية هي الغاية، وإنما يكفينا أن نختلف دون أن نقتتل. فليست المشكلة هي اليوم في سورية أو العراق أو الخليج أو إيران أو باكستان أو لبنان تباغض المسلمين، بل تجرؤ بعضهم على سفك دماء بعض، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

في مثل هذه الظروف، لا يكفي عقد مؤتمر هنا أو هناك، وتبادل معسول الأقوال، دون النظر في جذور المشكلة ومعالجتها. وعليه فرغم أن جهد الجهات المنظمة (وعلى رأسها منتدى الوحدة الإسلامية الذي ساهم كاتب هذه السطور في تأسيسه مع نفر من كرام الإخوة) لهذا الملتقى هو جهد مشكور، إلا أنه غير كاف. بل قد يكون ضرره أكبر من نفعه إذا أعطى الانطباع الخاطئ بأن مثل هذا الجهد يغني عن غيره.

ففي مثل هذه اللقاءات عادة ما تجتمع فئات من أهل الاعتدال، أو من تتقارب آراؤهم وأفكارهم، ليتبادلوا المجاملات، في حين أن المشكلة هي في الغائبين عن مثل هذه اللقاءات، الرافضين لفكرتها، بل والمعتقدين بأن القائمين عليها خانوا القضية. على سبيل المثال نجد أن بعض القائمين على منتدى الوحدة الإسلامية دأبوا على تلقي رسائل، وسماع بيانات وكتابات صحافية، تتهمهم بأسوأ التهم، أدناها الغفلة عن مخططات كبار مجرمي الطرف الآخر. ومن باب أولى أن هؤلاء لن يستمعوا لنداءات مثل هذه اللقاءات أو يحفلوا بالبيانات التي تصدر عنها.

صحيح أن المتطرفين بطبيعتهم لا يقبلون الحوار ولا يستمعون لصوت العقل الذي يرونه صوت التخاذل والانحياز للعدو. ولكن الإشكال ليس في غلاة المتطرفين، وإنما هو في تحول التطرف من كونه معزولاً كما ينبغي، إلى رأي عام، كما هو الحال في مناطق كثيرة هذه الأيام. ولكي تعود الأمور إلى نصابها، لا بد من القيام بإجراءات استثنائية، تبدأ من نقد الذات وتنتهي به. وهذا يعني أن يتولى العقلاء في كل طرف لجم المتطرفين في معسكرهم. ومعنى ذلك فإنه بدلاً من أن يهاجم الشيعة غلاة السلفيين وينتقد السنة غلاة الشيعة، يجب أن نسمع العكس. فلنسمع من علماء السنة الإدانة للهجمات على مساجد الشيعة في الباكستان، وعلى أحياء الشيعة في مدن العراق، أو ما تجترحه حركة الشباب في الصومال من قتل للأبرياء، أو ما يأتي به من يسمون أنفسهم أنصار الشريعة في مالي، والقائمة تطول. ويجب كذلك أن تنتقد الدول التي تضيق على مواطنيها الشيعة، وعلى رأسها البحرين.

بنفس القدر، فإن واجب عقلاء الشيعة أن ينتقدوا تجاوزات الحوثيين في اليمن، أو ميلشيات الصدريين في العراق، إضافة إلى انتهاكات حكومة المالكي ومناصريه ضد سنة العراق، وتجاوزات إيران ضد معارضيها من كل الطوائف، وبالطبع جرائم نظام الأسد. هذا مع ملاحظة أن تجاوزات السنة تتولى كبر معظمها منظمات متطرفة معزولة نسبياً ومطاردة من دولها في الغالب، بينما شكاوى السنة هي من الحكومات والجهات الشيعية المتنفذة، وهو أخطر بكثير.

هذه البداية ضرورية، لأنه لا يعقل أن يجلس بعض العلماء وأهل الفكر في قاعة للتداول حول ما يوحد المسلمين، بينما المشهد خارج القاعة هو مشهد تقاتل وتذابح. فلا بد أولاً أن يثبت المتحاورون أن لديهم ما يكفي من النفوذ لإسكات صوت العنف، وأن تكون لهم الإرادة لاستخدام ذلك النفوذ. أما أن يأتي القوم إلى اللقاء وكل منهم يجتهد في تبرير الجرائم المنسوبة إلى طائفته، بينما يجأر بالشكوى مما فعله الآخرون، فإن هذا لا يزيد على كونه استمرارا للحرب والنزاع بوجه آخر، لا جهداً لتحقيق الوفاق والسلام.

لقد شهدنا هذا المسلسل في قمة أزمة العراق، حين كان البعض يبرر أشنع الجرائم ضد الأبرياء باسم مقاومة الاحتلال، بما في ذلك نسف المصلين الصائمين في المساجد في رمضان، بينما يبرر آخرون جرائم مماثلة بدعوى مكافحة الإرهاب. ولم يكن الاحتلال وقتها سوى عرض من أعراض المرض، وهاهو الاحتلال قد ذهب أو كاد، والأزمة تتعمق بدلاً من أن تقترب من الحل. وإنما كانت الأزمة، ولا تزال، في أن استعداد البعض للتعاون مع كل شياطين العالم من أجل مصلحة ضيقة وهدف قصير الأجل. ولو أن هذا البعض رضي التعاون مع أخيه في الوطن لما كانت هناك حاجة للاستعانة بالأجانب، ولما كانت هناك حاجة لعقد مؤتمرات لتبرير الإجرام والتجاوزات.

الآن نشهد الوضع نفسه في سورية، حيث لا تسمح ممارسات النظام السوري الإجرامية بإشاعة جو يساعد على الحوار، خاصة مع الانحياز الفاضح من قبل البعض إلى المسلك السوري الإجرامي بصورة لا يمكن قبولها أو تبريرها. فالنظام السوري نظام علماني معادٍ للدين، ولا ينتمي إلى مدرسة شيعية معترف بها. فلا يمكن أن تكون هناك منطلقات دينية أو عقيدية لدعمه، ولو كانت لانطبق عليها مقتضى الآية القرآنية: ‘قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين’. فإن أي منطلق مذهبي يدعم ما يقوم به النظام السوري من جرائم (تبدأ من قتل الأبرياء بالجملة وهدم المدن بكاملها على رؤوس ساكنيها، ولا تنتهي بتعذيب وقتل الأطفال والتمثيل بجثثهم والإغتصاب والتهجير الجماعي والإذلال والاستهتار العلني بالدين ورموزه)، أقول أي منطلق يدعم مثل هذه الممارسات غير المبررة إطلاقاً وتحت أي ظرف، هو بلا شك ضلال مبين، يحكم على نفسه بالبطلان.

إن الأولوية في أي محاولات للوفاق وإصلاح ذات البين هي لوقف العدوان باليد ثم العدوان باللسان، حتى يتهيأ الجو للحوار والتقارب وتجاوز الخلافات. ولا يستقيم حوار والطرف الآخر يقذفك بالصواريخ أو يعتقل ويعذب أسرتك، وينتهك الأعراض والحرمات. ولهذا جاء في القرآن: ‘وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين’. فمقتضى الإصلاح ومبتداه هو وقف القتال والعدوان. وتعتبر الفئة التي ترفض وقف القتال والعدوان باغية ينبغي على الجميع ردعها بالقوة عن غيها حتى تمتثل، ثم بعد ذلك يأتي الإصلاح بالعدل، أي بإعطاء كل ذي حق حقه.

ولا يكون العدوان بالقتل فقط، فكون النظام في البحرين لا يقتل الناس بالجملة كل يوم لا ينفي أنه معتدٍ سلب الناس حقوقهم وحرياتهم. وبنفس القدر فإن عدوان النظام الأسدي على أهل سورية لم يبدأ يوم شرع في تعذيب وقتل أهل درعا بالجملة، ولا حتى عندما سوى حماة بالأرض وقتل عشرات الآلاف من أهلها عام 1982.

فالنظام معتد منذ أن وصل إلى السلطة بفوهة البندقية، وينطبق ذلك على كل نظام آخر وصل إلى السلطة على ظهر دبابة، سواء أكانت دبابة وطنية مغتصبة، أو دبابة أجنبية غازية محتلة. ولا بد لرد العدوان من أن يرد الأمر إلى أهله عبر توافق بين فئات المجتمع على أسس ومناهج الحكم وآليات التداول عليه. وينطبق هذا الأمر على العراق وسورية، كما ينطبق على البحرين والسودان وكل الدول التي تعاني من اغتصاب السلطة.

خلاصة الأمر هي إذن أن منطلقات الحوار وتقريب الشقة بين جماعات الأمة وفرقها لا بد أن تنطلق أولاً من وقف العدوان، وثانياً أن تبدأ في كل بلد على حدة، وأخيراً لا بد أن تقوم على مبادئ أخلاقية صحيحة. ففي العراق مثلاً، نجد بعض المجموعات بدأت بالاستعانة بالأمريكان والإيرانيين، ولا نعني هنا الاستعانة الدبلوماسية، وإنما بالقوة والبطش، حتى تحكم قبضتها على السلطة هناك. ثم زادت فتحالفت مع الأكراد ضد السنة العرب، وهي أخيراً تلجأ إلى الجامعة العربية لدعم تفردها بالأمر. كل هذا للتهرب من استحقاقات التوافق مع الإخوة في الوطن، ولممارسة القهر في حقهم. ولكن هاهم الأمريكان قد رحلوا والأكراد لم يعودوا راضين بنصيبهم من الصفقة، وإيران تنتظر مصيراً مجهولاً بين انتفاضة الداخل وحصار الخارج. وهذا يؤكد أنه لا مهرب من الحوار إلى إليه. ولو أن القوم جلسوا إلى بعضهم البعض وتوصلوا إلى إصلاح ذات البين بالقسط، لما احتاجوا إلى كل هذا اللف والدوران، والطواف بين طهران وواشنطن واربيل والقاهرة، بلا ضرورة ولا طائل.

الأمر نفسه ينطبق على بقية البلدان العربية المأزومة. فالبعض يسافر إلى الصين وروسيا طلباً للعون في قتل إخوانه وتدمير بلاده، وكان الأولى به أن يأتمر مع إخوانه في الوطن على البر والتقوى، بدل الائتمار مع الأباعد على البغي والعدوان. وفي غياب هذا فإن أي حوار لا بد أن يحيل مجدداً إلى هذا المنهج، لأن أي حوار وتوافق بين المسلمين لا بد أن يفضي إلى التوافق على مبادئ الدين الحق، وأدناه مراعاة حرمات النفس والعرض والمال. ولا يمكن أن يكون هناك توافق بين أهل ملة الحق على البغي والعدوان وتأييد الطغاة، وإلا أصبحت ملة باطل لا حق فيه.

‘ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى